الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

رمضان زين الزمان ( 11)

رمضان زين الزمان
رمضان زين الزمان ( 11)
كتب - د. عزة بدر

سبحة من ريحة الحُسين

من أشهر أغنيات رمضان التي سحرت وجدان سامعيها، وعاشت في خيالنا في طفولتنا، ولا تزال تتردد أصداؤها العذبة كلما هل علينا رمضان، أغنية "سبحة رمضان " من كلمات الشاعرة نبيلة قنديل، ومن ألحان الموسيقار على إسماعيل، وتقول كلماتها: " سبحة رمضان لولى ومرجان بتلاتة وتلاتين حباية / الله الله الله / منهم تلاتين / أيام رمضان نور وهداية / وتلاتة العيد / ونقول ونعيد / ذِكر الرحمن آية بآية / الله الله الله / أيام رمضان رحمة وغفران / ورضا الرحمن وحده كفاية / الله الله الله ".

كنت أحب السبح في طفولتى ولاأزال، كنت أرقب حباتها في يد أبى، وجدى، وجدتى، وأتخيل أن بلمسة منها يتحقق سحر الحلم والطمأنينة، كانت أقربهن إلى قلبى سبحة " نور الصباح ", تلك التي كنا نطفئ الأنوار ونظلل عليها بأيدينا فتضوىء بلون أخضر ساحر، كان الضوء يموج بين أيدينا في حبات كحبات العنب، كنت أعشقها، كانت رحلة الضوء والظل في الأيدي تستهويني ونحن ننقلها من يد إلى يد, وكان في بيتنا أشكال وأنواع من السبح، ربما في كل ركن فتعلقت بها، بل كنت أراها  بحبات كبيرة معلقة على حوائط بيتنا، مرة من زجاج، ومرة من سيراميك، وهي في كل مرة زرقاء، كنت أحب لونها الذي يشبه زرقة البحر، ولون الفيروز أتطلع إليها بحب، وأتأمل صنعتها، وطابع صانعها، وما يسبغ عليها من روحه من فن وإتقان.، ومن أشهر محلات السبح تلك التي زرتها في حى الُحسين في تسعينيات القرن الماضى، إذ كانت لى هواية أن أطالع الاحتفالات بالشهر الكريم، وأسجلها في صور قلمية حيث تنشر في مجلة صباح الخير، كان ذلك من طقوس الشهر الكريم يبدأ فإذ بى من السيدة لسيدنا الحُسين.

 تنتشر محلات السبح في حي الحُسين، وفي حى خان الخليلى، وتتعدد ورش إنتاجها أيضا، تتجاور السبح المصنوعة باليد، والتي عكف عليها عمال مهرة، مع السبح المستوردة من الصين وتايوان واليابان وسورية وتركيا.

وعدد حبات المسبحة منذ أن شاع استخدامها إلى اليوم تتكون من 99 حبة، ويرتبط ذلك بأسماء الله الحسنى، وهي تسعة وتسعين اسما

مما يساعد المرء في التسبيح، وتشتمل هذه السبحة على ثلاث مجموعات يبلغ عددها 33 حبة، يفصلها عن بعض قطعتا الفواصل، ومضاف إليها المنارة أو المئذنة، وهناك المسبحة الثلثية، وعدد حباتها 33 حبة مضافا إليها ملحقاتها قطعتا الفواصل، والمنارة ليكون عدد قطعها 36 قطعة، وهي النوع الأكثر شيوعا.

