الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

هل سرق الأحباش تابوت العهد ؟

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

يُعتبر "تابوت العهد" Ark of Covenant من أكثر الأشياء قداسةً وروحانية عند اليهود، فهو يُعبر عن "النزعة الحلولية"، حيث كان بنو إسرائيل يتصورون أن روح الرب (يهوه) تحل دومًا على (التابوت المقدس). 

 

وكان كهنة اليهود يحملون هذا "التابوت المقدس" في المعارك على أعمدة طويلة، وكان "تابوت العهد" يرمز لهم لوجود الرب "يهوه" معهم، وأنه يرافقهم حيثما ذهبوا، والرب يمنحهم النصر على أعدائهم بفضل وجود هذا "التابوت المقدس". 

 

 

وتذكر "رواية التوراة" أن الرب (يهوه) كان قد أمر النبي موسى (عليه السلام) أن يصنع هذا التابوت، ثم أمر موسى بني إسرائيل وتحديدا اللاويين أن يصنعوا التابوت المقدس من خشب السنط المتين، وكان التابوت مُغشى بالذهب النقي من الداخل والخارج، وكانت له أربع حلقات ذهبية على قوائمه الأربعة، وحسب بعض الروايات حمل "منليك الأول" إلى بلاد الحبشة "تابوت العهد" الذي صنعه موسى عليه السلام إبان خروج بني إسرائيل من مصر. 

 

 

وكان هذا "التابوت المقدس" يضم الألواح التي دونت عليها "الوصايا العشر" Ten Commandments الرب للنبي "موسى" عليه السلام على "جبل سيناء، وهو المعروف بـ"جبل حوريب" Horeb في "أسفار التوراة"، ويطلق كذلك "جبل الطور"، أو "طور سيناء" كما يعرف أيضا باسم: "طور سينين" في القرآن الكريم. 

 

 

ويُطلق على هذا "التابوت المقدس" العديد من التسميات: "تابوت الشهادة" (سفر الخروج) "تابوت عهد الرب" (في سفري التثنية ويشوع) و"تابوت الرب"، و"تابوت الإله" في الأنبياء الأوائل. 

 

 

وقد ورد صف شكل هذا التابوت، وهذا الوصف موجود في "سفر الخروج"، حيث إنه كان مصنوعًا من خشب "السنط"، ومطلي بالذهب من طرفيه الخارجي والداخلي. 

 

 

ويوصف حجمه بأن طوله ذراعان ونصف الذراع، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف. 

 

 

وكان هذا التابوت محمولًا على مساند من خشب السنط المذهبة، و"المعشقة" في حلقات ذهبية مصبوبة بجانب التابوت، ومكان التابوت كان المكان الأكثر قداسة في الهيكل، وهو قدس الأقداس: "وتجعل الحجاب تحت الأشظة وتدخل إلى هناك داخل الحجاب تابوت الشهادة، فيفضل لكم الحجاب بين القدس وقدس الأقداس، وتجعل الغطاء على تابوت الشهادة في قدس الأقداس". 

 

 

دور الأحباش في اختفاء تابوت العهد اليهودي:

تذكر بعضُ الروايات أن هذا "التابوت المقدس" اختفى من "قدس الأقداس" في ظُروف غامضة بعد أن تم تتويج "منليك الأول" ملكًا على بلاد الحبشة. 

 

 

واللافت أنه وبحسب الروايات الحبشية، أن الملك "منليك الأول بن سليمان وملكة سبأ (وهو الذي تتحدث عنه الروايات الحبشية فقط) اتهم بسرقة التابوت اليهودي بعد تتويجه في أورشليم، لكن منليك الأول أنكر أنه هو الذي سرق "تابوت العهد"، واتهم في ذات الوقت الكهنة اليهود الذين كانوا قد جاءوا معه من أورشليم بأنهم الذين فعلوا ذلك، وهو بالطبع أمر لافت للنظر لأن منليك الأول هو من اختار هؤلاء الكهنة اليهود للذهاب معه إلى بلاد الحبشة، ومن ثم يستقرون في هذه البلاد، وكل تلك الأمور وردت في روايات الحبشة فقط.

