الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

جرح رؤوف.. وكافتيريا الأسطى عدلي

 

«الكلِام مدوزن، والصور صادمة، فالصفحة بين يديك تتكلم».

شعار مجلة باري ماتش الفرنسية

 

قول ينقطع فيه الجدل، «الصفحة تتكلم»، لمَ لا؟ فهي تحيا معنا، الكلام فيها يعرض حالنا ومآلنا، والرسومات تكشف بهزلها قُبحنا، وتدور على مشاكلنا، فرحنا وحزننا، وتقلبنا في الأيام.

 

لا شيء يمسك صفحة المجلة عن الكلام، ما تريد قوله، يقوله الناظر إليها، والقارئ لما تحمله من كلام.

 

منذ أعدادها الأولى، وكانت بعد لم تتمرغ بالألوان، أدرك القيمون على «روزاليوسف»، إن في جهاز التحرير أم في القسم الفني، أن الكلام المرمي على الصفحة والمنتظم في عواميد، مهما علا قدره ومستواه، لن يصل إلى القارئ إذا لم يُصمم حيزه، وهنا الصفحة، باللائق من الشكل الذي يجذب العين ويُريحها، فحَلت للناظر إليها وحلا لها، فيندفع بشغف يسرح مع الشكل المصمم بحرفة، يمرغ عينيه بألوانها، و.. يقرأ.

 

موهوبون كُثر مروا على صفحات «روزاليوسف»، ولهم في فن التصميمDesign والتوضيب Layout، مذاهب ومدارس، وإن بدا عند بعضهم التأثر بما كان في صحف ومجلات الغرب من إبداع في التصميم والتوضيب، فنقله وطورّه وزاد عليه، فهذا من طبيعة الفن وتطوره.

 

على صفحات «روزاليوسف» بقي فنهم على مرّ الزمان، وبإبداعهم حولوا تلك المجلة، الموغلة في القدم والعراقة، إلى مدرسة في فن التصميم والإخراج الصحفي. إن حكت صفحاتها.. فليس عندها من الكلام سوى عنهم.

 

سبقتني إليه توصية وتكليف من عدلي فهيم، المشرف الفني لمجلة «روزاليوسف»، وقد كنت في بدايات رحلتي مع فن التصميم والإخراج الصحفي، يده اليمنى ومساعدًا له.

 

وقف رؤوف عيّاد وردي ينتظرني، تمددت ابتسامة على شفتيه، دار بي، بناء على طلب عدلي فهيم، على أقسام المؤسسة المختلفة، بهدوء وبصوت موشى بالود، راح يشرح لي ويتوسع، وما إن انتهى طوافنا على الأقسام، حتى كنت عرفت كيف يدور العمل في تلك المؤسسة العملاقة.

 

كان رؤوف عيّاد مصممًا فنيًا، ابتدع أسلوبًا تميز به في تكوين شكل الصفحة، بعيدًا عن التعقيد. إلا أنه مال إلى الرسم فترك الإخراج والتصميم، حمل ريشته وعلبة ألوانه، فلمع نجمه في فلك الرسم الكاريكاتوري.

 

كان رؤوف نّقي النفس، حاضر البديهة إلى ظُرف حلو وذكاء وقّاد، وحس مرهف. قام بيننا وداد ورفع كُلفة، فتح لي قلبه وباب بيته الذي كان على رمية حجر من مسكني في «مصر الجديدة»، قدمني إلى والدته وشقيقتيه، أصبحت «واحدًا من العيلة»، كما كان يحب أن يقول ويعيد، لينزع عني ترددي وحرجي وانتحالي الأعذار.

 

ولم يمض كثير وقت، حتى خرج رؤوف من «بيت العيلة» إلى «بيت الزوجية»، فقد خطفته منّا فتاة أعطاها قلبه وكل حياته. درس رؤوف عيّاد الحقوق، كرمي لوالده، فلم يلبس «روب المحاماة»، ولا وقف أمام قوس محكمة، بل حمل ريشته ودواة حبره الصيني، وأقلام «فلوماستر»، وراح يرسم، ينقل كل ما يراه من بؤس المهمشين والغلابة، ويقدمه في رسومات، تئن، تصرخ، تحرض، وتوجع.