سبح زمان

أمام مسجد الحسين تقع أشهر محلات السبح، أكثر من محل كُتبت عليه لافتة تقول بأن صاحبه "ملك السبح"، والسبح كما يقول بائعوها أنواع.. " سبح شعبي"، و"سبح ذوات"، و"سبح ملوكي ". "

ومن أشهر أنواع السبح الشعبية سبحة " نور الصباح " تلك التي أحببتها في طفولتى، وهي تُصنع من البلاستيك ويُضاف إليها مادة فسفورية تنير في الظلام، والسبح الشعبية كانت تبدأ أسعارها حينذاك من جنيه إلى أربعة جنيهات، وكانت صناعة السبح أيام زمان تتم يدويًا بمخرطة وقوس وفتلة وغراب! هكذا قال لى عم حسن الماوردي، وهو يُسرح البصر إلى البعيد ثم حطت عيناه كطائر على باب الحُسين: " كانت أيام رمضان ولا تزال في الحُسين مشهورة حيث يأتي الناس من أقاصي الصعيد وريف مصر لزيارة المقام ويترددون على سرادقات المداحين الذين يمتدحون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يشترون السبح والبخور بركة من سيدنا الحُسين، وكان يأتي إلى هذه السرادقات زمان كبار المغنين مثل محمد عبدالمطلب فيشدو برائعته "رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه، أهلا رمضان ".

وكان يأتي أيضا محمد رشدي ويغني أحلى أغانيه.. كانت أيام حلوة                                              

 سبح من خبز وعطور

يتوارث أبناء العاملين صناعة السبح كما قال لى عم حسن الماوردي، ولداه أيضا كانا يعملان معه في عالم السبح، وقال لى ابنه حسين الماوردي مستكملا حديث أبيه: "سبح زمان كانت تصنع من نوى الزيتون ونوى البلح، وكلاهما تصبح ناعمة جدا في اليد من كثرة التسبيح، والسبح المصنوعة من نوى البلح ترسل لنا بالدستة من السعودية وهي مع الوقت تتميز بلون أحمر يميل إلى اللون العنابي وهناك سبح تأتي من كربلاء العراق وهي من الفخار ويُقال أنها تصبح في لون الدم في ذكرى استشهاد الحُسين، وهناك سبح من عجين وعطور وهي تصنع من الدقيق والعطور والصمغ، وهناك سبح من "خرج النجف"، وسبح من الخبز المحروق فسألته عنها فقال إنها تصنع في السجون.

 

سبحة سيدي على الخواص

والسبحة هي خير هدية في شهر رمضان وفي موسم الحج والعمرة وهي مواسم لبيع السبح، وعم حسن الماوردي في رمضان كان قد تعود أن يعمل من الساعة التاسعة صباحًا حتى وقت الإفطار، ومن بعد تناوله يفتح المحل من جديد حتى السحور يُقلب سبحته بين يديه ويقول: "بين البيعة والتانية أصلي على النبي (صلى الله عليه وسلم) وأستغفر الله"، ومن أول الليل لآخره كان يقول الوِرْد ويعيده، أما ابنه حسين فقد نشأ وتربى في بيت يعشق جمال السبح وصناعتها فوجد نفسه يتبحر في عالم السبح وقال لى: "هناك سبح تخص آيات معينة من القرآن الكريم فالبسملة لها سبحة من 450 حبة، و" قل هو الله أحد " لها سبحة من 313 حبة، وحتى لضم السبحة له فن وطريقة، وأكثر ما يميز السبح ما يكون منهاعند أهل الطرق الصوفية فالطريقة الجيلانية تتميز بسبحة تبدأ باثنتى عشرة حبة ويعقبها ثلاث وثلاثون حبة ثم خمسون حبة حتى تكتمل المائة، والطريقة التيجانية لها سبحة تبدأ بثلاثةعشرحبة ويعقبها خمسون حبة وتلحقها خمسون أخرى ثم اثنتا عشرة حبة، أما الطريقة البرهانية فهي أيضا مائة حبة، ولها عدادان ومحبس، وهناك سبح تبلغ حباتها ألف حبة ولها عداد من أعلاها ومن جانبها ويبلغ عدد حباتهما معا عشرون ويستخدمها المتصوفة، ووصف لي عم حسن الماوردي أضخم سبحة رآها في حياته وقال لى: أ نها سبحة سيدي على الخواص وهي معلقة في مسجده، وطولها ثلاثة أمتار وبها مائة حبة من خشب وحباتها كبيرة الحجم  كما لو كانت برتقالا صغيرا "."

