الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

الدنيا أصيل, و الوقت صيف, و"شارع بلس", المرتجف وراء ظلال المغيب, لا يستكين, و لا تهدأ حركته, و لا تهمد. عشرات الأشياء تلهيك في هذا الشارع و تدهشك. إستيقظت حواسي, تعجلت الخطوات الى "مطعم فيصل", الذي ضرب لي إسلام شلبي موعداً فيه, فهو دائم الشوق لذلك المطعم, الذي كان مساحب أذيال للهوه, و مجالس أنسه.

لمّا دخلتُ, رآني, ندّت عن يده المرفوعة حركة غريبة, في إشارة الى مكانه. كان إسلام شلبي يجلس مع شابين, الى طاولة في ركن قصي.

إكتسى وجه إسلام شلبي بغبطة مستقرة, طلع صوته مضمخاً بإعتزازه: " مودي حكيم... صديق, و زميل, و حبيب".

أشار بيده:

"سامي ناصر"…

دار بعينيه على وجهي, ترك إبتسامة, لا تفسير لها سوى المجاملة:

"تشرفنا".

مدّ يده, دفن كفه بكفي. أكمل إسلام:

"موريس يعقوب"…

رَنا إليَّ ملياًّ, يملأ عينيه من ملامح وجهي, ترك إبتسامة  ودودة على شفتيه الدقيقتين, و إكتفى بالضغط على يدي. كان سامي ناصر مديراً لمكتب"الطيران البريطاني عبر البحار" BOAC (تغير الإسم الى "الخطوط الجوية البريطانية"BA), أما موريس يعقوب, فكان واحداً من المسؤولين المتنفذين في إحدى شركات الأدوية العالمية, التي إختارت بيروت مركزاً لها في المنطقة العربية.

أدار إسلام شلبي في الحديث, غلبه الشوق الى الأيام الخوالي, و الى سنوات الدراسة في "الجامعة الأمريكية", وقت كان الثلاثة لا يفترقون, و كان "مطعم فيصل", ملجأهم و مأواهم, فيه كانت لقاءات الحب, و أنسها, و فيه نمت العشرة الطيبة, و فيه أيضاً كانت جلسات النقاش و إحتدامها.

برهات, حل صمت بليد. زَمَّ إسلام شلبي عينيه, أطَلَّ منهما رجل نهم, مسحوق, مهموم. سَعَلَ و أحكم قعدته, وَ شَّحَ نبراته بشيء من الحزن و هو يحكي لصديقي عمره ما دار و كان و جرى, منذ تأسيس فرع بيروت لهيئة الكتاب, و ما خططنا له, و بدأنا به, من نشر, و توزيع, و كيف أنه ما رَفَّ لأحد من الزملاء في القاهرة, جفن علينا... و ألحَّ عليه إمتعاضه. حاولت ان أخفف عنه, أخذت ناصية الكلام, و شرحت ما كنا أعددنا له لتأسيس المطبعة... كان إسلام شلبي, و أنا أستفيض في الكلام, زائغ البصر, واجف القلب, يكتفي بهز  برأسه موافقاً على ما كنت أقول, عبّ من سيجارة, حشرها بين شفتيه, نفساً, ضاع الدخان الرمادي بين انفه و فمه.

افرغ سامي ناصر كوب ماء في جوفه دفعة واحدة, فتح عينيه على إتساعهما, أكل وجهي بعينيه الصغيرتين و طاف الإستغراب و التعجب فيهما, أدركت أنني إستحوذت على إهتمامه.

تنحنح موريس يعقوب, كان طوال الوقت, ينقل نظره بيني و بين إسلام شلبي, تنبّهت الى نظراته المستفسرة, فرحت أزيد في الكلام, و أرضي شغفه, و توقه, و فضوله.

تكور لساني في حلقي, ضاعت الكلمات مني, سكتُ.

تناثر بعدها الكلام, أخذ سامي ناصر, يجدل أفكاره, يروزُ كل كلمة, قبل أن يخرجها من حبس شفتيه, أعطى كلامه مداه, تنتفخ عروق رقبته و هو يتكلم , رسم بيديه و عينيه علامات الإستفهام و... إرتاح.

حَكَّ موريس يعقوب رأسه, و هو يتلفت نحو إسلام شلبي, من دون أن تتلاقي العينان, خَرَجَ الصوت من حنجرته مهزوزاً, قَلَّبَ الافكار برأسه و بلسانه, كانت الكلمات تتثاءب على فمه, يمطها و يستسهل. تَبَيَّنَ أنَّهُ أفرَطَ في الكلام, سَعَلَ, و إنقطع سيل الكلمات, بحث بعصبية عن سيجارة, أشعلها, إنتشى بنفس طويل منها.