 

تأثر برجائي ونيس وجورج بهجوري، قلّد خطوطهما، لكنه زاد عليها من عندياته وأضاف. كان يرى أن الرسمة الكاريكاتورية المؤثرة والصادقة، تلك التي تبقى من دون تعليق، فالتعليق متروك للرائي لها وحده.

 

وعلى الرغم من أنه تظلّل عباءة جاهين وحجازي، ردحًا من الزمن، إلا أنه ابتدع لنفسه أسلوبا مميزا لم يُجاره فيه أحد.

 

شخصيات رؤوف عيّاد مقهورة، مغلوبة على أمرها، تعوض عن ضعفها بذكائها، ورفضها لكل ما يستحق أن يُرفض، في السياسة والحياة، وتنحصر طموحاتها في الستر والمتع البسيطة، لها ملامحنا، فهي تشبهنا، وتعيش، كما نحن، الظروف الحياتية نفسها.

 

ورؤوف عيّاد، المتواضع المتضع القلب، المرهف الحس، هو أيضًا، الرافض، المتمرد، المنتفض، الثائر، الحزين لما آلت إليه البلاد، وفي ذلك اقترب من اليسار كأيديولوجية، غمس فيها ريشته ورسم.

 

ترك في جريدة «الأهالي» الأسبوعية بعض فنه الباقي على مر الزمان.

 

 

رؤوف عياد

 
 
 

 

جرح رؤوف عيّاد النازف، كان تنكُر مصر له!

 

فهو ولد من أب مصري، قاده قَدَره للعمل في وفد الحكومة المصرية في الخرطوم.

 

وكان أن وُلد رؤوف في العاصمة السودانية، وعاد مع ذويه إلى مصر لما أُحيل والده إلى التقاعد سنة ١٩٦٠.

 

لم يشفع لرؤوف أن والده مصري أبًا عن جد، ومُقيم ويعمل بعد تقاعده في مصر، ولم يؤخذ بعين الاعتبار أنه متزوج من مصرية، وأنه أُعفي من الخدمة العسكرية والتجنيد الإجباري لكونه وحيد والديه، ولم يأبهوا كونه عمل في «روزاليوسف»، أعرق المؤسسات الصحفية في البلاد، وأنه عضو في نقابتي الصحافة والرسامين التشكيليين.. فسُحبت منه هويته المصرية لما تقدم بطلب للحصول على جواز سفر.

 

سنة ٢٠٠٤ حمل ملفه إلى القضاء، وعلى الرغم من الأوراق الثبوتية التي تدل دلالة واضحة على أصله المصري، رفضت المحكمة طلب إثبات هويته المصرية!

 

ولم يرض رؤوف بالضيم، طعن بالحكم، فتأرجح ملف القضية بين غرف المحكمة الإدارية العليا، وتأجل النظر بدعوى الطعن مرارا، حتى اصفرّت أوراق الملف.

 

لم يمهله اعتلال كبده، فأسلم الروح. كان في السابعة والستين من سنيه.

 

بعد مرور ١٣ سنةً على وفاته، صدر حكم المحكمة الإدارية العليا بتثبيت جنسيته المصرية!

 

دُلِيَ رؤوف في قبره مغموط الحق من كل جانب، جرحه الذي كان يؤلمه، أن مصر التي أحب أنكرته.

 

«الأسطى» عدلي فهيم، فنّان، لا ترى العين أبهى من إبداعه، إن في الرسم التشكيلي الذي درسه وعلّمه في المدارس زمنًا، أو في التصميم الفني للصحف والمجلات، وأسلوبه في الإخراج الفني صار يُدرّس في كليات الإعلام.

