الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

«إن السفر فى ذاته يُخرج الإنسانَ من دائرة نفسه المحدودة، وعندما أسافر إلى الخارج أرى وجوهًا كثيرة للحياة وأشعر بأن الذين يشاركوننى فى هذه الحياة أكثر مما كنت أظن، وعندما أنظر من نافذة الطائرة إلى الأرض أحس بأنها تتسع لأضعاف أضعاف سكانها، وأشعر أن حياة الناس شديدة التشابك والارتباط».

 

هكذا كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين هذه السطور فى كتابه «شهر فى روسيا»، حيث أمضى هناك هذا الشهر بصحبة وفد من الصحفيين المصريين، وكان «بهاء» وقتها قد أصبح رئيسًا لتحرير مجلة «صباح الخير» الصادرة فى 12 يناير 1956.

 

من أهم وأخطر وأمتع فصول الكتاب ما يتعلق بالصحافة فى روسيا، وقد رصد «بهاء» بقلمه الرشيق ملامح هذه الصحافة فى بلد الحزب الواحد والرأى الواحد، حيث كان الحزب الشيوعى هو المتصرف فى جميع شؤون الحياة! كتب «بهاء» يقول: «لقد زرت مقر جريدة «برافدا» وزرت الجريدة الأدبية «ليتراتورنيا جازيتا»، ولقيت فى المآدب والحفلات التي أقيمت لنا عددًا من الكُتَّاب والأدباء والصحفيين والشعراء، وكنت فى خلال الرحلة لا أكف عن فحص الصحف والمجلات الروسية محاولًا أن أستعين بالمترجمين للإلمام بالموضوعات التي تعالجها.. وأول ما يلفت النظر فى الصحف الروسية أن عدد صفحاتها أقل بكثير مما نعهده فى الصحف المصرية أو الأوروبية أو الأمريكية!

 

إن جريدة «برافدا» مثلا - وهى أكبر الصحف اليومية هناك - عبارة عن ورقتين، أى أربع صفحات فقط، فى حين أن معدل حجم الجريدة اليومية فى مصر يتراوح بين 8 صفحات و14 صفحة، وفى فرنسا يصل أحيانًا إلى عشرين صفحة!

 

وليس فى الجريدة «الخدمة» الصحفية التي نعرفها.. ليس فيها إعلانات ولا «مانشيتات» ولا ألوان، وليس فيها المادة الإخبارية المصورة الفخمة التي تغطى شتى وجوه النشاط من أخبار سياسية إلى اجتماعية أو أخبار شخصية أو أخبار الحوادث والجرائم.. فالأخبار الشخصية هنا لا مكان لها على الإطلاق، والصحافة الروسية كلها لا تجد فيها «أسرارًا» ولا «حاول أن تفهم» ولا أى أبواب من هذا القبيل»!!

 

 

 

والصور فى غير المجلات المصورة قليلة، أغلبها صور للرسميين أو لبعض مظاهر النشاط الإنتاجى والمشروعات الجديدة، والجريمة تكاد لا تنشر أخبارها!

 

وقد سألت بعض الصحفيين الروس فى ذلك فقالوا إن السبب هو ندرة الجرائم!

 

وما أظن أن هذا التحليل صحيح؛ لأن ندرة الحادث قد تكون أدعى إلى الاهتمام بنشره، إنما أرجح أن الدولة هناك لا تحبذ نشر أخبار الجريمة بوجه عام، بسبب ما قد يكون فى ذلك من تأثير على عقول الناس ونفوسهم!

 

ويعلق الأستاذ «بهاء» على ذلك بقوله: «ونحن فى مصر نسمع من حين إلى آخر دعوة تنادى بعدم نشر أخبار الجريمة، ولست أوافق على هذا الرأى، فهناك فرق بين نشر أخبار الجريمة وبين استغلالها لافتعال الإثارة والوقع العنيف فى نفس القارئ، وعدم نشر الجريمة معناه وضع الرءوس فى التراب، كما يصنع النعام، ومعناه إعطاء الناس صورة زائفة للمجتمع الذي يعيشون فيه»!

 

وحرص الأستاذ «بهاء» على زيارة جريدة «برافدا» ويلتقى مع نائب رئيس تحريرها «جوكوف» ودار بينهما حوار صحفى شيق، فقد سأله «بهاء»: هل عندكم هنا شىء اسمه السبق الصحفى؟ ورد «جوكوف» بعد فترة من التفكير، هذا ممكن ولكنه نادر جدًا!.. ويسأله «بهاء»: إلى أى حد يمكن أن تنتقد الصحف الحكومة؟ ويعترف «بهاء» بأنه وجَّه السؤال فى تردد لأنه لاحظ أن الروس حساسون جدًا إذا حدثتهم عن الحرية بمعناها المعروف فى الغرب وعدم وجودها لديهم!.. ولكن «جوكوف» لم يغضب، إنما قال بهدوء: من يريد أن يقيس كل كلمة فى روسيا لا يوجد رأى مناهض للدولة السوفيتية ذاتها، لكن الصحف قد تنتقد التقصير فى أى فرع من فروع العمل.. كأن تهاجم وزارة الفحم مثلا بسبب قلة الفحم فى الأسواق!.. وفهمت أن السياسة العليا - الكلام للأستاذ «بهاء»- والسياسة الخارجية لا تناقش من وجهات للنظر المختلفة على صفحات الصحف، إنها تناقش داخل الحزب، وما يستقر عليه الرأى هناك تتبناه الصحف وتدافع عنه!

