الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف
يجمع توفيق الحكيم بين صفتين، تبدوان للوهلة الأولى كل واحدة على نقيض الأخرى، ألا وهما صفتا الرائد والمجدد معًا.

فقد مارس توفيق الحكيم عملًا تأسيسيًا اعتبره معه الكثيرون من النقاد، ودارسو الفنون والآداب الأب المؤسس للمسرح والرواية في قالبهما العربي الحديث، على الرغم من كل الآباء المؤسسين قبله.

وهو في واحدة من مغامراته الفنية والأدبية والإبداعية الملهمة، يمزج بين المسرحية والرواية مزجًا احترافيًا إبداعيًا أصيلًا، فهو الذي يمتلك صفة الرائد وإنتاجه الإبداعي في النوعين المسرحي والروائي.

ففي عام 1966 كتب الحكيم عمله بنك القلق وأطلق عليه "مسراوية"، في إشارة للمزج بين النوع المسرحي والنوع الروائي، وقد بدأ نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام في العام ذاته، وطبعت طبعات عديدة فيما بعد وعن أكثر من دار نشر، حتى أعادت دار الشروق طباعتها مرتين متتاليتين، الأولى 2006، والطبعة الثانية 2013، وهي الطبعة التي أحلل منها تجربة الحكيم المهمة في المزج بين النوعين المسرحي الدرامي والروائي السردي.

فما هو بنك القلق؟ وما هي جوهر فكرة البنك؟

ويمكننا تأمل هذا الحوار بين شخصين في "المسراوية" بنك القلق.

وهو حوار يدور بين أدهم الموظف بالبنك وأحد الزبائن:

"الزبون: ... لكن أعترف معي أن فكرة إيجاد مكان للتنفيس...

أدهم: منطقة حرة للصياح؟

الزبون: إذا شئت.

أدهم: رئة يخرج منها الزفير الفاسد.

الزبون: خير من أن يكتم.

أدهم: هذه هي فكرة جوهر هذا البنك".

إنه بنك القلق، هذا البنك النادر في تاريخ الإنسانية وعالمنا الحديث والمعاصر.

إنه يتعامل في المادة الأساسية لعصرنا.

إنها القلق الذي يعيشه الأغنياء والفقراء على السواء.

هكذا تفتق خيال أدهم سليمان الصعلوك المختلف.

هو صعلوك هائم مدفوع بطاقة هائلة من التبطل والفضول والفراغ والتسكع، وحرية لا نهائية تأتي من عدم امتلاك أي شيء.

وغياب تام للأهداف القريبة والبعيدة، وهي صعلكة نادرة تقف خلفها روح فنان ضائع لشاعر سابق، وصحفي مفصول من عمله.

وبينما يتسكع أدهم سليمان في جولاته المسائية مندسًا كمتطفل خبير داخل أحد الملاهي الليلية، وبعدها يصاب بالملل، فيذهب ليمارس التأمل على كورنيش النيل وهناك يلتقي بالمصادفة زميل دراسة قديم.

الزميل شعبان جاد عوضين، كان زميله في كلية الحقوق وكل منهما فصل من الكلية، وضاع مستقبله في التعليم الجامعي لأسباب مختلفة.

وإذا كان هو قد هرب وراء الشعر والصحافة، وكتب آراءه الحرة في الحياة شعرًا فلم يهتم به أحد، إلى أن دونها في مقالات صحفية فدخل السجن.

فالثاني وهو شعبان، فقد كان مولعًا بالنساء لحد المرض، أحب جارة له فتزوجها وكان لم يزل طالبًا، سحرته بعودها الفاتن وطابعها الشعبي، وتزوجها بدون علم أهله.

وكان أن ترك دراسته الجامعية، وظل يعمل في مهن اعتيادية وأدمن على الزواج والطلاق. حتى صار طريد النفقة، وهي ليست واحدة، إنها نفقات عديدة دفعته للهرب والفرار.

ليستيقظ من غفوة نائم متشرد على مقعد أمام النيل، ليجد زميل الدراسة القديم المتشرد المتفلسف.

