طاهر أبو فاشا راهب الليل وعاشق ليالي الحُسين
كتبت - د. عزة بدر
تعطر ديوان الشعر العربي بقصائد طاهر أبوفاشا " 22 ديسمبر 1908 – 12 مايو 1989 "، وفى ذكرى وفاته التاسعة والعشرين نحتفل بأشعاره، وبما قدمه للمكتبة العربية من دواوين شعرية منها: "صورة الشباب"، و"الأشواق"، و"القيثارة السارية"، و"دموع لا تجف و"الليالى"، وقدم الشاعر خليل مطران لأحد دواوينه الأولى، وهو ديوان "أشواك"، ولطاهر أبو فاشا كتب مهمة منها: "الذين أدركتهم حرفة الأدب"، وهز القحوف في
شرح قصيدة أبى شادوف"، و"وراء تمثال الحرية" من أدب الرحلة، كما كانت لشاعرنا إبداعات في مجالات عدة منها برامجه الإذاعية الشهيرة ومنها حلقات "ليالي ألف ليلة وليلة"، وأوبريت "أفراح النيل" الذي لحنه محمود الشريف، وسلسلة "أعياد الحصاد"، وهي صور غنائية.
ويعد ديوانه " راهب الليل " الذي صدر عام 1983 هو الأقرب إلى قلوب محبيه فقد نشر فيه العديد من القصائد الدينية وقد تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم.
ولطاهر أبو فاشا أيضا كتاب عن العشق الإلهي، نشر فيه مسرحية له عن رابعة العدوية بعنوان "شهيدة العشق الإلهي".
وقد تذوق شاعرنا فيوض الشعر الصوفي عند رابعة العدوية، وابن عربي، والحلاج، وابن الفارض سلطان العاشقين، وكتب عنهم جميعا في هذا الكتاب، وقد فاضت نفسه، وشفت لاستقبال تجربته هو الخاصة في تذوق حلاوة هذه المشاعر الإيمانية السامية، ويشعر بها كل من يرد مورده العذب، وديوانه الخصب "راهب الليل" الذي يقول في إحدى قصائده في دعاء جميل:
"خلوت إليك يا ربى
وقلت عساك تقبلني
فمالي أرى ذنبي وأيامى تطاردني
مددت يدي
فخذ بيدي
إليك ومنك يا رباه"
والقارئ لهذا الديوان يقترب من الفيوض النورانية التي تأثر بها أبو فاشا من قصائد رابعة العدوية حتى أنه يُضمن أبياتها الشعرية في قصيدة له فتصبح من نسيج قصيدته – وتأتى أبيات رابعة بين الأقواس – فيقول في قصيدة بعنوان: "أحبك حبين":
عرفت الهوى مذ عرفت هواكا
وأغلقتُ قلبي عمن عداكا
وقمت أناجيك يا من ترى
خفايا القلوب ولسنا نراكا
(أحبك حبين: حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشُغلى بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لى الحُجْب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا).
ثم ينتقل الشاعر من هذا النسيج المُضفر بين مطلع شعرى له ثم تضمين أبيات شعرية لرابعة العدوية فتبدو القصيدة كما لو كانت منسوجة شعرية واحدة، صَفتْ لها بساطة التعبير، وعذوبة الكلمات وكلها مقطوفة من أشواق من ذاقوا فعرفوا حلاوة الحب الإلهي، وحدائق من متعة روحية خالصة بدأتها رابعة "أحبك حُبين"، واستلهم نهجها شاعرنا فقال "وأشتاق شوقين"
إلى هذا الحد بلغ تأثر شاعرنا بهذا الوهج الصوفى، وهذا التشوق للتقرب إلى الله لا خوفا وإنما شوقا إليه سبحانه.
فيقول الشاعر:
وأشتاق شوقين: شوق النوى
وشوقا لقرب الخُطى من حماكا
فأما الذي هو شوق النوى
فمسرى الدموع لطول نواكا
وأما اشتياقي لقُرب الحمى
فنار حياة خَبَت في ضياكا
ثم يبدع الشاعر بيته الشعرى المتفرد بين مقام الوجد، ومقام الشوق، وقد تلبسته درجات من التسليم والرضا والشجو، وهي ملامح من دنيا الصوفية فتتكشف له حُجُب فتصفو روحه، وتصبو نفسه إلى عوالم ثرة عارفة فيقول:
"ولستُ على الشجو أشكو الهوى
رضيتُ بما شئت لى في هواكا".
