الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

قِسم البنفسج

قِسم البنفسج
قِسم البنفسج
كتبت - د. عزة بدر

قراءة في رواية

 

تأتى هذه الرواية "قِسم البنفسج" للروائي الأردني جمال القيسي، لتكون واحدة من عدة أعمال مهمة تناقش أحوال المريض النفسي، وتنتصر لإنسانية التغلب على الألم، وفداحة ما قد يصيب الروح من اغتراب في عالم متشظ، وضعف الإنسان وهشاشته أمام قساوة الأحداث، والضغوط .

ومن أهم الروايات العالمية التي عالجت أمراض النفس البشرية رواية " فيرونيكا تقرر أن تموت " لباولو كويلو، وهى قصة فتاة تجد نفسها في مصحة للمرضى النفسيين، ورواية "أحدهم طار فوق عش الوقواق" عن رواية كين كيسى، وقد تحولت لفيلم سينمائي بالعنوان نفسه، وبطلها يحاول الفرار من جريمة ارتكبها بادعاء المرض النفسي، وتدور أحداثها في مشفى لمعالجة تلك الأمراض .

وتأتى رواية "قِسم البنفسج" لجمال القيسي والتي تتناول قصة مثقف عربي تعرض لكثير من الضغوط النفسية، بعد ما كابده من معاناة فالخال الفلسطيني يتعرض للضرب أمام أخواته، وأمه تصرخ في جندي من جنود الاحتلال الإسرائيلي "هذى بلدي، وبلد جد جد جدي".

ذلك الحدث المؤثر في نفس الصبى فارس الذى هز الحادث شجرة روحه الصغيرة بعنف، ومن هنا بدأت معاناته فأراد العمل بالسياسة ومارسها من خلال المظاهرات في الجامعة والهتاف ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويصف الكاتب مظاهرات مخيم الوحدات أكبر مخيم للجوء الفلسطيني في الأردن، وما حدث فيه من مظاهرات احتجاجية بعد مجزرة "عيون قارة".

ويرسم الروائي الخيوط النفسية التي تؤدى بالبطل إلى مستشفى الأمراض النفسية فها هو يفقد أمه مصدر الحنان والدفء والدعم، ويتعرض للظلم والاضطهاد من أقرب الناس إليه من عمه بسبب ترشحه أمامه في انتخابات البرلمان ، العم صاحب السلطة والقسوة،  والذى حاك مؤامرة يحاول الإبقاء فيها على ابن أخيه فارس للأبد في المشفى  النفسي الإحساس بالصدمة النفسية والأحداث غير المتوقعة من المقربين هي من أهم ما يزلزل النفس الإنسانية ، ولعل هذا يذكرنا بمذكرات الأديبة مي زيادة عن الليالي التي قضتها في مستشفى العصفورية بلبنان إثر تعرضها لاضطهاد ابن عمها الذى أراد الاستيلاء على أملاكها فاحتال حتى أودعها وهي الأديبة البارعة الذكية الفؤاد النابهة في مشفى الأمراض النفسية ، وقد أخرج هذه المذكرات حديثا الأديب الجزائري واسيني الأعرج بعنوان "ليالي القسوة والألم، ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " .

أما فارس بطل رواية " قسم البنفسج " فيزج به العم فى المستشفى لأنه تجرأ وترشح أمامه فى الانتخابات , وأوهم زوجته " أمل " أنه تنازل عن الترشح مقابل المال وسيسافر إلى الخارج ليعالج ويستريح من قصة الانتخابات. 

وأنه سيرسل لها من هناك، وأخذ توقيعها بالموافقة على خروج فارس من قسم البنفسج وهو قسم خاص بعلاج الأمراض النفسية بمستشفى الرشيد وهو أول مستشفى متخصصة في ذلك، وتم افتتاحها عام 1996 في الأردن، ويستقبل قسم البنفسج حالات الاكتئاب الحاد واضطراب المزاج الثنائي القطب والإدمان، وتوجد أقسام أخرى بأسماء أخرى مثل الزنبق والسوسن حسب تصنيف المرض وهناك جناح الياسمين وهو خاص بالنساء، أما القسم القضائي فهو خاص بمرضى الاضطرابات النفسية من مرتكبي الجرائم الخطيرة الذين ثبت لمحكمة الجنايات الكبرى بتقرير لجنة طبية أنهم لم يكونوا مدركين كنه أفعالهم وأقوالهم وقت ارتكاب الجريمة (كما يذكر المؤلف في هوامش الرواية التي اهتمت بالمعلوماتية والتوثيق عن مجال الأمراض النفسية وطرق علاجها، وأدويتها).

