أكملت سفينة الغربة رحلتها في بيروت باستمراري بالعمل فى مجلة بيروت المساء متغاضياً عن كل ما يحيط بى من صراعات سياسية و انتماءات عقائدية مسرحها الصحافة اللبنانية، لأقدم شكلاً جديداً فريداً لم تعرفه صحافة لبنان من قبل، عارضاً خلاصتي البصرية بحس فني مميز، هي حصيلة من الإبداع الصحافي أنبتت شجرها فى حياة لبنان الإعلامية، فجذبت أساطين الصحافة برحيقها، و تُرجِمت فى اتصالات شخصية من شخصيات اعلامية قيادية و عروض للعمل معهم ، و رغبتهم زادتني اعتزازا و ثقة بالنفس و ليس غروراً.
لفتت أنظار المجتمع الصحافي تصميماتي للأغلفة التي تقوم على فكرة و رمز و إسقاط غير مباشر للقضية الرئيسية التي يناقشها العدد، بعد حرب اكتوبر 1973، عندما بدأ الغزل المستتر بين الرئيس السادات و جولدا مائير، حيث تصدرت أحد أغلفة المجلة الأسبوعية بأكمله ورقة لعب " شدة أو كوتشينة" علي أحد وجوهها صورة الرئيس السادات و علي الوجه الآخر جولدا مائير، مستخدماً فن " الفوتو مونتاج " الذي كان جديداً و غير مألوف في حينه. و بعده فى نفس العام صدرت المجلة بغلاف آخر آثار ضجة و استفزازاً للعرب، بعد أن لوّح الرئيس الاميركى نيكسون بتهديدات و ضغوط و محاولة تحكم مُستلذ لدول البترول، فجاء غلاف "بيروت المساء" بصورة لنيكسون يجلس مبتسماً علي برميل بترول مغطي بأعلام الدول المنتجة للبترول و كأنه يسخر منهم. الغلاف تداولته وكالات الانباء، و كان أهمهم في نشر الصورة و توزيعها وكالة اسوشييتد برس الاخبارية دون الإشارة لمصدرها أو الى مصمم الفكرة. اعتبرت هذا غبن لحقى و اعتداء على ملكيتي الفكرية. بعدها بأسبوعين التقي الرئيس الاميركى نيكسون بأربع وزراء خارجية ، السعودية ، الكويت ، الجزائر ، و المغرب على هامش إنعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بناء على طلبهم كممثلين لدول البترول، و اقترح تركيبة الوفد محمد المصمودى وزير خارجية تونس، الذي رأى أن يكون وفد الوزراء تفوح منه رائحة البترول دون أن يكون بترولا كله. أطل البترول العربي بقوة في هذا اللقاء كسلاح في يد العرب.
انتهت جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة و عادت الوفود لبلادها، لنفاجأ بقضية مرفوعة من إحدي الدول العربية على صاحب "بيروت المساء" و رئيس التحرير و المدير الفني لإهانتهم علم البلاد الجالس عليه الرئيس نيكسون. فأرفقت هيئة الدفاع في القضية بعريضة الدفاع الصور الموزعة من وكالات الانباء مدّعين انها الأصل الذي استخدم فى تصميم الغلاف، و انقذنا الدفاع من غرامات تقدّر بالملايين .
وعلي ذكر الأغلفة و تصميماتها، اعتز بغلاف لمجلة الديار التي رأس تحريرها الصديق الراحل الصحافي اللبناني ياسر هوارى و الذي عملت معه في مرحلة لاحقة مع بداية الأحداث اللبنانية. و عندما تأزمت الحرب الأهلية وكان الوضع مؤلما، عبرت عنه برمز من رموز لبنان: التفاحة اللبنانية، فتصدرت واجهة الغلاف في فراغ يحيطه الغموض مثل مستقبل لبنان، و هي تنزف و تقطر دما. التصميم كان رمزيا مستخدما مفردات بصرية لم تكن متوقعة.
بعدها جاءني في صباح مشرق بالأمل اتصال من صديقي رسام الكاريكتير جان مشعلاني يخبرني بأن الأستاذ بسام فريحة يطلب مقابلتي في مكتبه بدار الصياد. أصر مشعلاني على تأكيد الموعد مراراً ، فتوجهت الى منطقة الحازمية و انا " أضرب أخماس بأسداس " في محاولة لفهم أسباب الدعوة للقاء، و أن كان الحدس التوقعي سطع بضوء فى ذهني و بقوة يوجهني لشئ واحد له علاقة بالعمل. قبل توجهي للقاء سألت و تساءلت، وتحريت وبحثت ، وجدت بسام فريحة يتحدث معرفاً عن نفسه فى أحد اللقاءات:
" أسلوبي للنجاح و النمو ، والتوسع و التقدم، ينبع من تعّلقي العميق بعملي و محبتي له، وللناس العاملين معي. اتطلع الى المؤسسة كعائلة كبيرة، كل موظف فيها هو عضو عزيز له قيمته ".