في طريق الشوق ومقام الوجد
وتبدو قصائد شاعرنا التي غنتها أم كلثوم، وبعضها من تلحين رياض السنباطى، وبعضها من تلحين محمد الموجى، وأخرى من ألحان كمال الطويل قصائد وثيقة الصلة بأرواحنا تصلنا بهذا العالم الصوفى الرحب، وتتدفق معها مشاعرنا فإذا غنت أم كلثوم من كلمات شاعرنا:
"أوقدوا الشموع انقروا الدفوف
موكب العروس في السما يطوف
والمُنى قطوف
انقروا الدفوف"
ترددت في سمعنا موسيقات عذبة، تصل الفن بالروح، والموسيقى بالشعر بهذا الإنشاد وهو يهيئ لنا شاطئا للحياة يرى فيه الغريب أوان عودته من غربته، وموعدا لأوبته، ولحظة للنجاة، وانظر لأبياته فكأنك تراها وتراك، تسمعك صوتها بنغم فرح كأنه روح تُزف إلى جسدها بعد غياب أو كما يقول العامة "ردت فيه الروح".
أو روح أخرى عادت راضية مرضية إلى خالقها فيقول الشاعر وكأنه يصف رحلة حياة لا تخص رابعة العدوية فقط وإنما هي رحلة كل روح شفت، وأخلصت التعبد لله، مسافرة إليه حُبا وإيمانا وشوقا.
" الرضا والنور، والصبايا الحور
والهوى يدور
آن للغريب أن يرى حماه
يومه القريب شاطئ الحياة
والمُنى قطوف
في السما تطوف
انقروا الدفوف"
ويصف شاعرنا تلك الرحلة الروحية لعابد يكابد شوقه مسافرا إلى الله، وأول الطريق هو منتهاه شوقا وإيناسا وتطلعا لرضا مولاه فتبلغ القصيدة ذروتها الفنية، والروحية معا، وتتبدى لنا النفس الإنسانية لائذة بنور، وقطوف من الرضا والاطمئنان، والوقوف في سكينة على باب الله، والامتثال للتجربة الروحية في مناجاة عذبة يقول فيها الشاعر:
"ياحبيب الروح.. تائه مجروح
كله جروح
لائذ بالباب شوقه دعاه
والرضا رحاب يشمل العُفاة
والمُنى قطوف
فى السما تطوف
أنقروا الدفوف
طاف بالسلام.. طائف السلام
يوقظ النيام
عهده الوثيق واحة النجاة
أول الطريق هو منتهاه
والمُنى قطوف
فى السما تطوف
أنقروا الدفوف".
أحوال ومقامات
والمقام مجاهدة ورياضة وسعى وعمل واكتساب، والحال فهو معنى يردُ على القلب مثل الحزن والشوق والطرب والأنس، ولهذا قالوا
"الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب"، وتتوهج أشعار الصوفية بأحوال المحبة كما يقول طاهر أبو فاشا وقد انحاز هو للصوف
بمعناها الإيجابي فيقول في مقدمة كتابه "العشق الإلهي":
"إذا وصلت إلى الحقيقة عن طريق عقلك فأنت فيلسوف أو متفلسف، وإذا وصلت إلى الحقيقة عن طريق قلبك فأنت صوفى أو متصوف".
ومن هنا كان تأثر شاعرنا بالصوفية والصوفيين من خلال أشعارهم ورموزهم، وكان رائده في هذا - أبو الفيض - ذو النون المصري فيراه طاهر أبو فاشا من الذين سبقوا إلى تأصيل المنهج الروحي فهو من أوائل من تكلموا عن المقامات والأحوال ، وكان ذو النون المصري يقول:
"إن بين الرب والعبد حبا متبادلا، ومن ذاق الحب الإلهي عرف"..
ولاريب أن شاعرنا قد تأثر بأشعار المتصوفة وأحوالهم في عالمه الشعرى، وخاصة في ديوانه "راهب الليل"، وبخاصة بأشعار رابعة العدوية وهو يقول في كتابه "العشق الإلهي".