 

عاند رغبة ذويه في دراسة الكهنوت، والسياسة «قمصًا». لم تكن دعوته الكنيسة، إنما أن يغمر نفوس الناس بحب الإبداع والجمال. بقي الله يسكن قلبه كل حياته، وكان يجده في حدبه وعطفه على الآخرين.

 

بقي عازبا، راهبا في محراب الفن.

 

ترك «المنيا» إلى القاهرة، دخل كلية الفنون الجميلة، درس، تخرج، وبدأ مشواره الطويل مع الفن والإبداع. دار به الزمان دورته من «النداء» إلى «صوت الأمة» ليستقر به المقام في «روزاليوسف»، وعلى مدى أربعين سنة ألبسها حُللها القشيبة حتى توّجته مستشارًا فنيًا لها.

 

 
 
 

مشاهد من فيلم «الحساب يا مدموازيل»

قرّبني منه، دلّني على الطريق ومشى إلى جانبي، يُعلمني، ينصحني ويُصحح أخطائي، وأصبحنا رفقة عمل ورفقة درب، أصطحبه إلى كافتيريا فندق هيلتون، حيث كان يُجالس المُبدعين في الفن ونجومًا لمعوا في فلك الفن السابع. تنزل السياسة وشؤون الثقافة والفن على الكلام ويحلو السهر.

 

أبهى ما في طريقة عدلي فهيم في الحديث، إنه يُجيد الإصغاء، كما يجيد الحديث بين النغمة الرصينة والإشارة المُستملحة، تُسعفه في ذلك ثقافته الواسعة.

 

وحدث أن «الأسطى» عدلي استوحى من أجواء كافتيريا الفندق، المتعودة على السهر، رواية «الحساب يا مدموازيل» التي كانت رسما بالكلام عن حياة الليل في تلك الكافتيريا.

 

استهوت الرواية أنور الشناوي، فحولها إلى شريط سينمائي، أدى الشخصيات فيه نيللي وعماد حمدي، صلاح السعدني، توفيق الدقن، يوسف فخر الدين، لبلبة، جمال إسماعيل، فاروق الفيشاوي، أسامة عباس وسميّة الألفي.

 

كما كتب سهرة تليفزيونية من إخراج فهمي عبد الحميد تحت اسم «مولد نجمة» من بطولة ليندا، زوزو نبيل وأحمد راتب. كتب العديد من القصص والروايات منها رواية «أرملة في ثياب بيضاء»، وكتب خواطره الإنسانية في «لحظة صدق»، وله «أوراق أب» قدم فيه دروسه في الحياة للأبناء، رغم أنه أعزب لم يتزوج، كما كتب سيرة أستاذه حسين بيكار.

 

 

جمال حمدي

ولع عدلي فهيم بمجلة «روزاليوسف» لا حدّ له، لم يفارقها، منذ أن كانت في شارع محمد سعيد، المتفرع من شارع قصر العيني، الذي غيروا اسمه إلى شارع حسين حجازي.

 

وبعد هدم المقر القديم، وقيام مبنى سكني مكانه، اختار عدلي فهيم شقة في المبنى مواجهة لشقة نرمين القويسني، مديرة مكتب إحسان عبد القدوس، وسكرتيرته الخاصة، الحانية بلطفها ودماثة أخلاقها، على العاملين في «روزاليوسف».

 

كان زوج نرمين القويسني، الزميل جمال حمدي، مراسلا عسكريا في المجلة، غطى حرب اليمن، وأجاد.

 

وسبق له أن شارك في النضال الوطني ضد الملكية والإنجليز، واعتقل بتهمة العيب في الذات الملكية وعمره 13 عامًا، خريج قسم الصحافة، وبطل الجامعة في الملاكمة في الوزن الثقيل.. مثّل في عدة أفلام سينمائية وأخرج عدّة أفلام تسجيلية.