وهكذا سعد أدهم وشعبان بمصادفة مبهجة جمعت بينهما على مقعد التسكع الليلي.

وبعد الترحاب وتبادل الأخبار العابرة، اتفق الزميلان على البقاء سويًا، فقد وافق شعبان أدهم على فكرته اللامعة بتأسيس بنك القلق.

كان لأدهم صديق قديم من أيام العمل بالصحافة، اسمه متولي سعد كان يأتي لأدهم من حين لآخر بفكرة كتبها بطريقة رديئة فيعهد لشعبان بعملية إعادة صياغتها أو بالأحرى كتابتها برشاقة أسلوبية ولغة سليمة ينشرها متولي باسمه هو، بينما يمنح لشعبان مبلغًا بسيطًا من المال يعينه على شؤون الحياة.

وهنا حكى شعبان وأدهم للصحفي المنتشر في كل مكان عن حكاية البنك، وطلب أدهم منه خبرًا منشورًا حتى على سبيل السخرية.

ولكن متولي حكى ساخرًا لمنير بك عاطف الثرى الذي استقبله في "كفر عنبة"، التي هي بلدة أدهم الريفية، وعهد متولي لأدهم بكتابة تحقيق عن البلدة وإنجازات الاتحاد الاشتراكي بها.

وأخبره عن بلدياته أدهم وحكى له عن فكرة البنك على سبيل الضحك والسخرية.

أما المدهش حقًا فهو أن الوجيه منير عاطف قد تحمس للفكرة.

وقرر تمويل مشروع البنك ومنحهما خمسين جنيهًا مصريًا أخرجتهما من حالة الملابس الرثة، وحصلا على علبتين من السجائر الفاخرة، وذهبا للحلاقة، وأكلا الغداء الفاخر في مطعم محترم.

ثم زارهما زيارة ثانية أخذهما فيها لمقر البنك الجديد، بعمارته الفاخرة بشارع شبرا.

بل وأثث البنك بطريقة مبتكرة، ففي كل غرفة مكتب وتليفون وجهاز تسجيل والغرفة الثالثة له، وأجهزة التليفون متصلة ببعضها البعض، ليصبح كل شيء مسموع، وبدأ العمل وطلب منهما تسجيل الحوار وما يقلق الزوار للبنك، بل وطلب منهما عدم تقاضي أموال وجعلها مهمة إنسانية.

ويأتي ميعاد الزيارة الحاسمة، إنها ميرفت الجميلة وخالتها فاطمة، ميرفت ابنة أخ الوجيه الراحل عادل بك عاطف.

بالمصادفة كان أدهم مشغولًا بها وهو طفل في العاشرة بينما كانت هي في الرابعة، جميلة، كان يراها من بعيد أثناء وجوده مع أبيه الذي كان يعمل في أملاك عادل بك.

كانت ميرفت وخالتها في زيارة لمكتب عمها بعد الانتهاء من زيارة "للخياطة"، التي كانت تصنع لميرفت ملابس جديدة.

وهنا تعرفت عليهما وعن فكرة البنك المدهشة، وأخبرتهما عن نوع القلق الذي تعانيه.

لقد حصلت صديقة لها على أحدث العطور الفرنسية وأسمه "فضيحة المساء"، بينما لا تعرف هي كيف تحصل عليه من باريس حتى الآن.

لا هي ولا صديقاتها.

ولم يكن يهم شعبان في الأمر، إلا أن ميرفت قد حركت فيه نوازع زير النساء القديمة فقرر الوصول لها، رغم كل تحذيرات أدهم له خوفاً من عمها ممول البنك.

يقرر شعبان الدخول لعالم ميرفت عبر خالتها فاطمة، التي سرعان ما ينجح في إقامة علاقة غرامية بها، وصلت إلى استقباله في منزل منعزل بالمعادي ملحق به حديقة جميلة، إنه مكانها الآمن لعلاقة جنسية لسيدة في عمرها المتقدم تليق بوقارها وتلبي احتياجات عمرها وجمالها الذي بدأ رحلة الغروب.

