يلوح في أجواء الإعلام الفرنسي صمت المذنبين، الذين يرون بأم أعينهم المذبحة الفلسطينية ويتحدثون بحزن مريب عن معاناة سكان المستوطنات الإسرائيلية من "الإرهاب الفلسطيني"! هل يمكن انتقاد إسرائيل في وسائل الإعلام الفرنسية؟ سؤال حاول الإجابة عليه آلان مينارغ رئيس تحرير إذاعة فرنسا الدولية عام ٢٠٠٤ وفقد منصبه. باسكال بونيفاس مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بباريس أصدر كتاباً بعنوان «هل من المسموح نقد إسرائيل في فرنسا؟»، وتعرض لأعنف الحملات الإعلامية ورفعت عليه السفارة الإسرائيلية بباريس دعوى قضائية!
فهل من مخرج للانفلات من القبضة الحديدة الصهيونية على الإعلام الفرنسي؟
اعتبر سيرج حليمي في كتابه "كلاب الحراسة الجدد"، أن الإعلام الفرنسي بأغلبه مدفوع الثمن واعتبر قادة هذا الإعلام كلاب حراسة الشركات الكبرى واللوبيات. واعتبر الفيلسوف أدجار موران أن محاربة الإرهاب لن تنجح بتسليط إرهاب الدولة، ولكن محاربة الإرهاب تتم بتوفير العدالة.. وهذه قناعات تسلح بها كتاب وصحفيون فرنسيون مثل آلان غريش ودومنيك فيدال وأريك رولو وجيزيل حليمي، وهم جميعهم من أصول يهودية ومن المدافعين عن الحقوق الفلسطينية.
ولكن هذه أقلية لا يستعان برأيها في وسائل الإعلام الرسمية إلا ما ندر، فحوالى 90 بالمئة من البث الإعلامي للدولة والشركات الخاصة مخصص لدعم أمن إسرائيل ونصرتها. والقتل الصهيوني المنظم للفلسطينيين في نظرهم "دفاع مشروع عن النفس"! ولا يحق للفلسطينيين الدفاع عن النفس، لأنهم إرهابيون!
إن الثغرة في جدار الصمت الإعلامي الفرنسي يمكن تلمس مظاهرها بنحو واضح، مع اندلاع انتفاضة المقدس، التي أحدثت شرخاً ولو بسيطاً في جدار هذا الصمت، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: طبيعة الانتفاضة الجديدة فلأول مرة منذ نكبة 1948 يتولى الشباب الفلسطيني داخل إسرائيل زمام الانتفاضة، ولأول مرة أيضاً ينخرط مسيحيو الداخل الفلسطيني بفعالية وبالسلاح ضد القوات الأمنية الإسرائيلية. وهو أمر مؤثر جداً على عموم الفرنسيين الذين وإن كانوا علمانيين فخلفيتهم دينية، فمن فرنسا انطلقت أغلب الحروب الصليبية. وإلى اليوم تجاهر الدولة الفرنسية بعلمانيتها ولكنها تحافظ على عطلها بالمناسبات الدينية، حقيقة أدركها ياسر عرفات حين نصح بتعيين سفراء مسيحيين لمنظمة التحرير في باريس مثل إبراهيم الصوص وليلى شهيد وإلياس صنبر.
ثانياً: من أطلق الانتفاضة؟ لأول مرة لم تكن حركة فتح ولا حركة حماس المسؤولين عن قيام انتفاضة القدس الجديدة، فقد كان فلسطينيو الداخل من أطلقوها، ولأول مرة تجري المواجهات العسكرية بين فلسطيني الداخل وهم مواطنون إسرائيليون والقوات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
ثالثاً: جيل نتنياهو تطلق بعض الأوساط الصحفية والأكاديمية على شباب القدس المنتفضين "جيل نتنياهو"، لكونهم لم يعرفوا أحدا غيره في السلطة منذ (1996 إلى 1999ثم من 2009 إلى اليوم)، ويعتبرونه السبب في تمزيق نسيج مواطينيتهم الإسرائيلية، ففي عهده ( 19 تموز/يوليو 2018) صدر قانون يُعرِّف إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي. بمعنى لم يعد لهم مكان في داخل الدولة القومية اليهودية!
رابعاً: الحق مع القوي وتلك مقولة يؤمن بها الغرب عامة والفرنسيون خاصة، والقوي في هذه الانتفاضة المنتصر فيها، والدلائل تشير إلى أن الفلسطينيين أثبتوا جدارتهم لكونهم أنهوا أسطورة "جيش إسرائيل لا يقهر"، وأسقطوا تفوق التكنولوجيا الإسرائيلية وفعالية القبة الحديدية التي لا تسمح لطير بالطيران فوقها، فكما ينقل مراسل صحيفة "ويست فرانس"، الأكثر حماسا لإسرائيل فإن غزة أطلقت في يومين (11و12 آيار/مايو) 1200 صاروخ خرق 950 منها على الأقل القبة الحديدية!! ولأول مرة أثارت هذه الصواريخ الرعب بين الإسرائيليين، وأصابت مطارات ومدنا آمنة كما كانت إسرائيل تتفاخر.
الثغرة في جدار الصمت الإعلامي حدثت بفعل صحف النخبة مثل "ميديا بارت" و"لوموند ديبلوماتيك"، والفرنسيين العرب مثل علي بادو في إذاعة "فرانس انتير"، وكريم رسولي في "القناة التليفزيونية الخامسة"، اللذين نظما برامج استضافا فيها فرنسيين من أصول يهودية وتطرقوا للسياسة العنصرية الإسرائيلية، ونخص بالذكر بروفيسور سامي كوهين، أستاذ الجيوبوليتك الذي نشر كتاباً بعنوان" إسرائيل ديمقراطية هشة"، وتحدث عن استفراد المستوطنين طيلة عقدين بحكم إسرائيل. تلك ثغرة إعلامية تشير الدلائل إلى كونها بدأت وستتسع.



