الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

 لا يَكادُ "شارع مدام كوري", يمسحُ عنه عتمة الليل, و تَتَمَرَّغُ فيه أشعة الشمس, تُلَملِمُ الفيء من خلف البنايات, و تستحثهُ على الحركة...حتى يستجيبُ, ينعجقُ و تنعجق فيه السيارات, و تدب في مفاصله حركة الصباح, التي تخدِّشُ وداعته و سكينته. و مثل كل صباح, إستسلمت لعجقة الشارع, و إنضممتُ الى الواقفين على الرصيف بإنتظار سيارة "السرفيس", الوسيلة الوحيدة للوصول الى قلب العاصمة, و الى المكتب. و"سرفيس" Service , و تعني "خدمة" و الكلمة تركها الإنتداب الفرنسي على ألسنة اللبنانيين و غيرها كثير من الكلمات المتداولة يوميا, و هي عند العرب الآخرين "سيارة الأجرة".

على أن "السرفيس" بدعة لبنانية, فرادى في العالم، و لا ترى مثيلاً لها في أي عاصمة عربية. و سيارات "السرفيس" الدوارة  في الشوارع تلملم الركاب, من طراز "مرسيدس - بنز" 120, تسع لأربعة ركاب, و خط سيرها معروف و يصل الى كل نواحي بيروت, بتعريفة موحدة. تومىء, يقف السائق, تتبرعم إبتسامة على شفتيه. "على البلد ...". تعلمتُ أنْ أَسْأل, و البلد بلغة السائقين "ساحة البرج". تماوجَ صوت السائق, إنبسطت أساريرهُ: "تفضل ... ". و"تتفضل", تفتح باب السيارة, كان المقعد الخالي قربه, و ترمي التحية, يُجيبك الركاب الثلاثة في المقعد الخلفي, كل على حدة. يعودون الى الحديث المجدول بالنقد, واحد يعلق على ما قرأه في جريدة طواها بتعجل و كأنه يريدُ أن يطوي أخبارها, حول قرار وزير الاقتصاد زيادة ضريبة الدخل, يرد عليه الجالس الى جانبه, محتداً, و هو يتلاعب بنظارتيه الذهبيتين, مدافعاً عن الوزير, و عندما  تلعثم, إستنجد بكلمة إنكليزية, مررها في سياق إعتراضه. قاطعه الراكب الثالث, و راح ينحي باللائمة على رئيس الجمهورية, الذي كان وعد عدم المساس بالضرائب. عند سماع السائق هذا الكلام كان يتمشط شاربيه, فتدخل في الكلام, رفع اللوم عن رئيس البلاد, و رماه على رئيس الحكومة,   و من نبرة صوته, تعرف أنه ليس من أنصار رئيس الحكومة!

ينزل راكب, وصل الى مقصده, يبدأ السائق يوكِّدُ النظر على الأرصفة "ليصطاد" البديل, فهو يريد أن يصل الى الموقف في "ساحة البرج"  و بغلّة غير منقوصة و بركاب أربعة.

الراكب الجديد, كان حاد الملامح, تدور في وجهه عينان عريبتان, أحدهما أوسع من الأخرى, ما أن أغلق الباب و نشر السلام علينا, حتى أخذ, بصوت قوي فيه نبرة من الضيق, يكيل السباب لطلاب الجامعات, و بإضراباتهم, و تظاهراتهم, التي " تعطل العمل" و"توقف الحال"... و سكت كأنه إستيقظ لإنسياقه في الكلام. لم يتجرأ أحد على الإجابة, ساد على الحاضرين صمت بليد, إكتفى السائق  بهز رأسه, و كانت حركة باهتة, لا معنى لها, و لا تنبىء عما إذا كان موافقاً على كلام  الرجل أم رافضاً له.

تأرجحت في رأسي الأفكار, فأنت في خلال مسافة, تطول أم تقصر, تتعرف على شرائح من المجتمع اللبناني, كل يبدي رأيه بحرية, و من دون وجل, و يفكر بصوت عالٍ, رافضاً منطق العقل السمعي الطائع, كما كان يسميه الدكتور لويس عوض.