السبح بحرها كبير

أما حسين هاجر فقد عاش طفولته في الحُسين وكان يعشق سكة البادستان "خان الخليلي" حاليا حيث كان ولا يزال محل أبيه الذي اشتهر ببيع السبح فيقول: "السبح بحرها كبير" فسألته كيف؟!.. "عالم تاني.. سبح شعبي، وسبح ذواتي وأخرى ملوكي" فقلت: أ ما السبح الشعبية فأنا أعرفها فما السبح الذواتي وما الملوكي ؟.

قال: " السبح الذواتى عبارة عن أخشاب عطرية مثل السبح المصنوعة من اليُسر ومطعمة بالفضة، وهي سبحة كان يتراوح سعرها من 50 جنيها إلى 300 جنيه، وهناك سبحة من خشب الكوك، وكانت ب400 جنيه، أما سبح الملوك فهي من الماس أو الأحجار الكريمة وأسعارها ملوكى !.

وعلى سبيل المثال سبحة الملك فاروق كانت من الأحجار الكريمة المطعمة بالألماظ أما سبحة السادات فقد كانت من الأحجار الكريمة والمرجان، وسبحة عبدالناصر كانت من اليُسر، أما سبحة الشيخ متولي الشعراوي فقد كانت من الكوك، ثم يقول: "السبحة اليدوية في مصر مهددة بالانقراض لأنها تخضع لمنافسة شديدة من السبح المستوردة وخاصة السبح الصيني والتي لا يتجاوز سعر السبحة منها عشرة جنيهات، وهناك ألماظ صيني وكلها بأسعار بسيطة وشكل جميل، بالكمبيوتر والآلات الحديثة يصممون ويصنعون آلاف السبح بينما الصنايعي اليدوي يقوم بصناعة سبحة أو اثنتين أو حتى ثلاثة في يوم كامل حيث تمر السبحة اليدوية بمراحل عدة فترسم أولا ثم تخرم ثم تطعم وبعدها يتم تشطيبها ثم مراجعتها وآخر مرحلة هي تلميعها حيث تتراوح أجرة العامل اليومية حسب الإنتاج من ثلاثين جنيها إلى ستين جنيها وتنتج المصانع في بلدان جنوب شرق آسيا آلاف السبح بيسر وأناقة وتُباع في أسواقنا بجنيه!، مما لا يكفي أجر لضم سبحة واحدة يدوية ورغم ذلك يقول أن صناعة السبح اليدوية فن حقيقي لابد أن نفكر في كيفية الرقي به ليصمد أمام المنافسة.

سبحة عنبر.. سبحة ياسمين

أما عاطف رضا زكي فهو من محبي عالم السبحة، كان يقف في خميلة من السبح المعطرة، وكان قد فرد قماشا من قطيفة زرقاء فإذ بها سبح من فضة تتضوع بعطر الياسمين وأخرى تعطرت برائحة الفل، وقال: هذه صناعة سورية، وكان سعر الواحدة حينذاك بمائة وخمسين جنيهًا ثم أشار إلى سبحة من عنبر وقال لى.. إنها من الهند فقلت: بكم؟! فقال: بعشرة جنيهات.. ثم مال إلى زجاجة عطر فعطر بها كفه ثم التقط سبحة من خشب ومسحها بالعطر فلما قربتها من أنفي تضوعت بالعنبر فقال: ولكن هذا العطر يطير والبعض يبيعها على أنها من عنبر.. الغالي ثمنه فيه ثم أشار إلى سبحة تركية نقش على كل حبة فيها اسم الجلالة بماء الذهب وقال: هذه سبحة جميلة ومطلوبة 100 حبة تعمل مليون تسبيحة.

