مبداَن دوليان: حظر إقامة مشروعات تضر بالحقوق التاريخية للطرف الآخر
الفقيه المصري: إثيوبيا على مشارف على الانتحار الدولي بدوافع سياسية زائلة في حياة الشعوب.. ومصر تتخذ كافة سبل الشرعية الدولية للحفاظ على أمنها المائي القومي
نواصل عرض أهم أحكام محكمة العدل الدولية من خلال أحدث دراسات الفقيه المصري المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة المصري المعروف بأبحاثه العلمية الوطنية بعنوان: "مسؤولية الأمم المتحدة وحقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل والاستقرار القضائي لمحكمة العدل الدولية توثيق لعدوان إثيوبيا على قواعد الأنهار.. دراسة تحليلية في ضوء تدخل الأمم المتحدة في النزاعات المائية النظيرة حماية للدول المتشاطئة من الإضرار بها، والمبادئ التي استنتها محكمة العدل الدولية في وحدة المصالح للمجاري المائية لبيان عدوان إثيوبيا على مياه نهر النيل"، وهو الموضوع الذي توليه مصر موضع الأهمية القصوى ويشغل بال المجتمع الدولي ويؤثر على استقرار المنطقة بأكملها، ونظرا لما تعرضه إثيوبيا من مغالطات للمجتمع الدولي وجب تنوير الرأي العام العربي والإفريقي والعالمي وفقا لقواعد العلم القانوني والانصاف والتاريخ، وأهمها السوابق القضائية لأحكام محكمة العدل الدولية. وهو ما يتناوله الفقيه في الجزء الثامن من الدراسة للمبدأين التاسع والعاشر للمحكمة الدولية.
يقول الدكتور محمد خفاجى أنه من الأمثلة الدولية أيضا على الشرعية النهرية حكم التحكيم الدولي بين إيران وافغانستان بشأن نهر الهلمند عام 1872 وأعقبه حكم التحكيم الدولي عام 1902 بحظر إقامة أي مشروع يعوق الإمداد الضروري للزراعة على ضفتي النهر، واشترط حظر إقامة أحدهما لمشروعات تضر بحقوق الطرف الآخر، حيث خلص المحكم الإنجليزي "فريدريك جولد سميد" في حكم التحكيم إلى أنه ليس من حق إيران أو أفغانستان إقامة مشروعات تضر بحقوق الطرف الآخر إلا بالاتفاق، وأن لكليهما نصيبا عادلا ومنصفا في مياه نهر الهلمند ومياه الحدود بصفة عامة. ثم تشير الدراسة لمعاهدة 1973 وأيضا للتطورات اللاحقة عام 2006 عن البنية التحتية للتخزين والري. ويضيف الفقيه المصري أنه لا ريب أن سرد تفاصيل القضية الدولية على نهر هلمند يستنتج منه أن الأعمال الأحادية على الأنهار الدولية بما يمس حقوق الدول المتشاطئة باتت من الأمور المحظورة التي توجب التشارك في المنفعة لا الانفراد والاستئثار الأحادي كما تفعل إثيوبيا. وأن المشهد الدولي بات ظاهرا للعيان أن إثيوبيا على مشارف على الانتحار الدولي بدوافع سياسية محضة وإلا لأقدمت على احترام مبدأ واحد من المبادئ العديدة التي عرضناها واستقرت عليها أحكام محكمة العدل الدولية في السوابق القضائية عبر تاريخ القضاء الدولي حتى الآن بصدد القواعد الحاكمة للأنهار الدولية في الحياة المشتركة للدول المتشاطئة وهو ما لم تقم له إثيوبيا وزنا حقيقيا وتغض الطرف عنه لحقوق مصر التاريخية الثابتة منذ آلاف السنين والتي لم تتبدل ولم تتغير من مكانها المكين ولو انتقل القلب من اليسار إلى اليمين! وكأنها تعيش دولة وحيدة على كوكب الأرض، مع اتخاذها استغلال تطوير الطاقة الذاتي ستارًا تستتر خلفه لتحقيق هذه الأهداف الزائلة في حياة الشعوب، وعلى الجانب الأخر تتخذ مصر بثقة مسؤولة كافة سبل استراتيجية الشرعية الدولية للحفاظ على أمنها المائي القومي. ويشير أن نهر هلمند ينبع في الجبال، على بعد 35 ميلًا غرب كابول في أفغانستان ويتدفق لمسافة 700 ميل في الأراضي الأفغانية في اتجاه مجرى النهر على بعد 40 ميلا تقريبًا إلى الشمال في كوهك، وينقسم النهر إلى قناتين يتدفقان شمالًا وشمالًا غربيًا إلى