و يلفتك أن "سيارات السرفيس" كلها من طراز "مرسيدس – بنز" 120 و 200 و 280, و تدرك أن السبب هو التنافس التجاري الحر بين وكلاء السيارات. فإذا كان لا حظر و لا موانع من الإستيراد, (تجد في شوارع بيروت, السيارات الأوروبية, و الأميركية , و اليابانية,        و التشيكية... ), فإنَّ التنافس هو عماد الاقتصاد الحر المنفتح الذي يتمتع به لبنان, و ضمن هذه المنافسة,  قامت "شركة توفيق غرغور   و أولاده", وكيلة "مرسيدس - بنز" في لبنان و العالم العربي,  بتخفيض سعر طراز120, المناسب لشوارع بيروت, و المتمتع بقدرة فائقة 

على التحمل, و أعطت بعد ذلك تسهيلات للسائقين, و شركات النقل, فأقبل هؤلاء على إقتناء ذلك الطراز, بينما تحول طرازي 200 و280 الى "تاكسي خصوصي", و في وقت كان الأوروبيون يعللون النفس لإقتناء سيارات "مرسيدس"’ و التباهي باقتنائها, كان اللبنانيون يستخدمونها "سرفيس", و "تاكسي"! و الحقيقة أن "السرفيس" خدمة ظهرت في خواتيم خمسينات القرن الماضي, أيامذاك, كانت المواقف موحدة: "موقف دعبول" في "بيكادللي", و"موقف التياترو الكبير" في "المعرض". و يتهلل صوت السائق, و هو يقول بامتعاض ظاهر: "جينا الى عجقة و إزدحام ساحة البرج"! *** "ساحة البرج", حركة, عجقة, نبض, و حيوية لا تنضب, كلما أوغلت فيها نضحت الكأس. و هي في محيطها, ملتقى جميع اللبنانيين, الآتين إليها من كل المطارح, و مقصد للعرب للتبضع, فهم كانوا يرون بيروت "باريس الشرق", سهر, و بذخ, و أناقة. و "ساحة البرج" ليست ألفة محببة, و تجارة و مال, و سحر, و جاذبية, و أناقة... فقط, هي قبل ذلك كله, لها تأريخ, و تأريخ الساحة سرداً جذاباً للعبرة. فهي  الشاهدة على "عرس الدم", عندما نصبت في باحتها المشانق, التي علقوا عليها الأحرار, الذين قالوا "لا" للباب العالي الهمايوني.

سموها "ساحة البرج", نسبة الى "برج الكشاف" الذي كان قائماً مكان مقهى "باريزيانا", في الزاوية الشمالية من شارع "غورو", و دبَّ الخراب في البرج سنة 1808, و لم يكن منه غير بقايا سلالمه الجميلة. و كان الأمير فخر الدين المعني الكبير يحب ذلك البرج, فيجلس في منظرته المطلة على الشاطىء، تؤنسه مشاهد البساتين الخضراء, و زرقة البحر, و بياض "جبل صنين", المكللة هامته بالثلج. 

سنة 1813، دخل العسكر المصري بقيادة إبراهيم باشا الى لبنان،  فحول الباشا تلك الساحة الى معسكر لجيوشه, و أمر بترميم البرج, و زاد طوله 60 قدماً و عرضه 12 قدماً, و سماه الباشا" البرج الكاشف", و أطلق البيارتة عليه "برج الكشاش"لإستخدامه في "كش" الحمام (أي طردها).

ثم أُطلق على هذه الساحة, يوم رابط الجيش الفرنسي سنة 1860 بعتاده فيه Place des Canons "ساحة المدافع", ثم أصدر الجنرال هنري غورو, المفوض السامي على لبنان و سوريا, أمراً بتغيير إسم الساحة الى "ساحة الشهداء"Place des Martyres, تكريماً للأحرار الذين أعدمهم جمال باشا, فيها.

ففي سنة 1913, قاد جمال باشا الجيش الرابع التركي, لعبور قناة السويس, و إحتلال مصر, و هو ما سمي بحرب "سفر برلك", أو "حملة ترعة السويس". و في 2 فبراير 1915, إخترق الجيش العثماني "صحراء سيناء" التي كانت, في هاتيك الزمن, تفتقر الى طرق المواصلات, فأنهك العسكر العثماني المهاجم, فحصدتهم البوارج البريطانية الموجودة في القناة, من جهة, و القوات البريطانية المتحصنة على الضفة الغربية للقناة, بمدافعها و رشاشاتها. و فشل الهجوم, و إنهزم جمال باشا, الذي كان المسؤول المباشر عن الإنكسار الدامي,   و هو الحاكم العسكري المطلق على لبنان و سوريا, تحول الى رجل شرس, دموي, عصبي المزاج, سفاحاً,  فصب جام غضبه على القيادات العربية العسكرية و المدنية , و إعتقل نخبة من المثقفين والمفكرين, و أحال ملفاتهم الى محكمة عرفية في "عاليه"(جبل لبنان), فحوكموا محاكمة صورية, و أُصدرت بحقهم أحكام بالإعدام, نُفذت على دفعتين, واحدة في 21 أغسطس 1915, و أخرى في 6 مايو 1916 في "ساحة البرج", و قد أُختير يوم السادس من مايو عيداً للشهداء, لأن الذين أعدموا في ذلك اليوم هم الأكبر عدداً.