التسلسل الروائي

يأخذك الكاتب لتتلمس مأساة فارس من أحزان فقد الأحباب، لإحساسه بالظلم، لأحداث شخصية وأخرى عامة: مآسي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ومآس أخرى مثل ما أحدثه احتلال بلد عربي لآخر (احتلال العراق للكويت)، وما نتج عنه من جروح في الوجدان العربي، ثم الغزو الأمريكي للعراق واحتلالها وما تعرض له العراقيون من قسوة الاحتلال ومن تدمير ثروات البلاد ، وما صاحب كل ذلك من إحساس المثقف العربي بالأزمة فبدلا من مواجهة المحتل يصير هذا التمزق العربي مجالا تستثمره قوى كبرى، فارس مثقف عربي هزه كل ما حدث فأصبح محاصرا بمأساته الداخلية  فقد الأم ، تعرض الخال للضرب من جندي الاحتلال، اضطهاد العم وجبروته، ومأساة خارجية تمثلت فيما يحدث في مجتمعه المحلي من فساد جعل العم يفوز في الانتخابات بالتدليس وإحكام المؤامرات ضد غيره من المرشحين وأولهم ابن أخيه فارس ومأساة خارجية تمس أوتار نفسه كإنسان عربي مثل مآسي الاحتلال، والمذابح التي يعانى منها الفلسطينيون، فارس الذى أصبح نسيجه النفسي مشوشا، ومضطربا، وهناك بالمشفى تبدو مآس أخرى لأولئك الذين تعرضوا لضغوط نفسية أصابتهم بالاكتئاب، وآخرون احتالوا للدخول للمشفى بترتيب وتخطيط مسبق للهروب من جرائم ارتكبوها ومنهم الدكتور ميشيل الذى قتل زوجته بسبب خيانتها وتعدد علاقاتها، وتمضى الرواية مع كل شخصية لتبرز دواخلها والعوامل التي أدت إلى انهيارها النفسي فتصور الرواية تفاصيل الإصابة التي تضرب العقل، وتؤثر في المشاعر، وتتحرك الشخصيات أمامك لتكشف عن ذواتها بمهارة، فارس، ود. ميشيل الذى كان طبيبا نفسيا ويصف بالتفاصيل الدقيقة كيف استطاع إيهام الجميع بأنه مريض لينجو من حكم الإعدام .

 

لغة تلغرافية

التشويق عنصر أساسي من عناصر هذه الرواية فالجميع يساعد فارس ليهرب من قدره ومصيره الذى كاد أن ينتهي إلى الأبد في هذا المشفى، دكتور ميشيل يعالجه من توتره ورعشة يديه واضطراب مزاجه وأحد النزلاء يتطوع لتهريبه في يوم الزيارة، وبعض الممرضين الذين يرتكبون أي مخالفة في سبيل الحصول على المال، ومن خلال هذا السياق يعرض الروائي إلى كثير من أساليب العلاج التي تؤذي المريض النفسي وتؤخر شفاءه مثل استخدم أسلوب الثواب والعقاب كالحرمان من رؤية التلفزيون فيمتثل المرضى خوفا من العقاب النفسي أو البدني أو الحرمان من العلاج ، ويستطيع الروائي أن يحكم النسج فنجد أنفسنا أمام مشاهد إنسانية عميقة يؤججها السرد بلغة سريعة تلغرافية ناقلة للحدث حينا وأخرى مستفيضة عميقة مواراة بالمشاعر حين يعرض لمشاعر فارس الجارفة تجاه أمل زوجته وتعاطفه معها فهي التي تحملته طول الوقت حبا وإخلاصا، ومشاعره تجاه صغيريه اللذين لم يرهما بسبب وجوده في المشفى، ولدا وهو فيها وقد رزق بهما  بعد ما ترك زوجه حاملا  ودخل المشفى، وكانت زوجته  تعانى من عدم الإنجاب، أما هو فقد كان يشعر بالعطش لإحساس الأبوة الجارف. 