 

 

ولعل كتاب "مجد الملوك" (كبرا ناجست) الحبشي يُعتبر من أهم "المصادر الحبشية" التي تؤكد فكرة استيلاء الأحباش على "تابوت العهد" أيام الملك "منليك الأول"، وعن ذلك الأمر يقول المؤرخ "ساهيد أديجوموبي": "جاء في كتاب مجد الملوك كيف تم الاتيان بتابوت العهد إلى إثيوبيا، وكيف ذهبت الملكة ماكيدا إلى سليمان، وتمت بينهما علاقة أثمرت ولدا هو منليك الأول، كما أن منليك نفسه ذهب إلى القدس مرتين حينما بلغ، فمسحه سليمان، وعينه ملكا على إثيوبيا..". 

 

 

ويلفت الانتباه أنه في نهاية الأمر ومع كل ذلك الجدل وقيام الأحباش بسرقة التابوت المقدس لدى اليهود، حسب الروايات الحبشية، يتفاخر الإثيوبيون حتى اليوم بذلك الأمر، وبأنهم الذين سرقوا "تابوت العهد" من أورشليم. 

 

 

ومن الغريب أن تلك الأحداث المصطنعة من جانب الإثيوبيين جعلتهم يشعرون بتميزهم عن غيرهم، وأخذوا ذات الصلف اليهودي، بل وأنهم اعتبروا أنفسهم "الشعب المختار" على غرار الفكر والايديولوجية اليهودية. 

 

 

وعن اختفاء "التابوت المقدس"، يقول المستشرق "إميل لودفيج": "ولم يكد منليك الأول (ملك الحبشة) يتوارى حتى أبصر سليمان مذعورًا اختفاء "تابوت العهد"، أو الألواح النحاسية التي نقش موسى عليها وصايا الرب، فكانت أقدس ما لدى اليهود، ويؤكد منليك فيما بعد أن كهانه سرقوها من غير أن يعلم ذلك متبعا في تصريحه سُنة ما يفعله الملوك في مثل هذه الأحوال..". 

 

 

ثم تُضيف الرواياتُ الحبشية أن الملك سليمان (بن داود) ملك إسرائيل غضب بشدة بسبب ذلك الأمر، إلا أنه لم يتمكن من إعادة "التابوت الأصلي"، ورغم أن الملك سليمان تتبع القافلة الحبشية التي يعتقد أنها سرقت تابوت العهد، وكانت تضم أعدادا كبيرة من اليهود القادمين من مدينة أورشليم، إلا أنه لم يعثر على التابوت الأصلي، وكل ذلك بالطبع بحسب الروايات الحبشية التي تحاول اظهار شيء من الفخر من خلال سرقة التابوت اليهودي المقدس. 

 

 

وعلى أي حال أمر الملك سليمان عماله بأن يصنعوا له تابوتًا آخر يُشبه التابوت الأصلي المختفي، والذي سرقه الأحباش، وكذلك ألواحًا كتلك التي كانت في التابوت المقدس حتى لا يعلم بنو إسرائيل بأمر سرقة "تابوت العهد"، وعن ذلك الأمر يقول المستشرق "إميل لودفيج": "ويُوفق سليمان لصنع مثل تلك الألواح مُستعينًا بعامل ماهر، فلا يعرف عبريٌ أنه يعبد تابوت عهد كاذب..".

 

 

وتذكر "الرواياتُ الحبشية" بالطبع أن اللصوص (وهم بالطبع الأحباش)، ومن معهم من اليهود تمكنوا برفقة الملك "منليك الأول" من عبور "البحر الأحمر"، ومن اللافت أنها تذكر أنهم عبروا ذلك البحر عن طريق أنفاق، وهو ما يُثير الدهشة والعجب، فأي أنفاق تلك التي عبرها الأحباش للوصول إلى بلادهم بعد أن سرقوا "تابوت العهد"، ثم وصلوا إلى بلاد الحبشة، ومعهم ذلك الكنز الثمين. 