و كلفت سلطة الإنتداب الفرنسي النحات اللبناني يوسف الحويك, بنحت تمثال تكريماً للشهداء يوضع في الساحة, فكان التمثال يمثل إمرأة مسلمة و أخرى مسيحية يندبان على قبر ميت, إلا أن اللبنانيين حطموا التمثال, فقد إعتبروه رمزاً للخنوع و المذلة, و المهانة,  و لا يعبر عن الحرية التي مات الشهداء من أجلها.  

سنة 1952, على عهد الرئيس بشارة الخوري, خّصصت جائزة دولية لوضع تصميم لنصب الشهداء, ففاز المهندس سامي عبد الباقي,     و صمم نصباً عبارة عن قوس بارتفاع 27 متراً, و عرض 24 متراً, و تحته مسلة بإرتفاع 8 أمتار, تعلوها مصطبة على جانبيها شعلتان دائمتا الإشتعال, إلاَّ أنَّ "صيف الدم" سنة 1958 حال من دون إتمام العمل, فألغي. و ظلت الساحة بلا نصب يُذّكِر بالشهداء، الى أن قرر مجلس بلدية مدينة بيروت تكليف النحات الإيطالي مارينو مازكوراتي, نحت تمثال للشهداء, إستمر العمل فيه 30 شهراً, و التمثال المنتصب 

في الساحة, يرمز الى الحرية, تمثلها إمرأة ترفع مشعلاً بيد, و بيدها الأخرى تحيطُ شابا, و على الأرض أمامها, و ورائها شهيدان. دشّن التمثال الرئيس فؤاد شهاب سنة 1960, و كل سنة في السادس من مايو, يضع رئيس البلاد إكليلاً من الزهور على قاعدة التمثال.

 

 

 

في "ساحة البرج", قران هادىء بين الشرقي و الغربي, مسافات مخبوءة, من روعة المكان, و  ندرة الأشياء. محلاتها ولهى بكل جديد, تفتح صدرها لكل ما تشتهيه العين. 

و تمر بمحلات ABC الشبيهة ب "غاليري لافاييت" Galeries Lafayette "بولفار هوسمان" في باريس, إنما على مصغّر. و قبلها, تخلبك واجهة محلات "عياش", وكيل "أوميغا" و "رولكس", و كل ساعة أُنتجت في "سويسرا", و تقف أمام محلات حليم نهرا, لبنادق الصيد, و هو الوحيد في العالم العربي الذي يبيع بنادق  St. Etienneالفرنسية للصيد, و لأول مرة شاهدت بندقية Juxtaposé (جزءان بينهما خط وسط) و بنادق Superposé (جزءان فوق بعض), و تدوخ و أنت ترى أنواع "الخرطوش" على الأرفف المتخمة بالماركات, و لا تستغرب ما تراه, عندما تعرف ولع اللبنانيين في صيد الطيور, و لها عندهم مواسم, و كان الرئيس كميل شمعون من كبار صيادي الطيور.

و يستمكن الدَّهْشُ منك, و أنت تدخل "سوق الصاغة" أو "سوق الجوهرجية", فلهذا السوق تأريخه. ففي سنة 1883, تشارك أسعد رعد      و بشارة الهاني لإنشاء سوق للمجوهرات فقط, , مدخله الشرقي الساحة المعجوقة بحالها, و بناسها, و بإمتداد يصلُ الى كنيسة "سيدة النور", ("النورية" كما يسميها البيارتة), غرباً. كانت أرض السوق مبلطة, و سقفه شرقي الهندسة, و أُقيم فيه نزل, بمواصفات ذياك الزمن, سموه "نزل باريس", تم إنجازه في سنة 1886, فأقبل الصاغة و التجار يتهافتون عليه, فاُفتتح سنة 1887. فمن ذلك السوق لبست العرائس في معاصمهن الأساور الذهبية "المعروقة بدقة الماس", و "المبرومة رأس الحية ", أو "عرق الدالية". و لبسن في أصابعهن الخواتم الذهبية المطعمة بالماس "البرلنت", أو "الفلمنك", و علّقن على جيدهن العقود, و السلاسل, و في آذانهن الأقراط المختلفة الأشكال, التي تفنن صاغة بيروت, المشهود لهم ذوق الصنعة, في تصميمها, و نقشها, و تنفيذها. و لقي  السوق شهرة, و ذاع صيته بين العرب, فنادراً ما كان يخلو من الخليجيات اللائي يقصدن بيروت لذهب صاغتها, و لخزائن فساتينها, و أدوات التجميل و التبرج الباريسية.  