رَمَقَنا إسلام شلبي بنظرة عجلى, مَسَحَ فمه بإبهامه و إشتعلت اللهفة في عينيه, إندفعت الكلمات عجلى, مليئة بثقته بنفسه:

"لن أتخلّى عن الفكرة, لن أدع أي شخص, مهما علت به المناصب, أن يقضي على حلمي".

لَمْلَمَ من وجوهنا إستغرابنا, و طفق يعرض فكرته, التي تقوم على تأسيس شركة للنشر و التوزيع, و ستكون لها دراسة جدوى, محكمة الحلقات, على اساسها سيسعى الى طرق أبواب مكاتب المستثمرين,  و عنده منهم غير شخص في دولة الإمارات".

لاحقت حركة رأسه بعيني, و هو يقول:

" عليَّ بالمال, و نجاح العمل متوقف على مودي...".

ثم رمقني بنظرة ذات معنى:

" عليك إعتمادي يا صديقي".

إمتلأ رأسي بشيء أشبه بالقلق, وهبت نفسي للظنون, نعرني الصوت في داخلي "ما عساي فاعل... كيف أتدبر أمور الحياة, أنا لست مثلكم, يا سادة, أنا لا أمتلك متعة الإنتظار, حتى يأتي من يفضي علينا في الخليج المتصالح, من نعمه, و يسهل لنا سبل العيش, في الغربة التي لا ترحم, بعيداً عن الناس الذين نعرفهم"... أسكت الصوت الناعر في داخلي, وجدت نفسي أجيب على البديهة:

"أنا حاضر... أنا حاضر".

و ضحكت ضحكة مكروب, و بلعت ريقاً بارداً تجمد في حلقي و... سكت.

بلغ بسامي ناصر و موريس يعقوب الإعجاب بالفكرة منتهاه, فلقد تمكن إسلام شلبي, بما نثره عليهما من أفكار, و آراء,  و حجج ... من إقناعهما بمشروعه, فوافقاه عليه من دون تردد, ثم قررا الإسهام  فيه مالياً, كل حسب طاقته و قدرته.

طار إسلام شلبي بزهوه, جَلَسَ على قمة الدنيا, رمى على وجوهنا نظرة خيلاء, وصلتنا معانيها, و دلالاتها الواضحة.

الشركة سمَّاها "الوطن العربي للنشر والتوزيع", رسمت لها شعارها, و علامتها التجارية Logo.

هو سافر, و أنا بقيت يميتني الإنتظار.

ليَّلَ الليلُ, لفَّ بردائه الأسود كل المطارح, ضاق صدر الغرفة بي, غامت الأشياء في عيني, ضيَّعت توازن أفكاري, تأتي الصور متدافعة الى ذهني, واحدة لشريف و شيرين, و هما يتحضران للذهاب الى المدرسة, و لا يعرفان أنني قد لا أتمكن من سداد قسط الفصل الآتي. "إيستوود كوليدج", مدرستهما, لا ترحم, لا في اقساطها, و لا في رسوب تلاميذها, و تخلفهم عن المناهج التعليمية الصارمة.

جن فيَّ لهفي للتدخين, ألقمت جوزة الغليون بالتبغ, أشعلته, فتحت النافذة, هاجمتني عتمة الليل, هَلْوَسَ نسيم بارد, تَشَمَّمْتُ, فثمة رائحة ياسمين فحت من "ياسمينة" جيراننا, تلبستني نشوة غامرة, لعبت الأفكار في رأسي, و دارت التساؤلات: "الإيجار... إيجار الشقة", طنّت الكلمات في رأسي, و"مصروف البيت", و...و... وحدي أحمل توجسي وقلقي, وأضغط على الجرح النازف.

"أنت عاطل عن العمل في بلد غريب"... لكزني الصوت في داخلي.  "ربي لا تتركني", تمتمتُ, و شبكت عشري على رأسي, تهت في دنيا اللاوعي, حاصرتني التهيوءات, إنتابتني رعدة خوف: مرَّ في العتمة, أمامي, رجل دميم, ترك الجُدَري جوراً على وجهه البشع, عيناه ثعلبيتان, تدوران تحت حاجبين كثيفين, مجعد الشعر أشعثه, سمعت صوته الرخيم:

"مالك و الغربة... عد من حيث أتيت"!

و سمعت صوتي أيضاً, و أنا أردد: "لا...لا...لا".

ثم تكور, الرجل القبيح أمامي مثل أفعى تلعق جراحها و تموت بسمها. إرتعبت و إرتعشت, إنتابتني نوبة سعال حادة, خارت بعدها قواي.