سبح الفراعنة عقود

والسُبح تجمع بضم السين "سُبح" وهي مشتقة من الإصبع "السباحة" وهي الإصبع التي تلي الإبهام التي تسند المسبحة لتأخذ منها الإصبع الابهام الحبة بعد الأخرى، والمصري القديم ترك عقودًا تشبه المسابح ولكن شكلها مختلف وهدفها مختلف فقد كانت عقودًا تدفع الشر والحسد والضرر والسوء، ويبدو أن السبح الزرقاء المصنوعة من السيراميك أو الخزف يتخذها البعض لنفس الهدف لدفع الحسد أي أن للسبحة مكانتها كتميمة أيضا وخاصة أنها تصنع من أحجار كريمة ارتبطت بتصورات شعبية عند الناس فالعقيق كما يقول العامة يمنع الضيق والفيروز عبدالرزاق أي يجلب الرزق واليُسر مانع للعسر ويمنع نزيف الحوامل!، والفضة لمنع الكوابيس وكلها آمال تدور حول حبات السبحة، أحلام باليُسر وسعة الرزق والدعة بل دخلت السبحة بحباتها في قاموس العادات والتقاليد المصرية الذي جمعه أحمد أمين فذكرها: "ويستعملها البعض في الاستخارة فيأخذها الآخذ حيثما اتفق فإذا انتهت بما يدل على العمل كان معناها أن يقوم المرء بالعمل المقصود والعكس صحيح! "، كما تستخدم السبحة كقراءة في المآتم، ويتم فيها الدعاء للمتوفى بالرحمة والمغفرة إذ يجتمع القراء ويقرأون "السبحة" وهي: سبحان الله ويقولونها مئات المرات ويختمونها بأسماء الله الحسني وبعض الأدعية توهب لروح المتوفي، وتسمى هذه الليلة بليلة السبحة، وجرت العادة أن يقدم أهل المتوفي "لقمة القاضي" ليأكل منها قارئو السبحة كما توزع اللقمة على الأقارب والجيران.

سبحة الأقباط

والأقباط أيضا يستخدمون السبحة، في التسبيح، وفى الصلاة المتكررة، وللسبح أشكال متعددة، وبأحجام مختلفة، ومعظمها فيه صليب مشغول بين عقدها أو في طرفها، وتوجد خرزة بعد كل عشرة عقد أو بعد خمس وعشرين، وعدد حباتها ثلاث وثلاثون حبة، وتحتوي على ثلاثة أقسام متساوية، وهي مجموعة إلى حبة واحدة أكبر من سائر الحبات، وفى نهاية المسبحة خيوط وحبات مجموعة إلى حبة رئيسية واحدة، وتُصنع السبح من خيوط صوفية أو حريرية أو فاخرة ثمينة، وبعضها مصنوع من الخرز أو من ورود مجففة.

 أما صلاة السبحة الوردية فهي التي تقام في الكنيسة الكاثوليكية، وسُميت بالوردية لأنها أشبه بباقة ورد تقدم للسيدة العذراء، وهي صلاة مكونة من خمسة عشرة بيتا، خمس للفرح، وخمس للحزن، وخمس للمجد، وكل مرحلة مرتبطة بمرحلة من حياة السيدة العذراء وتتميز السبحة بوجود الصليب في طرفها، وبحبة كبيرة منفردة، وثلاث حبات يُردد معها الصلاة، والسلام الملائكى " السلام عليك يامريم "، ويتكرر السلام الملائكى عشر مرات.

سبحة للهدوء النفسي

وهناك سبحة لتهدئة التوتر وراحة الأعصاب وحباتها 45 حبة أو 66 حبة وهي كما تقول الدراسات النفسية تفرغ الشحنة العصبية للإنسان من خلال تحريك الأصابع، والتسبيح نفسه يساعد على الاسترخاء لانتظام عملية التنفس أثناء الِذكر وترديد اسم الجلالة مما يخفف من التوتر والضغوط النفسية.

من غابات السبح وعوالمها وبحورها كنت قد عدت بسبحة من ضوء تعطر الأيدي كما تعطر الروح.. سبحة من ريحة الحسين.

وإلى حلقة قادمة.

 

 

تم نسخ الرابط