كلام جميل يدل على انسان طموح و مدير ناجح يعلم كيف يسعد العاملين معه و يؤمن بالعمل الجماعي. فبحثت في سيرته الذاتية بدوائر المعرفة حاولت أن أعرف أكثر عمن تعامل معه. كان ما يتردد عن هذا الرجل حسب الوصف اللبناني "بندوق" ليس من باب الذم، بل للدلالة على مكر و دهاء، فالموصوف داهية و له تصرفات ذكية. وفريحة لغويا هوً اسمُ لقبيلة غسانية عربية و هو مصغر فرحة و هي صيغة للسعادة و الفرح التي تؤنث فيقال فرحة. كما أن الفرحة مصطلح للشباب الملئ بالنشاط والقوة. و الغساسنة سلالة عربية يمنية الأصل هجرت بلادها بعد إنفجار سد مأرب في القرن الثالث الميلادي متجهة إلي بلاد الشام، فكانوا من أوائل العرب الذين تنصروا. و لبسام فريحة كتاب حمل اسم " الغساسنة .. جذور عائلة سعيد فريحة " استند على وثائق تاريخية تسرد جذور آل فريحة التي تعود بالأصل الى الغساسنة الذين يشكلون تاريخ الروم الأرثوذكس في المشرق العربي " مسيحيي المشرق " الموزعين على بلاد الشام، و الذين تنتمي اليهم عائلات مسيحية عربية كان لها دور عروبي بارز في مختلف مناحي الحياة السياسية و الاجتماعية و الثقافية.
في دروب الحياة، تصادف شخصيات يضيفون لرصيد تجربتك بعداً آخر، من هذه الشخصيات بسام فريحة، صداقاته و علاقاته بشخصيات دولية، و ادارته الناجحة لمؤسسة إعلامية و إشرافه على اصدارات صحافية ناجحة و هو بعد في سن الواحدة و العشرين بعد تخرجه من الجامعة الأميركية و حصوله على بكالوريوس العلوم السياسية فى بيروت. تسلم من والده سعيد فريحة ادارة المؤسسة، فأضاف لها الكثير من الحيوية. وببصيرة ثاقبة، اهتم بكل التفاصيل لعشرة إصدارات من مجلة "الشبكة" و جريدة "الأنوار" التي تَسَلّم رئاسة تحريرها أخاه عصام بعد أن تخلي عن رئاستها والده الأستاذ سعيد فريحة و أسندها لإبنه عصام عام 1960 فى نفس العام الذي تولي فيها بسام الإدارة ، و "انوار الأحد" كملحق للصحيفة ، و مجلة "سمر" والإشراف على مطبوعات جديدة قام باصدارها بعد توليه المنصب ب 15 عاماً منها " الإداري " و" ويكلي أوبزرفر" و " الدفاع العربي " ، و" تقارير و خلفيات" ، و هى مطبوعات من افكاره لم يسبق للصحافة العربية أن تناولتها.
كما نجح عام 1973 في انشاء مبنى جديد لدار الصياد مجهز بأحدث التقنيات الحديثة في الطباعة و " مركز الدراسات و الأبحاث " الذي صدرت عنه سلسلة كتب وثائقية. و فى نفس العام رأت النور " مؤسسة سعيد فريحة للخدمات العلمية و الاجتماعية " موّزِعة خدماتها على المساعدات الإنسانية و الطبية ، و على العاملين في حقل التوزيع الصحافي و الصحافة و الأبحاث و الدراسات العلمية. و بعدها بعام، إشتركت المؤسسة مع « مؤسسة طومسون» البريطانية بإقامة دورة تدريبية لمحرري الصحف العربية تعتبر الأولى من نوعها في لبنان و العالم العربي.
بدا بسام فريحة مبتهجاً برؤيتي ، و ابتسامة على وجهه لا تفارقه تميز بها. شاب طويل القامة يهتم بمظهره في بساطة و اناقة، جذاب الحديث هادئ الأعصاب، يُجيد لغة الجسد و يحافظ على الإتصال بالعين، الثقة تُطِل من عينيه ، محاور لَبِق و مفاوض ماهر. رحّب بي بالحب و الود و الدفء، حدثني عن أسلوبه فى الإدارة ومفهومه للنجاح ، و اخلاصه لعمله لا حدود له ، و اخلاصه للعاملين معه ينعكس بالمقابل إخلاصًا منهم وولاء لدار الصياد، فهو يحترم الجميع و يستمع لهم، فيبذلون جهدًا أكبر، و يحفزهم لبذل المزيد من الجهد، مؤمنًا بأن كل فرد من العاملين عضو فى الأسرة الكبيرة: أسرة دار الصياد .
بعد هذا التقديم المطمئن ، و الذي قارنته فى ذهني على الفور بأجواء مجلة بيروت المساء من صراعات الفكر السياسي و التخبط في المعتقدات، و صحافة تحمل رسائل متفجرة .. جاء عرض بسام فريحة للانضمام لأسرة الصياد. فالرجل يحمل مخاض أحلام لأكبر مؤسسة صحافية فى العالم العربي، و أفكارا لمطبوعات جديدة منها مجلة " سمر" ، و مجلة نسائية " فيروز " التي توّلت رئاسة تحريرها عندما صدرت في بداية الثمانينات أخته الهام فريحة التي كانت ترأس تحرير " سمر"، و مجلة " الكومبيوتر و الإتصالات و الإلكترونيات" ، و مجلة للرجل " فارس" ، عارضًا انضمامي للعمل في أسرة " الصياد " لتطوير المطبوعات، وإضافة نكهة جديدة لمطبخ المؤسسة العريقة .
تطرّق الحديث عن أحلامه و آماله لمطبوعات دار الصياد مؤكدًا حرص العائلة أن اكون واحدًا منهم. سألني حينها بسام عن الراتب الذي أتقاضاه و كان مرتبا مرتفعا بالنسبة لمتوسط الأجور في الصحافة اللبنانية، ليعرِض عليّ 500 ليرة لبنانية أزيّد عن راتبي في بيروت المساء، علي أن يكون جزء من الراتب مسجلًا في الأوراق الرسمية و جزء يُسدد خارجه، ودعاني للتفكير لأعود اليه في لقاء آخر لنستكمل الحديث و إبداء الرائ ، وهو يأمل منى الموافقة على العرض!