 

 

 و"سوق الطويلة" يضاهي "سوق الصاغة, فهو الأكثر أناقة, و يبيع الملابس و العطور و أدوات الماكياج؛ و في محلاته الأنيقة على الصفين تنادي على الفضة،  و الكريستال، و الأقمشة، و القبعات الرجالية و النسائية, ثم "سوق أياس" و"بركة العنتبلي", و"سوق سرسق", و"سوق الفرنج", حيث الخضار و الفاكهة الغريبة عن أرض لبنان, و تَعِد على أصابعك, و لا تخلص من الأسواق المخصصة بأنواع تطلبها في حياتك اليومية.

 

 

 

خلف مديرية الشرطة, بمبناها الآسر في تصميمه الهندسي, شارع "المتنبي", و هو شارع فتيات الهوى, أو "السوق العمومي". تسأل واحد تعرفه,  و تظن أنه يعرف ما تريد أن تعرفه: "كيف يمكن أن يُطلق إسم أهم شعراء العرب و أحَبَهم, على شارع يبيع الجنس؟".

قلب شفته السفلى, كما فعل غيره, فقد عَجِزَ  كثيرون عن تقصي أي معلومة يمكنها أن تعطي سبباً وجيهاً لتسمية هذا الشارع باسم "المتنبي"! تساءل فؤاد سليمان أو "تموز" كما كان يوقع مقالاته في زاوية "صباح الخير", في جريدة "النهار" بين 1949 و1951: " من وضع المتنبي الكبير في مثل هذا المكان الصغير الموبوء؟ و ماذا يفعل هذا الإنسان العربي النبيل في هذه القاذورة؟" و يمضي "تموز" متحسراً: "في كل يوم يتوافد ألوف من الناس الى شارع المتنبي, خلف السراي العتيقة, حيث ينام هذا الشاعر مع أجساد البغايا في هيكل الدم". ثم يصرخ "تموز": "إنقلوا هذا المسكين من هناك".

و لم يسمع أحد صراخ فؤاد سليمان في "النهار", و بقي إسم المتنبي محفوراً على رقعة في حائط في زقاق معتم, يتناوبون فيه على بنات الهوى بلحظات جنسية سريعة, بحماية قانونية و وقاية طبية. فعلى زمن الرئيس شارل دباس, صدر سنة 1931 قانون "حفظ الصحة العامة من البغاء" يشرعن وجود السوق العمومي. في فترة من الفترات, كانت في بيوت "شارع المتنبي" 207 عاهرات, من جنسيات تشكل وحدة عربية: لبنانية، سورية، مصرية، فلسطينية، أردنية…

و حسب إحصاء سمير خلف في كتابه"البغاء في مجتمع متغير" فإنّ "108 منهن يعشن في بيوت الدرجة الأولى, بينما 102 يعشن في بيوت تصنف درجة ثانية".

و بعد فضيحة عفاف (بدور الداهوق)  في الخمسينات, سيطرت اليونانية ماريكا إسبيريدون على عالم البغاء في "شارع المتنبي", و تقرأ عنها في رواية "ماريكا المجدلية",  للصديق الراحل إيلي صليبي:

"دخلت ماريكا إسبيريدون شارع المتنبي عاهرة فقيرة, و من هناك, من ذلك الزقاق المصيدة, خرجت تائبة, غنية, ماريكا المجدلية". و يكتب إيلي صليبي عن مرحلة توبتها:

" بعد حياة صاخبة أمضتها ماريكا في تقديم الخدمات و الملذات الجنسية, في مملكتها الصغيرة, قلبت حرب 1975 حياتها رأساً على عَقِبٍ, و جعلتها تهرب الى عالم تُكَّفِّرُ فيه عن ذنوبها, و تعيش حياة التوبة و التقوى إلى أن "بلغت التسعين، مفلسة الجيب... غنية الروح، مشبعةً بالإيمان... بعدما تبرعت "البترونة" بكل ثروتها لمصلحة بلدة "كفرماش " التي قضت فيها أيامها الأخيرة، و رفض أهالي بلدة كفرماش دفنها في مقابر القرية  

ما يدهشك في "ساحة البرج"’, أنها لا تنام, يخلص نهار العمل فيها, ليبدأ ليلها, فتتراقص الأضواء الملونة, تغمز النجوم, و تُلاعب القمر. و كيف لهذه الساحة أن تهدأ حركتها, و أن تخلد الى الراحة و النوم, و في محيط لا يتعدى الكيلومتر المربع, 15 صالة سينما, و مطاعم, ومقاه, لا تقفل أبوابها, تُجَدَلُ فيها الأحاديث, و تدار على الفن, و الأدب, و السياسة. و صالات السينما في "ساحة البرج", و "ساحة رياض" الصلح, الأصغر منها مساحة, أدت دوراً مهماً في الحياة اللبنانية, على الصعيد الاجتماعي, و السياحي, و الاقتصادي, و حياة السهر و اللهو.