"في سماء الحياة الروحية ظهرت أقمار مثل السيدة رابعة العدوية التي كانت بحق نغمة متقدمة من أنغام العشق الإلهي الذي تردد بعد ذلك في أشعار سلطان العارفين "ابن عربي"، وفى أشعار سلطان العاشقين "ابن الفارض"، وفى أشعار السهروردى الحكيم الإشراقى يحىى بن حبش ممن عرفوا الأذواق، وخاضوا بحار الأشواق ، وساروا على الطريق فكانت مجاهدتهم جسرا إلى الحقيقة التي يهتدون إليها بما ورد في الشرع ثم بقلوبهم وأرواحهم أكثر من عقولهم"..
وقد أبحر شاعرنا في العالم الروحي للصوفية وخاصة حياة وأشعار رابعة العدوية اتصالا بعالمها الروحي سواء بالتماهى معه أو التضمين من أبياتها في شعره، ومن ذلك قصيدته " يقولون لى غنى "من ديوانه راهب الليل – وهي القصيدة التي غنتها كوكب الشرق، ولحنها كمال الطويل – فيقول شاعرنا:
"غريب على باب الرجاء طريح
يناديك موصول الجوى وينوح
يهون عذاب الجسم والروح سالم
فكيف وروح المستهام جروح
وليس الذي يشكو الصبابة عاشقا
وما كل باك في الغرام قريح
يقولون لى غنى وبالقلب لوعة
أغنى بها في خلوتى وأنوح".
رموز شعرية وصوفية
وكما أن للصوفية أفكارها ورموزها فهي طريق الزهد، وضرب في طريق الرياضة الروحية
فإن في أشعارهم ما يشبه الغزل مثل قول الشيخ الرئيس ابن سينا في بيته الشعرى الشهير يقول "هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع"
فالورقاء هنا كما يقول شاعرنا: هي رمز للنفس الإنسانية التي هبطت من عالم الروح الأعلى إلى عالم الأرض.
ولتفهم هذه الرموز التي يستخدمها الصوفيون في أشعارهم لابد من التعرف على مفهوم العشق الإلهي فهو نزوع الروح إلى الروح الأكبر الذي منه المبتدى وإليه المنتهى - وقد أورد هذا المفهوم داوود الأنطاكى في كتابه " تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق " ونقل عنه طاهر أبو فاشا في كتابه "العشق الإلهي" – وأوضح هذه الفكرة عبد الوهاب عزام في كتابه "فريد الدين العطار المؤرخ الصوفي الكبير" الذي يقرر في نصوصه "أن روح الإنسان من روح الله"، وكذلك يرى الصوفية استنادا إلى آية في القرآن الكريم هذا نصها:
"فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين".( آية 29 من سورة الحِجْر )
وهو ما قد يفسر بعض القصائد التي استلهمت الرؤية الصوفية ومنها قول طاهر أبو فاشا في قصيدته "يقولون لى غنى":
"ولى في طريق الشوق والليل هائم
ولى في مقام الوجد حال ولوعة
معالم تخفى تارة وتلوح
ودمع إداري في الهوى ويبوح
وأنت وجودى في شهودى وغيبتى
وسرك نور النور أو هو روح ".
وكذلك قوله: " ياحبيب الروح.. تائه مجروح
كله جروح
لائذ بالباب شوقه دعاه
والرضا رحاب يشمل العُفاة
والمنى قطوف
فى السما تطوف".
ولابد من الإشارة إلى أن بعض رموز الصوفية في أشعارهم قد اعتبرها أهل الظاهر وبعض الفقهاء والمتكلمين "شطحات" فقامت بينهم وبين المتصوفة صراعات عديدة منذ القرن الثالث الهجري، وأوذى كثير من أعلام الصوفية، واستشهد بعضهم.
ليالي الحُسين
ومن أجمل الأبيات الشعرية لطاهر أبو فاشا بيتين يصف فيهما ليالي الحُسين، حيث يبثها أشواقه لمعانقة الوجود من خلال فرحته بها، وتجدده بها لما تحمله من إيناس ورغاب في اكتشاف هذه العوالم الروحية التي كان يصبو إليها شاعرنا ويتطلع إليها فيقول في ديوانه "راهب الليل".
"يا ليالى الحُسين أعيدى بسمة الدهر واخطري من جديد
نحن في شاطىء الحياة حيارى قد أقمنا على ضفاف الوجود".
رحم الله شاعرنا طاهر أبو فاشا راهب الليل وعاشق ليالي الحُسين..