 

ذهب حمدي إلى اليمن بترشيح من إحسان عبد القدوس لمتابعة دور القوات العسكرية المصرية لتحرير اليمن، فدخل إلى عدن ببطاقة صحفية من دون صورة للصحفي السوداني «محمد الميرغني»، لكن سلطات الاحتلال كشفت أمره فأعادته إلى صنعاء، حسب رواية الزميل الكاتب يوسف الشريف في كتابه «اليمن وأهل اليمن».

 

قام جمال حمدي بمهمة إدخال سلاح وذخيرة وعتاد تبلغ حمولتها 50 طنًا إلى منطقة «ردفان» جنوب اليمن، لإمداد الثوار بها- حسب الخطة التي وضعها ضابط المخابرات «فخري عامر»، الذي نصحه بإطلاق لحيته وإتقان اللهجة اليمنية- وهكذا فعل حمدي وبقي على هذه الحال شهرًا، خضع فيه لاختبارات أمنية ونفسية.

 

وانطلقت القافلة في 4 يونيو 1964، قوامها مائة جمل محملة بالأسلحة والذخيرة، وفيها 300 يمني يقودهم حمدي مرتديًا العمامة والفوطة «الكشيدة» وهو الزي الشعبي لجنوب اليمن. استغرقت الرحلة 18 يومًا واستقبله الأهالي بالأحضان والهتافات بحياته محمولًا على الأعناق.

 

وحين عاد إلى القاهرة نشر سلسلة من التحقيقات حول ما فعله على صفحات «روزاليوسف»، صاحبتها رسوم تعبيرية للفنان مأمون.

 

في نهاية رحلته الصحفية، تولى حمدي إدارة مكتب «روزاليوسف» في مدينة الإسكندرية. كان جمال حمدي شخصية عذبة استمتعت بصداقتها عبر سنوات عمره، شخصية طموحة ومغامرة، طيب القلب، محبًا كريمًا، مضيافًا لكل زملائه ومرشدًا سياحيًا لهم عند حضور أحدهم إلى الإسكندرية، وما أجمل السهرات المغمورة بعطر صحبته التي قضيناها معا في مقاهي ودروب الإسكندرية.

 

نرمين وجمال، لا مقايسة عندي بينهما، فقد كانا مثال الود، والعطاء، والتفاني، وتحريك أمل أو تهوين بلوى، أو استنهاض عزم.

 

مدرسة عدلي فهيم في الإخراج الصحفي ترتكز على قاعدة واحدة: البساطة ورفض التعقيد. فعلى قدر تبسيط المُصمم للشكل، ترتاح العين، في انسياب بصري يمكنّها من استيعاب الإبداع الفني والتفاعل معه.

 

وشرط الإبداع الفني عند عدلي فهيم هو المحافظة على وحدة الأسلوب، وتأكيد التنوع من صفحة إلى صفحة، فالمجلة أوMagazine باللاتينية، تعني «المخزن»، الذي يحتوي على أنواع السلع شتى، كذلك المجلة تحتوي بين غلافيها الأمامي والخلفي على تنوع في المواضيع والتحقيقات والريبورتاجات: من السياسة، إلى الثقافة، إلى الفن وأخبار نجومه، والرياضة.

 

والمصمم، في مدرسة عدلي فهيم، عليه أن يقرأ النصوص، فيقدر حجم كل مادة، وما تحتاجه من مساحة على الصفحات، ليبدأ بعدها باختيار العناصر التيبوغرافية (أحرف النص وأحرف العناوين وشكلها).. ثم الصور والرسومات وأماكنها في حيز الصفحة.

 

تتلمذ على يد عدلي فهيم جيل من المصممين الذين برزوا، بينهم زهير العابدي، وطه حسين، اللذان تناوبا الإشراف الفني للمجلة.

 

إن الذين سلكوا سبيل فن الإخراج الصحفي، وخرجوا من الدنيا، فكأنهم مضوا ليفسحوا لغيرهم المواضع والنهج ومدارس الإبداع. الأسطى عدلي فهيم كان واحدًا من هؤلاء.

 

تم نسخ الرابط