في "ساحة الدباس", مدخل "ساحة البرج", "سنيما ميامي", و جارتها "سينما بيجال ", التي لا تمر على شاشتها سوى الأفلام الهندية, و ما يُنتج في "بوليوود". و تنزل الشارع, تطل عليك "سينما دنيا" و التي لا تحب الأفلام العربية, و لا تعرضها إلا في المناسبات, قبالتها "سينما راديو سيتي", و كان إسمها في الستينات "ماجيستيك", و لا تحكي شاشتها هي الأخرى إلا "إنجليزي", "سينما روكسي", حيطانها  مربعات من المخمل الأحمر, أنيقة, مقهاها عند الطرف الأيمن من بابها الكبير, كان المثقفون, و الشعراء, و الصحافيين يضربون فيه المواعيد, ينافسه "مقهى لاروندا". و على قرقرات الأراكيل, و"طقطقة" النرد و الأحاديث  في السياسة و في كل شيء تمضى "قهوة القزاز" (الزجاج) نهارها   و ليلها.                                                                                                                         

 

 

"سينما هوليوود" تتنوع عروضها, بينما "سينما أمبير"(ثلاث طبقات: الصالة, و البلكون, و اللوج), لا تهوى العربي و لا ينفلش على شاشتها إلا الأمريكاني, و الإنجليزي, و الفرنسي من الأفلام. قبالتها, "سينما متروبول", حظها قليل, إحترقت مرتين, و رُممت مرتين, و كان فريد الأطرش يفضلها على غيرها لعرض أفلامه, جارتها "سينما ديانا", كانت أول صالة عرض تحت الأرض, بعدها صدر قانون منع صالات تحت الأرض, و لا تنسى في أول "شارع الشيخ بشارة," "سينما شهرزاد" التي تحولت الى "المسرح الوطني" بيت "شوشو" (حسن علاء الدين) و فرقته, و الى جانبه "سينما أوديون". 

 

 

 

و تنحدر في الشارع, تمر بمحلات "بن عازار" و تفوح رائحة البن الطازج و يسيل لعابك على فنجان قهوة, و بعده بخطوات  منه "سينما غرانادا", التي غيرت ستارتها و ديكورها و إسمها, فإستقرت فترة على إسم "كايرو" عندما تخصصت بعرض الأفلام المصرية, ثم بدلت إسمها مرة ثالثة, ليصبح "الزهراء" تيمناً بالديكور الموشى بالزهور, و ظلت على وفائها للأفلام المصرية. و تصل الى "سينما أوبرا", التي بناها عبود عبد الرزاق سنة 1933 لتكون مسرحا يقدم العروض الأوبرالية, , رداً على "التياترو الكبير, في "المعرض", الذي كان زمن التسلط العثماني على لبنان, يقدم فيه الإستعراضات الراقصة التركية. فتحول مسرح الأوبرا الى صالة سينما و لها مكانتها و مكانها, بينما أُهمل "التياترو الكبير", و أصبح صالة عرض من الدرجة الثالثة و أدنى.

في صدر الساحة, يربض مبنى ضخم أبيض, تلمع فوقه باللغتين العربية و الأجنبية إسم "ريفولي", و هي أول, صالة لها مبناها المستقل,   و هي في زمانها, أكبر صالة عرض سينمائي في العالم العربي., تنافس "سينما متروبول" على أفلام فريد الأطرش, و كان الموزع  إبراهيم المدلل, يعرض فيها خلال أسبوع الآلام فيلم "حياة و آلام السيد المسيح" المدبلج في مصر. و جارتها على بعد خطوات, "سينما بيبلوس" 

الأجمل بين صالات بيروت, قبل أن تزيحها "سينما كونكورد" في "فيردان" عن عرشها. و سينما "سيتي بالاس", في مبنى صمدي و صالحة, و"سينما غومون بالاس", التي ما كانت تعرض إلا الأفلام الفرنسية و الأسبانية.

و إن أنت أدرت وجهك الى "ساحة رياض الصلح", حيث "شارع المصارف ", العابق برائحة المال و الصفقات, و منها الدرب الى السراي الحكومي, تمر بصالة "سينما كابيتول" الفخمة و البديعة التصميم, و جارته في "بناية العسيلي", صالة "سينما أمير" الصغيرة الحجم.

