متوجا بتحية تقدير لدراما الاختيار (2) من الرئيس عبد الفتاح السيسي، يأتي اهتمام أهل مصر بالدراما التليفزيونية، وفي إطار الاهتمام النقدي والإعلامي الواضح هذا العام بها، أصبح من الضرورة مناقشة الدراما التليفزيونية من زاوية محددة، ألا وهي قدرتها على صناعة الوعي العام وتطوير الذائقة الجمالية.
ما يدفعها إلى مناقشة المنشأ الأول للدراما، وهو ليس المؤلف أو المخرج أو الفنانين المشاركين، رغم أنهم صناع العمل.
إن الإنتاج الدرامي هو المصدر الأول ولذلك يجب مناقشة دوره الأول الهام الذي يحدد الأدوار الفنية الأخرى. حتى لا يصبح الأمر هو النظر في إنزال العقوبة ببعض من الأفراد الفنانين.
على أهمية المراجعة والمحاسبة، وهي مسألة يقوم بها الجمهور العام ويطلق أحكامه عبرها بالدرجة الأولى، إنها سلطة المتلقي وقدرته على صناعة الرأي العام.
إلا أن أولئك الذين يملكون السلطة الاقتصادية وبالتالي السلطة الثقافية في مجتمع ما، هم الذين يسيطرون على الأعمال الفنية التي تقدم من خلال القنوات السائدة.
ويجب أن نؤكد أن النظام التراتبي الهرمي الذي تتسم به عملية إنتاج الأعمال الفنية، ينحصر في عدد قليل جدا من الأفراد أو مؤسسات الإنتاج ذات النفوذ، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان تمرير أعمالا درامية ذات سمات خاصة، دون رضا وموافقة وإرادة من خلال هذه القوى التي تتحكم في عملية الإنتاج، وهي قوة اقتصادية في المقام الأول تملك المنح والمنع.
أما السلطة الأكبر والتي تحكم إدارة الجميع، الإنتاج والإبداع معا، فهي السلطة الثقافية السائدة في المجتمع.
ولهذا فعملية الاستقبال والتلقي الجماهيري، والاستقبال النقدي تقع على أهميتها، وعلى ما تبدو عليه من استقلالية، تحت طائل هذه القوة الثقافية.
وأداتها الأساسية هي سلطة جماعات الضغط الثقافي المكونة من أصحاب الأعمدة ومقالات الرأي في الصحف والمجلات الكبرى، والتي يعمل على كتابتها النقاد الصحفيين وكبار النقاد.
ولذلك فعلى هذا النوع الثقافي من النقد الموضوعي أن يكافح من أجل التأثير في دوائر الإنتاج الدرامي، وأن يكتسب مساحة أكبر من الحركة الحرة، تسعى في اتجاه الحوار مع دوائر الإنتاج لمحاولة فهم واستيعاب تفسيرها لاهتمامها بالموضوعات ذات الطابع العنيف وقصص اللصوص والقتلة والبلطجة.
من المعروف منذ أرسطو الناقد الأول حتى الآن أن رد الفعل العاطفي للمتلقي ضرورة لقياس أهمية وقيمة الأعمال الفنية، لدرجة أصبح معها هو المعيار الجمالي والفكري للفن، وقد ظهر رد الفعل بوضوح عبر كتابة العديد من التعليقات من الجمهور العام على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولكن تقييم وفهم ردود أفعال الجمهور في إطار فعل التلقي، وهو فعل تلقائي لا تشوبه مصلحة أو خضوع لتأثير قناعات فكرية أو نقدية بعينها.
إن ردود الأفعال من الجمهور العام يمكن فهمها في إطار عاطفيتها وعفويتها على أنها هي سؤال عن الطريق نحو التحديد المجتمعي والتوافق العام على تعيين النماذج الدرامية التي يبحث الجمهور عن التوحد معها. إنها ببساطة مطالب يمكن جمعها في مطلب كبير هو مطلب المتلقي لهوية.
وهذه الهوية التي يريدها المتلقي تكمن في رغبته في الاستمتاع بدراما تضيف إلى وعيه وتمتع حواسه جماليا، ومعظم ردود أفعال الجمهور العام، أي المتلقي المستهدف في مصر كانت ردة فعل واضحة، وهي إنكار كل هذا العنف، ولهذه الصور الغرائبية للحارة الشعبية في مصر، ولمجتمع الصعيد المتماسك الملتف حول قيم مصرية تاريخية وطبيعة خاصة في التقاليد والأعراف الاجتماعية.
وللإطار العام للشفرات الاجتماعية المصرية.
وهذا الإنكار ظهر بوضوح في التقمص السلبي للعديد من الشخصيات والنماذج الدرامية التي شاهدها المتلقي وأنكرها عبر السخرية، لأن التهكم هو أقوى مراحل الإنكار والرفض.
إن الجمهور هنا يعلن بوضوح أنه يرفض تلك النماذج الدرامية المعروضة عليه، بكل ألوان العنف والغرابة، ما يجعلنا نؤكد أن هناك فهمًا خاطئًا لرغبات وأفق وتوقع الجمهور العام في مصر.
فالعمل الفني هو إعادة صياغة الواقع المتناثر، وبالتالي فلا يكتمل وجوده إلا عندما يقوم المتلقي بعملية فهمه واستقباله وتأويله.
فلا وجود موضوعي مستقل للأعمال الدرامية إلا بعد عملية التلقي الجماهيري.
ولذلك وهذه المرة سلطة الجمهور هي الأعلى صوتا، وسؤال المتلقي عن الهوية والنماذج التي تمثله وتعبر عنه هو السؤال المطروح، ولم يعد الأمر هو حديث النقاد والكتاب.
ولذا فمن الواجب على النقاد والكتاب تعيين الاتجاه، فقد أضحى أمر مراجعة دوائر الإنتاج الدرامي ضرورة وضع تصور عام وأهداف يجب تحقيقها، وذلك للعمل على مناقشة الأعمال الدرامية وهي في مرحلة ما قبل التنفيذ، والاستعانة بخبراء في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الجمال وعلم الأعصاب العام، والمختصين في الحوار مع الرأي العام، مع أساتذة الدراما ورموز الإبداع في كل المجالات، حتى يعود الإنتاج الدرامي في مصر إلى علاقته الطبيعية بالجمهور، ألا وهي التعبير عنهم وطرح الأسئلة الجديدة على الوعي العام، هذا مع كامل الفهم للقدرات الإنتاجية الكثيفة والمحترفة، والتي تحتاج لأن تتأمل بعمق في مرحلة التحضير للموسم الدرامي القادم.



