لقائي الثاني مع بسام فريحة لم يكن في مكتبه، ففي الموعد المحدد للقاء في مبني دار الصياد بالحازمية، فوجئت بماري سكرتيرته تخبرني بأن الموعد سيكون بمنزل العائلة، و أن سيارة الأستاذ فى انتظاري لتقلني لمنزل العائلة القريب من هنا!.
إنتهزت الفرصة بين اللقاءين لأعرف أكثر عن هذه العائلة المطلوب الانضمام اليها، فقرأت كتاب " الغساسنة.. جذور عائلة سعيد فريحة " التي سردها الإبن بسام بعد أن وجد مخطوطة تاريخية تتحدث عن جذور العائلات اللبنانية و منها عائلة فريحة، و كتب مقدمته الشيخ خالد بن أحمد بن سلمان آل خليفة وزير الديوان الملكي البحريني. استعرض بسام سيرة حياة الصحافي الكبير الراحل سعيد فريحة المولود في العام 1905 و الذي قُدِّر له أن يعايش ثلاثة حروب و اختبر اليُتم و ترّدي الأحوال خلال الحرب العالمية الأولى التي أدت لحدوث مجاعة دفعت به و بغيره من أبناء بيروت الى الهجرة نحو سوريا، حيث استقر سعيد في مدينة «حماه» مسقط رأس أمه.
لكن موت والدته و شقيقه جعل ابن العاشرة يتحمل مسؤولية شقيقين صغيرين ليعيش طفولة لم تخلُ من المعاناة بين الحرمان و البؤس، إلا أنها صنعت منه إنساناً عصامياً نجاحاً. و لعّل هجرة الأب – والد سعيد فريحة – الى البرازيل و الهروب من ضيق العيش الذي فرضه الأتراك على اللبنانيين و معظم أبناء بلاد الشام غيّرت من حياة سعيد فريحة الذي عانى ويلات الحرب.
فهذا الصغير الهارب من الحصار التركي إكتسب خبرة و وعياً أكبر من سنه، ليدخل معترك الصحافة في جريدة «الراصد» قبل أن ينتقل الى جريدة «التقدم» الحلبية. و قد قُدِّر له أن يشهد في تلك الفترة تحولات سياسية كبيرة و حماسا للكتلة الوطنية. و لعل هذه النقلة النوعية في حياته قد قرّبته من جريدة «الحدث». كما إلتقي برياض الصلح و تعاونا لمدة طويلة الى أن صدرت «الصياد» في العام 1943، لتحمل لواء الاستقلال و تُشكل ثورة على رجال الإنتداب. و قد كان لصورة كاريكاتورية لجندي فرنسي سنغالي يدوس بقدمه العارية على اللبناني ويقول بفرنسية مكسّرة «أنا جئت لأُمدِنكم» أثراً كبيراً، لا سيما أن هذه الصورة قد طُبع منها آلاف النسخ، ما أدى الى صدور أوامر باعتقاله أو خطفه، و قد أُعتقل بالفعل ما بين عامي 1946 - 1947.
لم تكن ولادة «الصياد» مخاضاً سياسياً ناضل بالقلم ضد الإنتداب فحسب، بل أيضا مخاضا حياتيا نوعيا بالنسبة لقامة صحفية مثل سعيد فريحة. لقد رافقت «الصياد» حكومة بشامون و الصحوة الوطنية الأولى مع الدستوريين، وتناهض حكم الشيخ بشارة، و تسلطن الشيخ سليم الخوري على مُقدّرات الحكم و الجمهورية، و إصطدمت بمفهوم الأسر الحاكمة ليبقى سعيد فريحة يقاتل بالقلم و يُثبت كل مرة أن السجن ثمن لابد منه كي يبقى صحفيًا لا يهاب الحاكم من أجل لبنان حر.
في كتاب «تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية» للأب ألبير أبونا، يشير فيه الى أديرة الغساسنة في كل من دمشق و الجولان و سهل حوران – جنوب سوريا – شمال الأردن حالياً – و لبنان و مكانة ملوك الغساسنة عند المسيحيين الشرقيين، حيث شكلوا بالنسبة لهم زعماء علمانيين ليس في بلاد الشام فحسب، بل أيضا في مصر، حيث يتبع غالبية مسيحيي مصر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشرقية. و من الملفت في هذا الكتاب عرض وثيقة «رؤساء الأديرة العرب»، و التي تعتبر من أهم الوثائق السريانية القادرة على فتح جدل حيال مسائل كانــــــت بمثابة مُسَلّمات لدي العديد من الباحثين. و ينتهي الكتاب في سرد الغساسنة عبر التاريخ عند الأمير غاريوس غسان مؤسس و رئيس منظمة البيت الملكي الغساني و مقره مدينة لوس أنجلوس، و الذي يعتبر الوريث الشرعي للغساسنة المسيحيين العرب و السليل لآخر ملوكهم، ليبدأ فصل جديد يسلط الكتاب فيه الضوء على أشهر العائلات البيروتية المسيحية العربية و منها آل فريحة، التي تشكل موضوع الكتاب، و الذي يتضمن أيضا سرداً لهذه العائلة التي إتخذت اسمها "فريحة" من اسم لقبيلة غسانية عربية، و هي صيغة من الأسماء العربية التي تُطلق على الفرح.