و في صالة "سينما كابيتول" جرت حادثة, كان لها رجع صدى في عواصم العالم العربي. ففي منتصف ستينات القرن الماضي, و على عهد  الرئيس الراحل شارل حلو، قام رئيس جمهوريّة تونس الحبيب بورقيبة, بزيارة إلى لبنان الذي كان يطلق عليه الرئيس التونسي «سويسرا الشرق». و كان بورقيبة من عشاق لبنان, و لا يتردد في إبداء إعجابه بالشعب اللبناني" المتعلم و المثقف الى أبعد حدود", كما قال في حديث صحافي سبق زيارته لبيروت, فأبدى للسلطات اللبنانية  رغبته أن يتضمن برنامج الزيارة  لقاء الشباب اللبناني و لا سيّما طلبة الجامعات، فرتبت له الحكومة اللبنانية اللقاء, في صالة "سينما كابيتول" الفخمة, في قاعة "الأونيسكو" التي تستخدمها الحكومة اللبنانية, في مثل تلك المناسبات, كانت تدور فيها أعمال مؤتمر للتنمية. و طلب "المجاهد الأكبر" التونسي, أن يلقي محاضرة موضوعها: "مستقبل الأمّة العربيّة". 

 في  المحاضرة تطرّق الزعيم التونسي إلى القضيّة الفلسطينيّة و رؤيته لحلّها. فطرح فكرة إقامة دولتَين، الأولى هي دولة إسرائيل بحدودها آنذاك, و الثانية دولة فلسطين، و تضمّ" أريحا "و"رام الله" و"قطاع غزّة ", الذي كان في عهدة مصر، و الضفّة الغربيّة التي كانت في عهدة الأردن، و تكون عاصمتها «القدس»، إلا أنّ هذا الطرح لم يستسغه الشباب اللبناني لأنّه يقوم على الإعتراف بدولة إسرائيل، فعَلت الأصوات في الصالة مستنكرة لهذه الطروحات و تمّ إسماع الرئيس المحاضر عبارات نابية. فما كان من الرئيس التونسي الى ان إنسحب سريعاً من الصالة تحت غطاء و حماية قوى الأمن الدّاخلي اللبناني, و طلب أن يتجه موكبه فوراً  من "ساحة رياض الصلح" إلى مطار بيروت،      و إستقل طائرته من دون وداع رسمي, و إمارات الغضب و الإمتعاض و الأسف كانت بادية على محياه, فيما أُلتقط له من صور يومذاك، الأمر الذي ألزم الدولة اللبنانيّة تقديم اعتذار رسمي للجمهوريّة التونسيّة, كما إتصل الرئيس شارل حلو هاتفياً  بالرئيس بورقيبة, مطيباً خاطره.