 

مشاهد مؤثرة

ومن أهم المشاهد المؤثرة والإنسانية في الرواية، مشهد تعاطف النزلاء والمرضى النفسيين مع فارس عندما تذكر أمكنة في وطنه عمان، وأجهش بالبكاء عندما تذكر أمه فبادلوه شعورا بشعور، وحزنا بحزن في مشهد مؤثر عميق يصفه الكاتب لغة وتصاوير: "ألهبت مشاعري الموسيقى، وأوجعني صوت فيروز، ومسنى شوق عارم لرؤية عمان " عمان في القلب.. أنت الجمر والجاه.. ببالي عودي مُرى مثلما الآه"، صور عمان في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تتوالى على الشاشة لعدة ثوان ثم تكتسى الصور بالألوان مع انطلاق شدو فيروز، جبال عمان، شوارعها، جسورها الصغيرة المدرج الروماني، طائرة ورقية ، الكنائس والمساجد المتجاورة، حركة السيارات والسابلة في وسط البلد، سنابل قمح ، أزهار بنفسج، الجامعة الأردنية ، قباب الجامعة عند البوابة، حرقت دموعي وجهي وكتمت نشيجي، بقيت أتابع كاتما نيران الألم في قلبي انتشار حبر أسود على منديل أبيض عند تلك اللحظة الشعورية تماما تضرعت فيروز لعمان بالنجوى "آوى إليك أنا حتى لتحبسني يداك كطفل نادى الطفل أماه" – كلمات الأغنية لسعيد عقل .

وقف فارس صارخا آااه يمه فجفل الجميع أرعبتهم صرخته، ونهض أبو وديع وعانقه طويلا مربتا على كتفه ثم توالى عناق النزلاء الآخرين يعزونه بمشاعر مرهفة رقيقة وهم يمسحون دموعهم الغزيرة ويدعون لأمه بصدق وتأثر .

أي عالم قاس دفع بهؤلاء البشر الأنقياء مرهفي المشاعر إلى ذلك المشفى؟ وأي قساة تبدو خارجها مكتملي الأهلية، مدججين بالشهرة والمنعة والقوة، كالعم الفاسد الذى فقد إنسانيته وأراد التخلص من ابن أخيه للأبد في المشفى .

الحياة ليست عادلة دائما لكنك لا بد أن تشعر أنك بخير أو على ما يرام، أهكذا أرادت هذه الرواية الإنسانية أن تقول من خلال مبنى ومعنى، وبناء فنى محكم من خلال بناء هرمى بدأ من حياة فارس وتدرجها ، وتطوره النفسي والشعوري والذي اصطحب القارئ معه في رحلة نفسية باذخة التفاصيل ، وافرة  التصاوير، ثم الشخصيات التي ظهرت في تسلسل الرواية من البيت إلى الجامعة إلى التخرج، وتصوير العائلة والطموحات والحب لإنسان طبيعي مفعم بحب الحياة هو فارس الذى حوّله الألم والظلم إلى رحلة من المعاناة المُرة في دروب الحياة وفى المشفى الذى وجد فيه قلوبا أحن، ومشاعر أرقى ، وجد الدمع دمعا وليس ماء، والشعور صدقا وليس ادعاء، قابل هذه النماذج الإنسانية التي قست عليها الحياة والأحياء، أو تواشجت في حيواتهم عوامل الألم والصراع ووطأة الضغوط فأصبحوا فيما هم فيه من مشاعر مضطربة وبنيان نفسى هش .

هذه الرواية تخاطب المشاعر الإنسانية في أرقى مستوى، وتضع أيدينا على ألم الإنسان في لحظات ضعفه وشقائه، وتلك هي مهمة الأدب الأولى أن يفتش عن الإنسان في أعماق أعماقه حيث " القريب مسافة، والبعيد مسافة، والقريب البعيد بلا مسافة"، وحيث لا بد أن يعامل الناس بما يملكونه من إنسانية لا بمقدار ما يملكونه من مال .

جمال القيسي روائي أردني، يعمل محاميا، وقد صدر له من قبل في مجال الرواية: "الخيط الأسود"، وفى مجال القصة القصيرة: "ليل أبيض"، و"كلام خطير"، و"شرفة أرملة"، وتعد روايته "قِسم البنفسج" أحدث أعماله الإبداعية .

تم نسخ الرابط