نسمة هبّت, رشًّت طراوتها في أرجاء الغرفة. تبالد الليل في مشيته على عقارب الساعة, إندثرت الصور المتلاطمة في مخيلتي, أعادني صوت أمي الى صوابي:

" سلِّم يا بني أمرك لله وحده, و أنت ترى".

هَدَّني التعب, تكومت على الكرسي... غفوت. *** لم يكن ندى الليل جفّ, عندما غادر "شارع مدام كوري" عِريَهُ, و إندست في مفاصله شمس محمرة العينين, تستحثه على الحركة. كرجت على الإسفلت عجلات السيارات, و على الأرصفة طحنت أحذية المارة البلاطات الصغيرة, الملزوزة الواحدة جنب الأخرى, في تناسق رتيب .

سلمت نفسي للهواء الطلق, مشيت الى "الروشة", الطيور المارقة, فواصل في جمل الغمام الأبيض, أمدّ نظري, أسبح مع موج البحر, أسمعه من بعيد يثرثر, يحكي حكايات الرحيل, فالموج يحفظ أسرار المسافرين, و يغسل ذاكرتهم عن الوطن الذي تركوه خلفهم, و حيث يرسو الرحيل في الموانىء الغريبة, ينبت وطن آخر... و لبنان كان لي ذاك الآخر.

مَرَّ في ذهني خاطر, ألحَّ عليَّ بالعودة الى البيت, أحسست أن شيئاً ما قد يحدث, أحببت هذا الشعور المفاجىء, إزداد إرتياحي, تلوى المفتاح في القفل, فتحت باب الشقة, وما أن جلست قبالة آلة الهاتف, الجامدة, الخرساء, التي إنتظرت اياماً طويلة أن تتكلم, أن تحمل إليَّ من ينادي عليَّ, من يحكيني... حتى جنَّ جرسها, همدت, تراخت أعصابي, تركت جرس الهاتف يجن أكثر... فقلد طال إنتظاري لسماع رنينه المستحب.

 

رفعت سماعة الهاتف, وصلني صوت أليف, محبب إلي, قال لي الدكتور عبدالوهاب الكيالي, و كان صاحب "المؤسسة العربية للدراسات و النشر"و بنبرته الهادئة:

"إحزر , من يريد التحدث إليك؟"

و سكت , تركني مع حيرتي, ثم أردف مع ضحكة منتشية: " معلمك عندي... و بدو يحكي معك".

و" معلمي", الذي كان يؤثرني بمكانة في نفسه, هو كامل زهيري.

"مودي... يا حبيبي يا مودي".

تلعثمت... أدرك  أنه فاجأني:

" أنا وراك... وراك... و الزمن طويل".

لم يدعني أجيب:

" عايز أشوفك بكره في مكتب أمين الأعور في "الحمرا", الراجل هايصدر مجلة, و عايزك معانا فاهم... عايزك معانا".

 رَفَّ قلبي, هي اللحظة إذاً...  و هو الفرج, تمتمت بسري "الحمد لله", و بقيت صامتاً.

"إيه... مالك... سمعتني... عايز أشوفك بكره, سلام".

كان كامل زهيري في بيروت في مهمة "إستشارية" مؤقتة,  للإشراف على سياسة التحرير, و ضبط نهجها, فهي ستكون ناصرية الهوى. و المجلة كان إسمها "بيروت المساء".

مكاتب المجلة كانت على رمية حجر من شقتنا, في زاوية "المزبودي", و مع نزلة "شارع الحمرا", من "مدام كوري" قرب بناية "إلدورادو".

لما رآني, تربعت على شفتيه إبتسامة الإطمئنان:

"هذا هو الأستاذ مودي حكيم, الذي حدثتك عنه و عن فنه و تميزه في التصميم و الإخراج الصحافي".

و ربّت كامل زهبري على كتفي.

دارت عينا أمين الأعور على وجهي, حملهما الكثير من المعاني, و كان ودوداً, مرحباً:

"المجلة, مجلتك... و ننتظر, كلنا أن تلبسها أحلى ما عندك من حلي, فتخرج كل أسبوع من تحت يديك بهية الطلة, قشيبة, تنافس, و تخلب العيون".

قبلت العرض, و المنصب, والراتب الشهري,  الذي كال يفوق ما كان يحصل عليه أي مدير فني في لبنان, في ذياك الزمن.

شعرت أن الغمة إنزاحت, و لولا ربك لما كان ما كان, و متى ربك أراد شيئاً كان.

 

تم نسخ الرابط