منخفض بحيرات سيستان ويشكل الرافد الشرقي في كوهك الحدود بين البلدين لمسافة 12 ميلًا وينقسم إلى بحيرات في أفغانستان وإيران. الرافد الآخر في كوهك هو Rud-i-Seistan، الذي يتدفق غربًا وشمال غرب إلى بحيرات سيستان في إيران. وانتهى حكم التحكيم الذي أصدره المحكم الإنجليزي "فريدريك جولد سميد إلى أن ضفاف الهلمند حتى شمال قرية"Kohak" - وهي تقع في قسم جان الريفي (مقاطعة دورود) في إيران- خاضعة لأفغانستان، أما القاع الرئيسي للنهر أسفل Kohak، فيتبع الحد الشرقي لمنطقة سيستان الإيرانية، وانتهى في حكم التحكيم إلى أنه ليس من حق إيران ولا من حق أفغانستان إقامة مشروعات تضر بحقوق الطرف الآخر إلا بالاتفاق بينهما، ويخضع كلاهما لنصيب عادل ومنصف في مياه النهر بل وفى مياه الحدود كذلك. ويذكر أنه بفعل التطور وفقا لعوامل الطبيعة حدثت بعض التغيرات الطبيعية في مجرى نهر الهلمند وروافده كان لها تأثير على تدفق المياه فيه، ومن ثم تجدد النزاع مرة ثانية بين إيران وأفغانستان واتفقا على التحكيم أيضا وفى عام 1902 صدر حكم التحكيم وقوامه حظر تنفيذ أية أشغالات متعلقة بالري أو مشروعات يكون من شأنها إعاقة الإمداد الضروري للمياه الخاص بالزراعة على ضفتي النهر بحسبانه من المنافع المشتركة للدول المتشاطئة، وأنه لا يجب المساس بثلث حجم مياه نهر الهلمند وهي كمية المياه المطلوبة لري الأراضي الإيرانية في منطقة Kohak الإيرانية التي تدخل سيستان- وهي إحدى محافظات إيران الإحدى والثلاثين تقع جنوبي شرق إيران على الحدود مع باكستان وأفغانستان- وانتهى حكم المحكم أيضا أنه لا يجوز لأفغانستان باعتبارها دولة المنبع وفق طبيعتها الجغرافية أن تضر بمصالح إيران وحقوقها المكتسبة في النهر وتستحق إيران ثلث مياه نهر الهلمند وهي الكمية اللازمة التي اعتادت عليها للإمداد بالمياه الواجبة لري الأراضي مدة طويلة من الزمن.
ويذكر الدكتور محمد خفاجي نقطة هامة أنه لا يجوز تنفيذ أي أعمال ري على أي من الجانبين تنال من الإمداد المطلوب بالمياه للري على ضفتي النهر، فلكل من الجانبين الحق داخل أراضيه، في الحفاظ على القنوات الموجودة سواء اتخذت شكل فتح قنوات قديمة أو مهجورة، أو إنشاء قنوات جديدة من نهر هلمند، بشرط جوهري ألا تتناقص إمدادات المياه اللازمة للري على الجانبين. خاصة عدم المساس بالحصة التاريخية للمياه فكمية المياه اللازمة لري الأراضي الفارسية القابلة للري من وتحت Kohak هي ثلث الحجم الكلي لنهر هلمند الذي يدخل سيستان، وأن أي أعمال ري شيدتها أفغانستان لتحويل المياه إلى أراضي سيستان يجب أن تسمح بثلث حجم النهر بأكمله على الأقل متاحًا للاستخدام الفارسي في Kohak. ويوضح الدكتور محمد خفاجي أن قرار التحكيم الذي أصدره المحكم السير "فريدريك جولد سميد" قد احتوى على ثمانية بنود، بيد أن البندين الأول والسابع هما الأكثر صلة بالمسألة محل الدراسة، فقد انتهى البند الأول إلى أنه لا يجوز تنفيذ أي أعمال ري على أي من الجانبين تنتقص من إمدادات المياه اللازمة للري على ضفتي النهر، فلكل دولة منهما داخل أراضيها الحفاظ على القنوات الموجودة وأن الشرط الجوهري لما يستجد من مشاريع بفتح قنوات قديمة أو مهجورة، أو إنشاء قنوات جديدة من نهر هلمند هو ألا تتناقص إمدادات المياه اللازمة للري على الجانبين. كما انتهى البند السابع إلى أن الحقوق في نهر هلمند التي يمنحها موقعها الجغرافي بشكل طبيعي لأفغانستان بصفتها مالكة للجزء الأعلى من نهر هلمند ليست سلطة مطلقة بل مقيدة بعد الإضرار الجوهري بمصالح بلاد فارس. ويترتب على ذلك أن بلاد فارس ليس لها الحق في أن تنفرد بأي سلطة على حقوق مياه النهر دون موافقة أفغانستان.