 

وفى اليوم التالى يزور الأستاذ «بهاء» المجلة الأدبية وهى تصدر ثلاثة أيام فى الأسبوع وتوزع سبعمائة ألف نسخة.. وكان فى استقبال «بهاء» كبار محررى الجريدة، ودارت مناقشات ساخنة لها دلالة بين «بهاء» وبينهم.

 

فمثلا قال «كوسلانوف» - نائب رئيس التحرير : إن الجريدة تهتم أساسًا بالأدب، ولكنها تعالج المسائل السياسية والاجتماعية أيضًا، إن رسالتها هى تأييد كل عمل تقدمى فى البلاد، وربط الثقافة بنضال الشعوب، فإن الكُتَّاب السوفييت لا يقفون مكتوفى الأيدى أمام مشاكل الحياة فى بلادهم، إنما يتدخلون فيها ويساعدون الناس على حل مشاكلها وسلاحهم فى ذلك كله هو الأدب الواقعى!

 

ويطرح الأستاذ «بهاء» سؤالاً: ما هو مفهوم الأدب الواقعى؟

 

وشارك كل الحاضرين فى الإجابة عن السؤال فيقول الشاعر «دولماتوفسكى» إن الواقعية الاشتراكية ترفض تصوير الحياة والإنسان فى حالة جمود، إننا نؤمن بأن الإنسان والحياة فى حالة تطور، والأدب الواقعى لا بُدَّ أن يصور هذا التطور!.. ويعود الأستاذ «بهاء» فيتحدث عن اتحاد الكتاب السوفييت، قائلاً: إنه هيئة خطيرة وضخمة، فهى الهيئة المهيمنة على الإنتاج الأدبى فى الاتحاد السوفييتى كله، وقد تأسس لأول مرة سنة 1934 وكان رئيسه «مكسيم جوركى» الذي ظل يرأسه إلى أن مات!

 

واتحاد الكتاب فى موسكو وفروعه هو الذي يتولى طبع ونشر الكتب ويتولى تحصيل حقوق الأدباء عن الطبعات التي تظهر لمؤلفاتهم، أو عن إخراجها فى الإذاعة أو على المسرح أو السينما!

 

وقد سألت الشاعر «دولماتوفسكى»: هل لهذا الاتحاد سيطرة على رأى الكاتب؟

 

فقال لى بأسلوب شاعرى: إن الاتحاد لا يفرض إرادته على الكاتب، فكل واحد يكتب كلمات قلبه»!

 

وعلق الأستاذ «بهاء» قائلا: هنا أيضا نجد أن الحرية الفردية بالمعنى السائد عندنا معدومة، فإنه ليس من حق الكاتب أن يطبع أى كتاب يشاء، إنه لا يستطيع أن يطبعه وينشره على نفقته مثلاً؛ لأن دور النشر تابعة لاتحاد الكتاب السوفييت، إنما عليه أن يقدم كتابه مخطوطا إلى هذه الهيئة وفى الهيئة لجان تناقش الكتاب المخطوط ثم توافق على نشره أو لا توافق، أى أن الكتاب لا بُدَّ أن يكون متماشيًا مع السياسة العامة التي يراها الاتحاد!

 

ويطرح الأستاذ «بهاء» بعض الأسئلة المهمة ذات الدلالة فيقول: ما هو مدى استقلال هذا الاتحاد الحقيقى عن الحكومة أو عن الحزب؟

 

وما هو نوع التيارات الأدبية التي تتضارب فيه؟!

 

وهل هذا الاتحاد يخنق الحرية؟ أم أنه ينظمها فحسب؟!

 

ويجيب الأستاذ «بهاء» قائلا: لا أستطيع أن أقول إننى وصلت فى هذه الزيارة الخاطفة إلى إجابة حاسمة عن هذه المسائل!

 

وفى سطور مهمة يؤكد الأستاذ بهاء: «الحقيقة التي تعيننا على فهم الصحف الروسية هى أنها ليست مؤسسات تجارية، فهى معفاة من أساليب المنافسة الصحفية المعروفة، كالبحث عن المواد المثيرة، والسبق بالأنباء، والتفنن فى الإخراج، ولهذا السبب أيضًا لا توجد هناك الصحيفة أو المجلة «الجامعة» أى التي تضم أبواب السياسة والفن والأدب والمرأة والجريمة، فالمجلة فى مصر مثلا تحاول أن تضم هذه الأبواب كلها لكى تجمع حولها أكبر عدد ممكن من القراء من شتى الميول والاتجاهات، أما هناك فالصحف متخصصة، جريدة للسياسة فقط، وجريدة للأدب فقط، وجريدة للمرأة وجريدة للعمال وهكذا.. وإن كان التوجيه السياسى موجودًا وسائدًا فى جميع هذه الصحف».

 

انتهت أبرز ملاحظات «بهاء» عن صحافة روسيا فى ذلك الوقت من منتصف خمسينيات القرن الماضى!

 

تم نسخ الرابط