وهنا يكتشف شعبان في اللقاء الثاني بعشيقته فاطمة، أن الفيلا مملوكة لعائلة عاطف، وأن منير بك عاطف ممول المشروع قد حفظ أشرطة التسجيل وإيصالات لمبالغ تقاضاها من شخص ما لحصوله على المعلومات وبيانات لعدد من زبائن البنك.

لقد دخل شعبان الغرفة على سبيل الخطأ والفضول، فوجد بيانات للزبائن المتذمرين بيانات تفصيلية وتسجيل للاعترافات الحرة من بنك القلق.

ونعرف أيضًا أن منزل المعادي الهادئ تقيم به والدة ميرفت المجنونة.

بها مس من اضطراب عقلي ونفسي عقب حادثة بشعة، إذ إنها اكتشفت في مصادفة ليلية أن زوجها عادل بك قد تسلل من فراشهما، ولم يكن يشعر بأنها مستيقظة، ولما تأخر خرجت خلفه لتجد أختها الصغرى في عناق جنسي معه في غرفتها، عادت ودخلت سريرها.

تصرفت وكأنها نائمة، ثم خرجت وأحضرت مادة بترولية سكبتها على زوجها وأشعلت النار واحتضنته لتحترق معه.

استطاع هو استخدام الأغطية لإخماد حريقها، بينما خرج يصيح من الحجرة يبحث عن إنقاذ.

مات متأثرًا بحروقه، بينما أمكن علاجها هي، عاشت لكنها لم تتحمل الصدمة. فجن جنونها، فأخذوها لهذا المنزل وأخبروا أبنتها أنها ماتت.

إنها خديجة أُخت فاطمة الكبرى، التي عاشت فاطمة عمرها كله لتربية الابنة ميرفت في محاولة للتكفير عن ذنبها الكبير الذي دمرت به حياة أختها وحياتها والعائلة.

أسرار غامضة تدير حياة تلك الأسرة الضائعة، رغم كل الثراء والترف المتاح لها.

هذه المأساة يحكيها لنا المؤلف بصوته هو الذي هو صوت السارد الراوي الدرامي، الذي بدأ الحكي والسرد والوصف الدقيق منذ بداية بنك القلق.

أما ما نراه يحدث أمامنا، فهو فزع كبير لشعبان وأدهم.

شعبان لم يعرف حقيقة المأساة لكن مأساته هو وأدهم، أنهما في ورطة فمن هو الشخص الذي يتسلم اعترافات الناس من بنك القلق ويدفع مالًا كثيرًا مقابل ذلك؟

فكرا أن يبلغا الشرطة لكنهما خافا من الفكرة، وكان منير عاطف قد قرر أن يفتتح للبنك فروعًا في الأقاليم.

استسلما للعمل، ولم يصارحان الممول بما عرفا خوفًا ورهبة وذعرًا وانتهى بهما الحال للعمل في البنك، كما تخبئ نهاية بنك القلق المفتوحة، حيث بدأ البنك في العمل في الأقاليم، بعد انتظام عمله في العاصمة.

يأتي ذلك الملخص التحليلي، الذي حرصت فيه على حكي ما دار في (المسرواية) بنك القلق، أولًا: لجدة وابتكار وأصالة الفكرة.

ثانيًا: للحبكة الدرامية المصنوعة بمهارة وخبرة كبيرة في مزج الأحداث الكبيرة بالصغيرة، والتقاء الحبكات الفرعية بالحبكة الرئيسية ألا وهى إنشاء بنك القلق.

ثالثًا: للأصالة المدهشة للشخصيات والأفكار والأماكن ولمصريتها التي تتحرك في كل أنحاء المجتمع المصري بعين خبير مهتم بالشأن العام، يعرف الناس في أماكنهم وزمنهم، ويصور كل ذلك بدقة متناهية، حيث التفاصيل الصغيرة ملهمة ودالة وقادرة على رصد وتحليل العواطف والأفكار، وجعل الشخصيات حية ناضجة الاكتمال على المستوى الدرامي.

 

أما النماذج المهمة من زوار وعملاء بنك القلق، فهي جوهر ما أراد توفيق الحكيم التعبير عنه آنذاك عام 1966 فقد لاحظ قلقًا أصاب المجتمع وتغييرات هيكلية في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع صمت عن البوح بهذا القلق.