و قامت قيامة جمال عبدالناصر, و "بعض" العرب معه, و بُحَّ صوت أحمد سعيد, و هو يكيل من "صوت العرب", الشتائم, بالرئيس التونسي. ومن المفارقات المضحكة المبكية, أن الجميع عادوا الى الصيغة التي طرحها الحبيب بورقيبة في بيروت! في طريقي, الى بناية "سيتي سنتر" المعروفة باسم " صمدي و صالحة ", حيث مكاتب الهيئة,  أمر كل يوم  ببناية" اللعازارية", المجمع الضخم، الذي بناه الآباء اللعازاريون و الراهبات اللعازاريات, حتي سنة 1950 يضم المحال و المكاتب، و يعود ريع بدلات إيجارها لتمويل مشاريع الرهبانية اللعازارية و أعمالها الخيرية. قام "بنك سوريا و لبنان" بتمويل المشروع, و إنتهت الأعمال في 1955. "و مجمع اللعازارية" صممه المهندس الفرنسي لوكونت, و إختار له الحجر الأصفر, ينتصب في شكل مربع في وسط المدينة. و شيئا فشيئا، تحول "مجمع اللعازارية", في ذاته، لمدينة تختصر بيروت كلها, مساحة الارض التي يقوم عليها هي 8363 مترا مربعا و المساحة المبنية عليها 34295 مترا مربعا. سبعة مبان في المجموع، أحدها مبنى عمودي يضم 13 طبقة، الى طبقتين سفليتين تحت الأرض كانتا تستعملان مواقف للسيارات. "اللعازارية" كانت حدثا في بيروت الخمسينات. ظاهرة مميزة في المدينة العتيقة، التي كانت تفتخر بتراثها، و بالذكريات الحميمة في شوارعها. كانت بيروت مجموعة نماذج إنسانية و معمارية، جاءت اللعازارية تنضم اليها، ممثلة الحداثة و روح العصر. و كانت اللعازارية تضم محال ومكاتب و مؤسسات من كل صنف و لون. نقابة المحررين كانت هناك، و متاجر الأحذية أيضا و أكثر من خمس مكتبات كبيرة، منها و أهمها "مكتبة لبنان" و "مكتبة الفرح", و "مكتبة ريمون"  داخل المبنى و في الشوارع المحيطة به، كشارع المعرض    و شارع سوريا، حيث كان يتردد التلامذة و الطلاب الجامعيون لإبتياع كتبهم مع بدء السنة الدراسية، فنشأت سوق موازية للكتب المستعملة. كان المجمع الأصفر الضخم يغلي بالحركة، و كذلك كانت الحركة من حوله. سيارات الأجرة كانت تنطلق من جوانبه الأربعة لتذهب في كل إتجاه. منه ينطلق "السرفيس" و التاكسي، و اليه يصلان،  و فيه، تحت الارض و فوقها، كانت تنتشر الجراجات و مكاتب سيارات الأجرة: "جراج سعد" و "جراج صيدا "و "جراج السكاكيني" "و جراج راشد حمزة" و غيرها… و في المبنى, مكاتب "جريدة الكفاح" التي كان يصدرها رياض طه, نقيب الصحافة فيما بعد, و عنها كانت تصدر "مجلة الأحد", خلفها مكاتب "الطيار" و "التلغراف"ا للتان كان يصدرهما الشقيقان نسيب المتني و شقيقه توفيق, و في نفس الشارع كانت مكاتب "جريدة  اليوم", التي كان ينشرها الشقيقان عفيف الطيبي نقيب الصحافة,    و شقيقه وفيق, و لما درجت عادة إصدار الملاحق الأسبوعية, صارت "اليوم" تُصدر مع عدد الأحد "ملحق الأيام". و في نفس المربع ب      " الخندق الغميق " كانت  مكاتب "جريدة الحياة ", و شقيقتها باللغة الإنجليزية "دايلي ستار", لصاحبها كامل مروة , الذي قضى شهيداً. 

في الطابق السابع من "سيتي سنتر" , كنا أسرة فرع " الهيئة العامة للكتاب " في بيروت, نلتف حول  إسلام شلبي , و يدور الكلام, و يُجدل حول الخطة التي وضعها,  لنشر كتب رواد الأدب و الثقافة من الكتاب المصريين. كان إسلام شلبي إداريا متمكنا, يشير و يُستشار, يطرح, و يناقش, يسمع, و يجادل, قبل اتخاذ القرار, و كان , برّد الله ثراه, غواصاً على دقائق الأفكار, و الإقتراحات التي يسمعها. 

و كان إختار عباس العقاد و توفيق الحكيم في البداية لانطلاق  شريان التنوير الجديد في بيروت،  و بمستطيل الكلام, راح يشرح  خطته لإصدارات متنوعة تشمل التراث العربي و العالمي, و ملامح الحراك الفكري في مصر, و منها إعادة طباعة موسوعة " وصف مصر ".    و من ضمن خطة فرع بيروت, التي وافقت القاهرة عليها, إنشاء "مطبعة مصرية" لإستعادة سوق بيروت, و إنقاذ المنطقة العربية من أيدي المزورين و سارقي حقوق المؤلفين.

و بدأت, بعد التفاهم مع إسلام,  وضع تصميمات مميزة لدعم و عرض جواهر مؤلفات الحكيم و العقاد الثرية بالفكر، مسخراً الوسائل البصرية لتصميم الأغلفة, و الإمكانيات الطباعية و تقنياتها الحديثة التي تمتاز بها بيروت المتقدمة و السبّاقة الى جديد عالم الطباعة,      و أقمت التوازن الصحيح بين الحرف المناسب, قياسا و حجماً, في تنضيد الكتاب, لإعطاء الراحة النظرية و النفسية للقارئ و تجسيد محتوي الكتب، آخذاً بعينِ الإعتبارِ العديد من السياقات المختلفة للجمهور المستهدف و موقعه و أغلفة الناشرين الآخرين المنافسة كمفتاح لخلق تصميم  منافس في الأناقة  و الجمال.

