فَتَحَت الشمس أجفانها على نهار مدينة محمومة، تسعى إلى العملِ، والقرش، و... الخبز. "هكذا يولد النهار بلمسة من أصابع الشمس"، رفرف الصوت في داخلي، وأنا أمدُّ رأسي من النافذة، داعبت وجهي أشعة الشمس، استسلمتُ لها، كان النسيم، في ذلك الصباح، يَرْقُصُ على أوراق الشجر، ويغنج بين الأغصان، وشارع "مدام كوري" دبَّت فيه الحيوية، كالعادة، باكرًا، والرصيفُ تَعِبٌ من الأقدام التي تدوسه، تضرب بدعساتها البلاط الصغير بلا رحمة.
أحسست أن عروقي ما ارتوت بعد من البن الأسود، قلّبت فنجان القهوة في جوفي دفعة واحدة، ألحَّ على إدماني التدخين، فتَّشتُ عن الغليون، حشوته، مرَرتُ عود الكبريت على التبغ، استطيبتُ نفسًا منه، ورحت بين السحبة والأخرى أتأمل دقة شغله من خشب الورد.
تَمَدَّدَ في داخلي شعور بالفرح، غمرني، أعطيته مداه، للمرة الرابعة قرأت عقد الإيجار للمكان الرحب في "المكلس"، الذي ستولد فيه أول مطبعة مصرية في عاصمة المطابع في العالم العربي. لفني الزهو، مرَّ على عينيَّ بريق الانتصار، أحسست أنني أجلس على قمة الدنيا.
بحركة لا شعورية، رميت نظرة عجلى على الساعة في معصمي، لفني الامتعاض، مع أنني كنت استعذب الدرب إلى المكتب، إلاّ أنني ذلك الصباح، وددت أن يسرع بنا السائق، تتأرجح في رأسي الأفكار، الوجوه تأتي إلى ذهني كأنها في سفر، وتذهب من ذهني كأنها على سفر أيضًا.
استسلمت لعجقة "ساحة الشهداء"، تعجلت الخطى، وأنا أشق طريقي إلى مكتب "الهيئة"، فقد كنت على يقين بأن إسلام شلبي مشغول البال ليرى بين يديه تلك الورقة السحرية، التي هي المدماك الأول في صرح أول مؤسسة مصرية رسمية خارج مصر.
لما سمع صوتي، خرج من مكتبه، جمد في مكانه، دبت في عينيه يقظة، وشَاعَ في نظرتهما الابتسام، وهتف:
"إيه... حصل المُراد؟"
عاد لسانه إلى غمده من دون أن يتفوه بكلمة، سحبت من الحقيبة ورقة الإيجار، لوّحت بها، دارت عيناه في محجريهما دورة سريعة، هتف:
"مبروك... مبروك علينا كلنا".
وضحك ضحكة عامرة.
كان توقيع عقد الإجارة لمقر "مطبعة الهيئة المصرية للكتاب" بالنسبة إلينا، إسلام شلبي وأنا، هو بداية تحقيق حلم، طالما أرّقنا، وسهرنا نعد لتحقيقه، وهدفنا إعادة إحياء الدور الثقافي لمصر في المنطقة العربية، وعقد "بروتوكولات تعاون" مع دور النشر وشركات التوزيع، لوقف نزيف إهدار "حقوق الملكية للناشر والمبدعين من المؤلفين والكتاب".
وهو في جوهره أيضًا، مرحلة جديدة في تاريخ مؤسسات الدولة المصرية، للانطلاق خارج الحدود بعد حركة الضباط الأحرار سنة 1952، فباستثناء "شركة النصر للتصدير والاستيراد"، التي رأت النور وبدأت تنشط سنة 1958، وتُعَرَّفُ، ويُدلُّ عليها بالبنان، أنَّها "شركة قطاع خاص"، برأس مال بسيط، لم تعبر مؤسسة مصرية الحدود إلى أي دولة من دول العالم العربيٍ.
و"شركة النصر"، كان أسسها محمد غانم، رجل الاستخبارات المعروف، الذي كانت له صولات وجولات في هذا المضمار، أهمها مكثه في بيروت سنوات ثلاث، في عملية محددة، وهي إجهاض "حلف بغداد"، الذي كان رأس الحربة فيه نوري السعيد، رئيس الحكومة العراقية في هاتيك الأيام، وكان محمد غانم، يتستر بغطاء شركة "النيل للإعلانات"، ويُعرِف نفسه بأنه مدير فرعها في العاصمة اللبنانية.
بعد انتهاء انتدابه لتلك المهمة، عاد إلى "المحروسة"، فأسس "شركة النصر"، وقد أقنع أولي الأمر، ذياك الزمن، أن تلك الشركة ستشكل انفتاحًا لمصر على أسواق العالم.