ويستطرد الدكتور محمد خفاجي أنه بعيدا عن حكم التحكيم المشار إليه فإن المتتبع للنزاع حول نهر هلمند يجد أنه حدثت تطورات لاحقة في عام 1973 حيث تم توقيع معاهدة بشأن نهر هلمند بين أفغانستان وإيران وحددت المعاهدة المكان الذي يجب أن تنقل فيه أفغانستان تدفقات المياه إلى إيران بين العلامتين 51 و52 على نهر هلمند بالإضافة إلى الكميات المحددة، يجب على أفغانستان توفير المياه بجودة يمكن معالجتها، إذا لزم الأمر، لاستخدامها في الري والاستخدام المنزلي ويضع هذا المطلب العبء الفعلي على عاتق إيران لمعالجة المياه وفقًا لأغراضها، وتحتفظ أفغانستان بجميع الحقوق المتعلقة باستخدام المياه أو التخلص منها بالشكل الذي تختاره وفقا للمادة الخامسة، ويجب أن يتسق هذا الامتياز مع المادة الحادية عشرة، التي تقر بأهمية استمرار التدفق إلى دلتا هلمند، مع وجوب التحذير من أنه في حالة توقف التدفق، يجب على المفاوضين وضع خطط لتقليل المشكلة إلى الحد الأدنى.
كما أنه لا يمكن لإيران أن تطالب بمياه نهر هلمند بما يتجاوز الكميات المحددة في هذه المعاهدة، حتى لو كانت كميات إضافية من المياه متوفرة في دلتا أسفل هلمند، وبالتالي إذا ثبت أن إيران تستهلك أكثر من 811 مليون متر مكعب في السنة وفقًا للمادة 3 فسيكون ذلك انتهاكًا واضحًا للمعاهدة. ووفقا لتلك الاتفاقية تتمتع كل من إيران وأفغانستان بالقدرة على مراقبة بعضهما البعض لضمان استمرار امتثالهما للمعاهدة. وتنص المعاهدة على أنه خلال سنوات التدفق المنخفض، يتمتع المفوض الإيراني بإمكانية الوصول إلى قياسات التدفق في ديهرود، كما يُسمح له بمراقبة التدفق وأخذ القياسات الخاصة به، فضلًا عن أنه يتعين على المفوضين الأفغان والإيرانيين قياس توصيل المياه إلى إيران بشكل مشترك في الممارسة العملية، ويجب أن يتم توفير المعلومات على أساس مستمر. ويختتم الدكتور محمد خفاجي بأن السؤال المطروح على بساط الدراسة أن القضية الرئيسية في حوض هلمند هي سعي أفغانستان إلى مشاريع تتعلق بتنمية الموارد المائية. وهي تقوم بتجديد سد "كاجاكي"، وتقوم ببناء "كمال خان" على جنوب نهر هلمند. كما تدرس إقامة سد "بخشباد" على نهر فرح. وهذه التطورات قد تؤثر على إيران المجاورة، وقد تأخذ أكثر من حصتها "المضمونة" من المياه بموجب معاهدة هلمند. لذا في تطور لاحق أجريت عام 2006 دراسة بمعرفة معهد أبحاث المياه الإيراني التابع لوزارة الطاقة توصلت إلى أن إيران طورت بنية تحتية للتخزين والري من نهري هلمند بقدرة توصيل تتجاوز ما هو مسموح به بموجب المعاهدة.
وأشارت الدراسة إلى أن معاهدة 1973 أصبحت ذات قيمة محدودة للغاية بالنسبة لإيران وتضمن بشكل أساسي إمدادات مياه الشرب، في حين أن أفغانستان بحاجة ماسة إلى التنمية، لذا فإن كيفية موازنة ذلك الهدف مع احتياجات مستخدمي المياه الإيرانيين، والاحتياجات البيئية لأراضي سيستان الرطبة سيكون عملًا في منتهى الدقة والاتقان والحذر.
وسوف نواصل عرض الجزء التاسع من دراسة الفقيه المصري المتميزة عن تحليله لأهم أحكام محكمة العدل الدولية وما قررته من المبادئ المؤيدة للموقف المصري والداعمة لحقوق مصر التاريخية على مياه نهر النيل بما لا ينتقص من حصصها أو يسمح لإثيوبيا بالتصرفات الأحادية دون اتفاق أو تفويض مع الدول المتشاطئة.