بدأت بكتابين لتوفيق الحكيم: كتاب " مصر بين عهدين " و أبوابه حول " في رحلة علي جناح عصفور, و رحلة حول الحاضر, حول الشخصية المصرية  و التعليم بين الماء و الهواء , و الطعام لكل فم و عقل "... و رواية " عودة الروح "و كانت  نتاج العديد من العوامل الأدبية و السياسية التي مرت بها مصر في فترة مابين الحربين العالميتين و كذا ثورة 1919 التي بدورها قدمت إنتصاراً قومياً على الصعيد السياسي, و شبّت الأمل في نفوس المفكرين و الأدباء المصريين لتحقيق مكانة و كينونة الشخصية المصرية.  و من كتب العقاد " الله " تكلم فيه عن العقائد و كيف إنها تتطور كما تتطور العلوم  و الصناعات, فكانت عقائده الأولى  مساوية لحياته الأولى, و كذلك كانت علومه و صناعته, فليست أوائل العلم و الصناعة بأرقي من أوائل الأديان و العبادات. و يتابع العقاد نشأة العقيدة الإلهية منذ أن إتخذ الإنسان له رب , و الى أن عَرَف الله الواحد الأحد و إهتدى الى التوحيد. 

و كذلك كتاب " أثر العرب فى الحضارة الاوربية " و فيه يُقدر العقاد في هذا الكتاب أن أثر اوروبا الحديثة في النهضة العربية هو نوع من سداد الديون، من حضارة إستفادت الكثير الى حضارة أنارت العالم وقت أن سادته الظلمات.

كان إسلام شلبي حريصاً علي الالتزام بحقوق المؤلف, و كلفني بالسفر للقاهرة لتوقيع عقد النشر مع توفيق الحكيم لحفظ حقوقه الأدبية      و تسليمه حقوقه المادية عن الكتابين .

في الطابق السادس من مبنى " الاهرام" التقيت توفيق الحكيم في مكتبه, و كان يشاركه فيه الصديق الفنان التشكيلى صلاح طاهر، سلمته عقد النشر و صك مصرفي بقيمته، رفض الحكيم توقيع العقد قبل صرف قيمة الصك نقداً، فكلف أحد موظفي "الأهرام" بالذهاب للبنك لصرف " الصك"، بقيت ساعتين بمكتبه من  دون أن يتفضل بدعوتي على " فنجان " قهوة,  أو حتى علي كوب من الماء, و انا آتٍ خصيصاً من بيروت. و قدر الله, و عاد العامل ومعه المبلغ نقداً و عداً... فرك الحكيم بأصابعه الأوراق النقدية مرات عدّة, قبل أن يضعها في محفظته الجلدية البالية من القدم, ثم تناول القلم, و مرّره على مهل على ورقة العقد.  إتصف توفيق الحكيم بحرصه الشديد على المال، على الرغم من أن الدكتور طه حسين أنكر هذا الاتهام بالبخل، و قال في أحد مقالاته أن توفيق الحكيم يدعي أنه بخيل و يصور نفسه للناس بصورة  ليس بينها و بين الحق من أمرك صلة. 

و في حوار نادر للأديب توفيق الحكيم كشف فيه عن واقعة حدثت بينه و بين كوكب الشرق قائلاً : "كانت " أم كلثوم تقوم بحملة تبرعات من أجل النهوض بنقابة الموسيقيين و بالتالى جاء الدور عليّ ، فطلبت مني أن اتبرع بمبلغ 5 جنيهات فقمت علي الفور باعطائها المحفظة التي أضع فيها  أموالي و عندما "فتشتها " وجدتها خالية لايوجد بها أي مبالغ ".

 و تابع الحكيم " انني كنت أقوم بإخفاء النقود في " جراب" نظارتي و عندما علمت كوكب الشرق بهذه الخطة أصابتها الدهشة و علّقت بقولها "ياخبر أنت حاطط الفلوس في عينيك" !  أما حقوق التأليف لكتب عباس محمود العقاد فلا يخاف عليها، فكان يرعاها بعد وفاته الكاتب عامر العقاد, إبن أخ العقاد و أحد ورثته,  و عُرف في بيروت بلقب " حامل الحقيبة "، يحضر الي بيروت مرتين أو اكثر لتسويق أعمال عمه و تحصيل المستحقات، رحمه الله كان شخصية ملحاحة, لجوجة, بلا حياء و خجل, ، لا يغادر مكاتب أي من دور النشر, و شركات التوزيع, و المكتبات...  قبل أن يحصل على حق "العم" بأي شكل من الأشكال,  و بأي وسيلة من الوسائل,  نقداً  و عدّاً, أم  صكاً مصرفياً  مقبول الدفع ، لا يقبل الوعود فهو يحاصرك حتي يُحصّل الحقوق المادية.  بعدما إكتمل الشكل القانوني، و تمت الموافقة على ما صُرف له الوقت في التصميم, و تحدد الشكل النهائي للكتب إنطلقت الى مطابع بيروت باحثاً و دارساً لأفضل الإمكانيات لتحقيق المراد, و كان في البحث متعة  و إفادة, و لها الكلام الطويل.  

 

تم نسخ الرابط