حكّ إسلام شلبي رأسه، كأنه يحرك ويخلط الكلام فيه. انتعش الدخان بالقرب من سقف غرفة المكتب. ما كاد إسلام شلبي يدني فنجان القهوة من فمه، حتى هتف:
"العقاد.. هو.. هو العقاد، بعد توفيق الحكيم، لا بد من نشر نتاج عباس محمود العقاد".
بدا سعيدًا، منتشيًا، أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته، تلذذ به، خطفت منه فرحته:
"هل نسيت أن حقوق نشر مؤلفات العقاد تتقاسمها "دار الهلال المصرية"، و"المكتبة العصرية" اللبنانية؟". فرك رأس سيجارته في المنفضة، قطب وهو يتركني أكمل:
"انتهت تلك الحقوق عند "دار نهضة مصر"، وفي السنوات العشر الأخيرات من حياة العقاد، كان ابن أخيه عامر العقاد، هو سكرتيره الشخصي، ومراجع مقالاته".
خطف إسلام شلبي مني الكلام، وبنبرة فيها رنة امتعاض، نسج كلامه:
"وسي عامر أفندي نصب نفسه مسؤولًا، ومدافعًا، ومنافحًا عن حقوق ملكية عمه الفكرية".
وعامر، مقتر، ملحاح، لجوج، يحضر الي بيروت مرة كل شهرين، فيصرف أسبوعًا أو أسبوعين، في التدقيق، والجمع، والطرح، والقسمة، وعدّ الليرات والقروش، فلا تفوته فائتة، ولا مرّ على رقم إلاّ أشبعه بحثًا، ومراجعة، وتدقيقًا، وهو يُحصل ما جنته كتب عمه.
التقاه إسلام شلبي أكثر من مرة، وأكثر من مرة، طلب منه حقوق نشر "العبقريات" التي تناول فيها حياة عدد من الشخصيات الدينية، ومنها "عبقرية محمد"، "عبقرية المسيح"، "عبقرية عمر"، "عبقرية الإمام"، لكنه في كل مرة كان يلقى منه الصدود. وإن أغدقه وعودًا، ثم تفلتًا من تلك الوعود، ومراوغة.
"حل عقدة سي عامر أفندي.. عندي"
تأفف بين الجد والهزل:
"هل عندك من يمكن إقناع هذا الرجل.. فعلًا".
أجبته بتلقائية:
"عم حمزة.. طباخ العقاد، هو الذي سيحلحل عقدة سي عامر أفندي".
التفت إليه فرأيت الشك في وجهه، أكملت مصرًا:
"دعني أجتمع به متى جاء الى بيروت".
ضرب كفًا بكف:
"طيب.. يا سيدي، خلينا نشوف، العم حمزة بتاعك".
في المساء اتصلت تليفونيًا بأستاذي في المرحلة الثانوية خليفة التونسي، وكان الرجل من حواريي العقاد الأوفياء، وكان، برّد الله ثراه، يصحبني معه أحيانًا للمشاركة في ندوات صالون العقاد، الذي كان ينعقد كل يوم جمعة في منزله رقم 13 "شارع شفيق غربال" في منطقة "روكسي" في "مصر الجديدة"، حيث الصالونات الثقافية والجلسات يجتمع فيه كبار الأدباء والفنانين والسياسيين. طالبت أستاذي الذي علمني اللغة العربية وكتابة الشعر، بالتدخل بالوساطة لمنح فرع "هيئة الكتاب" ببيروت حقوق النشر. ووعد خيرًا.
عاد عامر لبيروت وكان اللقاء في مكتب إسلام شلبي، تعارفنا وتحادثنا عن ذكريات شهدتها جدران المنزل، والحضور مع من يختارهم العقاد للزيارة في الغرفة الأولى التي تقع على يمين المدخل والتي تضم تمثالا للزعيم الوطني سعد زغلول، وتمثالا للعقاد، من إبداع الفنان محمود مختار، وتتوزع على الحيطان صور "معبد أنس الوجود" في "أسوان"، وصورة للشيخ محمد عبده، ولوحة رسمها له الفنان أحمد صبري، والاستمتاع بمشروب عم حمزة طباخ العقاد من الليمون أو القهوة.
انتشى سي عامر أفندي بذكر العم حمزة، ومشروبه "الموصوف"، كما كان يصفه العقاد نفسه، وانحلت عقدة لسانه.
اجتهدت في الحديث والمزج في الحكي المؤدي لكسر الجليد، وإزالة التوتر، وجذب الانتباه، ثم التكيف مع الإطار الذهني لضيفنا، سي عامر أفندي، الذي قاده هذا الإطار للاهتمام بخطة مكتب بيروت لهيئة الكتاب بنشر عبقريات العقاد، وافق، فكان الاتفاق الذي حقق أمنيات وأحلام إسلام شلبي. لهثت وأنا جالس ساكنًا، فالفرحة تغمرني وتغرد في داخلي: تحقيق حلم المطبعة، ونشر ما تيسر من كنوز عباس محمود العقاد.