ولم ترحم قرارات التأميم "شركة النصر"، ولم يشفع لها أن مؤسسها من "عظام رقبة النظام"، كما يقول العوام، فأُممت سنة 1961، أسوة بغيرها من شركات ما يسمى "القطاع الخاص"، فزاد رأس مالها إلى مليون جنيه، وتفرع عنها 25 فرعًا في إفريقيا وأوروبا والبلاد العربية، منها 17 فرعًا في إفريقيا وحدها، ثم أصبح لها أسطولًا للنقل البحري، وصارت واحدة من أهم 600 شركة في العالم.
وراحت الشركة تستثمر في العقارات، وتجني الأرباح الطائلة، وعلى لائحة ممتلكاتها بناية من 16 طابقًا في "أبيدجان" (ساحل العاج)، وأخرى على شاكلتها في "النيجر"، إلى جانب العديد من المباني والمخازن، في "دار السلام"، و" زامبيا"، و"كينيا"، " بانجي" و"الكونغو".
"مصري أبًا عن جد"
ابتسم جوزف عبود، وتحركت قسمات وجهه الدقيقة مع تمدد شفتيه، مربوع القامة، نحيف الجسم، أنف دقيق، على أرنبته يركز نظارة طبية، فلا تبقى طويلًا، فيرفعها متى توقف عن القراءة، تطل من شعر رأسه الأملس، شعيرات بيضاء، عينان واسعتان، تدوران في محجريهما، يندلق منهما بريق جاذب، هادئ النبرات، حاد الذكاء، يجرب مع محدثه كل أنواع التودد، وهو كان هجر مصر مع الذين هجروها، سعيًا للرزق في أراضي الله الواسعة، وحط ترحاله في بيروت، التي فتحت له صدرها وقلبها، ومنحته فرصة عمره، ومعها، وهويتها اللبنانية، فعمل ونجح، وأصبح وكيلًا للآلات "مونوتايب"Monotype للتنضيد الضوئي، وتوسعت تجارته وتولى حصريًا وكالة "شركة ليتل جون "Littlejohn لكاميرات التصوير الميكانيكي في الشرق الأدنى، فيما بعد انتقلت الوكالة الحصرية للصديق عماد شبارو.
في مكتبه في "الجميزة" استقبلني، وكان ودودًا، وأدار الكلام، بلغة الخبير، عن التقدم الكبير الذي وفرته آلات التنضيد الضوئي مقارنة بآلات "لاينوتايب "Linotype، التي تعمل بالمعادن المنصهرة هو التخلص من الأحرف المعدنية، ونجحت وتفوقت "مونوتايب" في نظام التصفيف الضوئي، من خلال إنتاج الأحرف الطباعية على أفلام أو ورق تصوير حساس للضوء، فأطلقت آلة "مونوفوتو " Monophoto، التي تعمل على " الإلكترون" وتصور الأحرف عن طريق قرص زجاجي واحد، صُورت عليه جميع الأحرف، فيدور القرص ليقع الضوء الشعاعي على الحرف المطلوب. كان هذا اختياري الاول لعملية التنضيد، فأثنى جوزف عبود على اختياري، وساعدني، متعاونًا إلى أقصى حد، في التفاوض مع الشركة الأم في بريطانيا، للحصول على أفضل وأقل سعر، ونجحنا، وكان لنا ما أردنا، ولم يسبق للشركة الانجليزية أن قدمته لأحد.
بين آلات طباعة "أوفست"، أو الطباعة اللوحية غير المباشرة، فهي تعتمد بدرجة كبيرة على مهارة "الطَّباع" المتعاطي مع الآلة. شركتان ألمانيتان، تتنافسان على أسواق العرب: "هايدلبرغ" و"رولاند". وللشركتين وكيلين أساسيين في مصر: وكيل "هايدلبرغ" هو يوسف علام، أما "رولاند"، فقد اختارت يوسف قارة وكيلًا لها في العالم العربي انطلاقا من بيروت.
بعد دراسة، وقع اختياري على آلات "رولاند"، وقد رجحت كفتها بسبب من خبرة العمالة اللبنانية بها، تشغيلًا، وصيانة. وقد أسعفني كل من نقولا وإحسان قارة، وقد توليا مساعدة والدهما في إدارة الوكالة، على تفضيل آلةRoland Ultra أربعة ألوان على غيرها، وآلة اصغر حجمًا وقدرة، Favorit ذات لون واحد لطباعة الأغلفة، إلى العديد من الأجهزة المساعدة لقص الورق من Polar وتصوير من Klimsch. وتمكنت من الحصول من جوزف عبود ويوسف قارة، على "فواتير تنفيذية" أو Proforma Invoices لإرسالها للقاهرة لتحويل قيمة شراء الآلات والمعدات لزوم تجهيز المطبعة.
وقف مني إسلام شلبي على ما اخترت، وأنجزت، تعاظم شعوره بالاعتزاز وتسلم مني فواتير الشراء. رفع نظره عن الورقة، قال بنبرة واثقة، شعرت بعدها أنه حبس دمعة فرح:
"اقتربنا من تحقيق الحلم"..
أدار ظهره، ومشى إلى مكتبه مدفوعًا بالاعتزاز.