فمع غياب إمكانية الحدث الحر عن الأمور المقلقة يظل القلق مكتومًا صامتًا ولذلك، فقد وجد منير عاطف مؤسس البنك من يشتري أحاديث القلق الخاصة والبوح الإنساني الحر بلا خوف وبلا أقنعة.

دعك من رجل قلق على مستقبل ابنه المراهق الذي سلب الحب عقله وأخذه من دروسه ونجاحه وتفوقه.

ربما تهتم بهذا الرجل المتدين جدً الذي يرى كل ما حوله هو عالم من الفسق والفجور والبعد عن تعاليم السماء.

أو الآخر الذي يرى أن التقدم يجب أن يخرج بالمجتمع بعيدًا عن تلك النزعة الدينية، التي تجعله مجتمعًا يمينيًا متحفظًا منغلقًا على ذاته.

شخص يرى المجتمع رجعيًا وشخص يراه عصريًا أكثر مما ينبغي.

وأشخاص مرضى بالتعصب والحماسة، حماسة هادرة حتى في التشجيع الرياضي لكرة القدم، يشعرون بأن هذا الحماس هو جوهر وجودهم، ومصدر الانتماء.

وغير ذلك من نماذج مختلفة متنافرة ومتعددة لا تستطيع البوح والإفصاح فذهبوا إلى من يسمعهم جيدًا في بنك القلق.

كما أن التركيب الخارجي "للمسرواية" بنك القلق، هو تركيب منظم ويعبر عن تفكير عميق فهي في عشرة فصول، وعشرة مناظر.

تبدأ الفصول بالحكي الدقيق الذي يصور أبسط الأشياء، التي لا تكاد أن تلحظها في المشاهدة الاعتيادية إنه سرد الراوي الفاحص المدقق ثم تبدأ المناظر، وهى فعل درامي يبدأ بالحوار الدرامي على المقعد الحجري في المنظر الأول.

وهكذا نصبح في تلاحق متصل يشكل عشرين متوالية درامية منسجمة، ومبنية بناء دراميًا محكمًا ما بين السرد والفعل الدرامي، في تكامل لا يعرف التضاد إذ إن الفصل يمارس السرد بطريقة لا يمكن ممارستها إبداعيًا في الكتابة المسرحية.

كما أن المناظر تأتي متأسسة على جوهر المسرح، وهو فعل يحدث أمامنا الآن، وأداته الأساسية الحوار الدرامي.

هذا المزج المنسجم بين حرفية الكتابة للمسرح، وأدوات البناء السردي الروائي تأتي في اتساق ووحدة بنائية وأسلوبية تعبر عن رسوخ التجربة في المزج بين المسرح والرواية في بنك القلق.

ولا شك أن تأثيرها ومكانتها في الإبداع الفني والأدبي في مصر والوطن العربي، وترجمتها إلى العديد من اللغات الحية، تجعلها من أبرز الإبداعات الملهمة في هذا الصدد، خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ما أحوج الإنسان، لأن يتحدث ويعبر عن قلقه في شكل كلمات وصور وأصوات، وما أجدرنا أن ندرك ذلك جميعنا أن وسائل التواصل سريعة الانتشار إعلامنا الشخصي، ننسى ونحن نستخدمها أننا ننشر بيانات ومعلومات ثمينة في كل اتجاه.

يحتاج الإنسان للتخلص من القلق، إنها وسائل التواصل الاجتماعية بنك القلق المعاصر.

إن تفكير توفيق الحكيم العميق كان يشير لاحتياج الإنسان للبوح الحر، والإفضاء حتى يستريح، وتهدأ روحه القلقة.

وإذا كانت دوائر جمع المعلومات في أوائل الستينيات في مصر والعالم، تحتاج لمثل هذا البنك، الذي يحكي فيه الإنسان ما يشاء.

فهو الآن متاح جدًا في وسائل التواصل الاجتماعي، فالكل يحكي عن الخاص والعام.

في أكبر بنك معاصر للقلق.

 

 

 

 

 

تم نسخ الرابط