خبر له ظلال مختلفة أثار اهتمامي ألا وهو اعتزام المجلس الأعلى للثقافة عقد ندوة عبر تطبيق "زووم" الثلاثاء 29 يونيو 2021، بترتيب من لجنة الفلسفة في المجلس بعنوان الفقر الفكري في المجتمع المصري.
مما أعادني إلى صاحب العنوان الأصلي الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس، الذي كان يكتب المقال والكتب بشغف القاص المبدع الذي يتابع حكايات الناس وتفاصيل حركة المجتمع متابعة دقيقة.
ولكتابه المهم الصادق الصادر عن ضمير وطني لكاتب فنان من نوع خاص أبرز ما فيه إنسانية مرهفة وجرأة نادرة، وهو كتاب فقر الفكر وفكر الفقر.
وقد كان الكتاب أحد أبرز علامات النقاش الفكري المجتمعي على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي آنذاك.
وقد صدر في أغسطس 1984، وقد كانت هذه الفترة وقد عشتها مدركًا مشاركًا في حماس الشباب، وما تلتها من أكثر فترات الوطن حيوية وطزاجة، واحتراما لحرية الرأي والاختلاف، على الرغم تعريف البعض الساخر لديموقراطيتها بأنها ديموقراطية قولوا ما تريدون وسنفعل ما نريد، إلا أن أسئلة فكر الفقر وفقر الفكر كانت دليلا على حيوية مصر، وهي حيوية وحرية كانت مثار دهشة المحيط الإقليمي والعربي آنذاك.
كانت الإدارة المصرية تحب عاطفية يوسف إدريس وتحترم مشاغباته المتكررة، وكان هو صادقا كطفل عبقري، وهو المثقف الوحيد الذي قال: أنا لا أقرأ الكتب كثيرا.
إنه كان يقصد أنه يحرص على قراءة الناس والشارع وخريطة حركة الوطن وتفاعلاته على كافة الأصعدة. لقد كان إدريس قادرا على إشاعة الوهج والقلق وطرح الأسئلة والتعبير عن المسكوت عنه.
وها هو يلهم المجلس الأعلى للثقافة ذات العنوان عن فقر الفكر، وقد كان رحمة الله يرى: "نحن فقراء فكريا لأننا لا ننتج، ونحن لا ننتج لأننا حقيقة فقراء فكريا، وليس لأن هناك أزمة اقتصادية أو تضخما".
فقد كان يؤمن بأن الشعوب كالأفراد في مسألة الغنى والفقر، فقد كان إدريس يرى "أن الغنى ليس الغنى المادي، النفس الغنية غنية حتى لو كانت تقتات أو تبيت على الطوى والنفس الفقيرة فقيرة حتى لو كانت تملك الملايين".
وكم من الفقراء من أصحاب الملايين أفراد وجماعات، وكم من دول ثرية جدا على المستوى المالي.. لكنها شديدة الفقر.
لقد رصد إدريس هذا الفقر في الفكر، وهو يراه أكثر الأسباب حضورا خلف تراجع القدرة على الإنتاج لدى الأفراد ولدى المجتمع.
وإدريس كان يحذر آنذاك في إطار البحث عن حلول من اللجوء للحلول الحادة المتطرفة، لأنها حلول حادة متطرفة حادة مثل الفقر ولا إنسانية مثله.
لقد كان إدريس يبحث عن الاختيارات المنطقية الحرة التي تؤمن بوحدة الهدف الجماعي وحرية التعدد، وكان يحذر تحذيرا واضحا من استخدام القوة كحل وحيد للصراعات.
وقد كان يرصد بوضوح هذا العنف والاعتماد على مداعبة الغرائز في فنون تلك الفترة.
وقد رصد القوة الشرائية لشرائح مجتمعة معينة هي التي فرضت سلطتها المالية على شباك تذاكر الإنتاج الفني آنذاك.
وهو أمر قد تغير الآن في مصر لحضور مختلف لشرائح اجتماعية كبيرة متنوعة، وقادرة على دعم الفنون الجميلة البعيدة عن فقر الفكر.
مصر تغيرت، وهي الآن تبحث عن المستقبل، مصر في عيونها الأسئلة، والمصريون هم الإجابة المذهلة، وجدير بالذكر أن الشعب المصري العظيم قد أثبت في كل مرة من ظهوره الجماعي العبقري، أنه شديد الثراء والغنى، وأن فقر الفكر والرؤية والمعنى لم يكن صفة فيه، كانت صورا عارضة لأسباب عديدة لم يكن فيها المصريون سببا مباشرا.
المصريون عبر تاريخهم لم يعتمدوا على ما تنتجه لهم الطبيعة من ثروة، ولا ما هو قادم من خارج الوطن، المصريون أول وأغنى حضارة في التاريخ، وما زالت الصفات الوراثية المصرية القديمة حاضرة في المصريين المعاصرين، وستبقى للأجيال القادمة، وأما النقاش حول فقر الفكر وفكر الفقر، والذي أتاحه المجلس الأعلى للثقافة، تنتظر مخرجات ونتائج هذا الحوار، الذي أراه ممكنا لطرح نقاش مجتمعي موسع حول المستقبل، الذي نتمناه بعيدا تماما عن فقر الفكر، وفكر الفقر، مستقبل يليق بجهد كبير واضح وإرادة سياسية قوية وشعب من أغنى شعوب العالم، المجتمع المصري بلا شك يملك الثراء الفكري المتنوع ولا يعانى فقرا، المجتمع المصري لا يزال ينتظر فرصا تنظيمية حقيقية للدخول للمستقبل، وهو قادر على ذلك بلا أدنى شك.