 

 

وتأكيدًا من الأحباش لصحة تلك الأحداث التي يقومون بروايتها حول تلك القصة، أو بالأحرى أسطورة "ملكة سبأ"، وابنها "منليك الأول"، ابن الملك سليمان ملك إسرائيل، قاموا بتصويرها كما وردت في رواياتهم على جدران المعابد والكنائس. ويرى بعضُ المؤرخين أن الأحباش يتمسكون بأحدوثتهم، وهم يصورونها على جُدران الكنائس في بلادهم، وتنسخ هذه الصور في بعض المدن الأوروبية مثل مدن باريس ولندن رسومًا شعبية.

 

 

وفي هذا الصدد تتبادر إلى الذهن بعض التساؤلات، فهل بالفعل سرق "تابوت العهد" اليهودي؟ أو اختفى بشكل أو بآخر أيام "منليك الأول"؟ لاسيما أن أسفار "العهد القديم" اليهودية، وكذلك رواية "القرآن الكريم" تذكر أن "التابوت المقدس" كان موجودًا أيام الملك شاول (1012-1010 ق.م) الذي حكم "مملكة إسرائيل" قبل كل من الملك داود (1010-970ق.م)، وكذلك ابنه الملك سليمان (970-930ق.م)، وكان قد استولى عليه "العماليق"، ثم استرده بنو إسرائيل بعد ذلك، وهو ما قد يدحض الروايات الحبشية التي تزعم وجود تابوت العهد في بلادهم. 

 

 

وبعد أيام الملك سليمان بعدة قرون، وتحديدًا في سنة 587ق.م، دمر البابليون أيام الملك "نبوخذ نصر" مدينة أورشليم، كما أحرقوا الهيكل اليهودي الذي كان قد بناه الملك سليمان بحسب رواية التوراة.

 

 

وقد كان بهذا الهيكل "تابوت العهد"، وهو حدث مؤكد في الروايات اليهودية الصحيحة، ويقول عن ذلك المؤرخ اليهودي "يوسيفوس": "بعد فترة جاء نبوزرادان رئيس شرطة ملك بابل (نبوخذ نصر) وأحرق بيت الرب، وكل بيوت العظماء، وهدم جميع أسوار أورشليم، وسبى بقية الشعب، وكسر جميع الأواني، وأعمدة النحاس، وأخذوها إلى بابل..". 

 

 

فهل يعني ذلك أن "التابوت المقدس" الذي كان في هيكل سليمان كان غير أصلي، وهو نسخة من "التابوت الأصلي" الذي كان قد سرقه الأحباش وذلك فيما يقول بعض المستشرقين؟ حيث يذكر إميل لودفيج متسائلا: هل كان يعبد اليهود تابوتا غير حقيقي بعد أيام الملك سليمان؟ 

 

 

وعلى أي حال، تُؤمن "كنيسةُ إثيوبيا أن "تابوت العهد" موجود في إثيوبيا، وتحديدا في مدينة "أكسوم" في كنيسة مريم تحت غطاء سري ثقيل، وفي "كنيسة أكسوم" يُعين كاهنٌ عجوز يكون هو الوحيد المسموح له بالدخول لرؤية التابوت المقدس، وفي جميع الكنائس في إثيوبيا يوجد نسخة مُقلدة من تابوت العهد. 

 

 

وفي كل عام في شهر يناير تحتفل إثيوبيا بعيد الميلاد، الذي يحمل اسم "تيم- كت"، وهم يخرجون في مسيرات ومواكب شعبية، ويحملون نسخًا من "تابوت العهد" احتفالا بمناسبة حصولهم على هذا التابوت المقدس.

 

 

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي  

تم نسخ الرابط