سَجىَ الليل، رَشَّ نجومه في السماء، نام في الشوارع، في بيوت الناس. رمى الصمت ظله الثقيل. "اللمبة"، تلفظ ضوءًا شحيحًا، تعارك مع عتمة الغرفة، فلم يَقْوَ على سوادها.
استحوذ علي فرح غامر. تَلَوَّنَ ليلي بالأفكار، تدافعت الصور في ذهني، رتبت مواعيد استلام آلات المطبعة، طرت بزهوي، رددت بسري "الفرح لحظة والرضا حياة"، لا أذكر لمَنْ مِنَ الكتاب، قرأت هذا الكلام، قَلَّبْتُ في ذاكرتي الأسماء، فلم أعثر على اسم كاتب، أو... أين قرأته، ولماذا حفظته عن ظهر قلب؟!
أغمضت عنيَّ، انتشيت بالسكون المحيط بي، رسمت دربي الى المكتب، رتبت أوراق العقود، وعلى دفتر الملاحظات الذي لا يفارقني، سجلت ما علي القيام به بعد وصول الدكتور محمود الشنيطي، ومعه الحوالات المالية.
وقفت أمام النافذة، مستترًا بالعتمة، نظرت الى الساعة في معصمي، بعين مثقلة، استحوذت عليَّ رغبة ملحاحة في النزول الى الشارع.
الليلُ يَنْتَحِبُ على النافذة أمامي، رويدًا.. رويدًا هَلَّ مِرْسَالُ الشَمْسِ، تسلقت على حيطان البنايات، تدثر جسد الأشياء بفساتين مغزولة من أشعتها، أصبحت الغرفة، مغمورة بها، تيقَّظَت حواسي، طَلَعَ النهارُ، ولا أجمل من صياح الديكة. انتشى قلبي، أحسست بالطمأنينة، وأن المستقبل بدأ يبتسم لي، بعد عبوس، أعجبني هذا الإحساس، ندت عن شفتي ابتسامة، أعطيتها مداها، وأنا أمرر نظري على وجهي المعكوس في المرآة.
حملت حقيبة اليد، وأعطيت وجهي للشارع، وددت لو أطير الى "بناية صمدي وصالحة".
كان صوت سي عبد الغفار أفندي، يتغير تبعًا لامتلاء فمه من "منقوشة" الزعتر، (التي عشقها ولا يبدأ نهاره ولا يهنأ إلا بها)، وخلوه منها، يتذمر كالعادة من عدم وصول الفواتير إليه، قبل إغلاق حسابات الشهر، وبين الفينة والفينة، يتنحنح
متأففًا، ويغمغم كلمات غير مفهومة، ويزيده علاء التوكل، حنقًا، ببلادته، وهدوء أعصابه، فيعود سي عبد الغفار أفندي، يهتزُّ من الغيظ مثل قصبة سكر ممصوصة.
غمز لي علاء، وهو يضحك، تلك الضحكة الحبيبة بين عينيه وفمه.
"أعصابك يا سي عبد الغفار.. أعصابك".
ردَّ عليَّ من دون أن يرفع نظره عن الأوراق التي كان يقلبها:
"أعمل إيه.. محدش بيساعد".
وكان يغمز من قناة علاء التوكل.
أومأت فاطمة، اقتربت منها، همست في أذني: "القهوة هذا الصباح في مكتبك أم في مكتب الأستاذ إسلام؟".
"أتناوله اليوم مع إسلام".
ازدحمت في عينيه الكلمات، رماني بنظرة حملها كل فرحه،، نسي السيكارة في المنفضة، مدَّ يده الى علبة السكائر، سحب منها واحدة، أشعلها، تفطن الى السيكارة في المنفضة، فرك رأسها، أطفأها، عَبَّ نفسًا عميقًا من السيكارة الأخرى، التي حبسها بين شفتيه. قال بزهو الطاووس:
"الدكتور محمود الشنيطي، سيصل بعد الظهر من القاهرة".
تنحنح، أحكم قعدته: "ساعات قليلات ويكون كل شيء بين أيدينا، والحلم الذي عملنا لتحقيقه، سيتحقق فعلا".
استمكن منه الفرح، تناول كوب الماء، أفرغه في جوفه دفعة واحدة، تحفز للكلام، شيء ما رده عنه، مسح فمه بإبهامه، ثم رمقني بنظرة حملها علامات استفهام حائرة، انتظر أن أرد، لم أرد بكلمة، كنت مغمورًا بالسعادة، رفرف قلبي منتشيًا، كل ما فكرت في قوله لحظتها:
"لا أخفيك، لم أنم البارحة، وأنا أنتظر بزوغ الفجر، أعد الساعات، كي يحين موعد المكتب".
وسكت. وددت لو أكملت: "مثل طفل ينتظر أن يأتيه والده باللعب".
..فهل يأتي بها؟