و يعتبر آل فريحة نموذج لعائلات مسيحية أرثوذكسية عربية برزت في سوريا و لبنان، حيث انتشروا في بسكنتا، و راس المتن، و بيت مري و وصليما، و البترون و البربارة. و من أشهر شخصياتهم الأديب المرحوم الدكتور أنيس فريحة المولود في العام 1903، و الدكتور فؤاد فريحة و رالف نادر فريحة – الذي يعتبر من أهم نشطاء حقوق المستهلكين في العالم – و الشيخ طنوس فريحة الذي شغل معظم حياته رئاسة اللجنة التنفيذية لحزب الكتلة الوطنية، و الطبيب و الكاتب جورج فريحة.
لم أكن اتصور دخولي بيت الصحافي العصامي صاحب المدرسة التي تخرج منها أهم صحافيي لبنان و أكون في حضرته مع أول لقاء جمعني مع نجله بسام. سعيد فريحة أبن بلدة رأس الحرف فى وقت ضربت لبنان كارثتان: الحرب العالمية الأولى والمجاعة الكبرى. وحملت أمه أطفالها وطَفَقَت تبحث عن رغيف. و في ملحمة من الملاحم البشرية، وصلت العائلة إلى حماه، و من ثَمّ إلى حلب. و لم يستطع الفتى التوّاق إلى العلم أن يدخل المدرسة، فكان يقف على نافذتها ليصغي إلى المعلم. و أحيانًا كان يرِّق له المعلمون فيسمحون للصبي الفقير بالدخول. وصل القَدَر بالعائلة إلى حلب. و عثر الفتى على أعمال بسيطة. لكن هذا لم يكن مرتضاه.
وأخيرًا، عثر على عمل كمخبر في صحيفة محلية. و لم يتوقف عن الحلم و التطور. وعندما عاد إلى لبنان، انضم إلى الحركة الاستقلالية بقيادة الزعيم رياض الصلح. و سرعان ما أصبح من أقرب رفاق «الزعيم الخالد». و مع الإستقلال في عام 1943، أصدر سعيد فريحة «الصياد»، مجلة سياسية كاريكاتيرية اشتهرت بالشخصية الكاريكاتورية " أبو خليل" و تزين دفتها الداخلية زاوية جديدة أسماها «الجعبة». و كانت «الجعبة» وحدها كافية لإجتذاب القراء. و تصدَّر الصبي اليتيم، بجرأته و ظُرفه و أسلوبه الساحر، مجالس الصحافة و السياسة. صدر العدد الأول فى 24 صفحة، و أصر على أن تُطبع مجلته " طباعة متطورة " ، فنقل موادها الى مطابع " دار الهلال" ، محتفظاً بمكاتب التحرير في بيروت، واستمر انطلاقها من القاهرة حتى عام 1954.
برع في فن الريبورتاج و التجربة الشخصية و تدوين الملاحظات التي لا يراها إلا الصحافي الباحث عن زاد لقلمه. جال في الولايات المتحدة، و في أوروبا، و في اليابان و في العالم العربي، حيث كان له أصدقاء في كل مكان. و أحب بصورة خاصة، القاهرة. و كان يسافر أول يوم خميس من كل شهر لكي يصغي إلى أم كلثوم، جالسا في الصف الأول. و كانت تربطه صداقة فوق الأخوة و وفاء نادر مع مصطفى و علي أمين. و عندما تركا مصر، فتح لهما أبواب «دار الصياد» كشركاء و أصحاب دار. باكورة الثمرات من تفاح لبنان كانت تصل الى الأخوان أمين، حتي عندما كان مصطفى أمين في السجن، كانت يصل اليه التفاح قبل أن تصل الى بيت سعيد فريحة. دخلت بيت آل فريحة ليستقبلني بسام على مدخل المنزل، و يتقدم خطاي لتكون المفاجأة: جميع أفراد الأسرة في بهو إستقبال يغلب عليه الطراز الفرنسي من الأثاث، يتصدرهم رب الأسرة سعيد فريحة في زي المنامة، ربما لرفع الكلفة أو لعفويته، و تذكرت ما كتبته ليلي عسيران في مذكراتها عندما التقت به في بداية انطلاقها في دار الصياد" … و لا أنسى كيف أُصبت بالدهشة عندما اكتشفت أنه يمضي يومه بالبيجاما ينزل إلى مكتبه من بيته فى الطابق الأعلى من بناية دار الصياد و يكمل نهاره فيها و هو يحس بعفوية إنه لم يبارح منزله".
و كان فى مجلسه ملاصقاً لرفيقة دربه و الزوجة ابنة الجنوب " حسيبة كوخي " التي حافظت على العائلة و ربّت اولاده، و محاطًا برموز العائلة المهنية الواحدة: عصام الإبن الاكبر و بسّام و إلهام فريحة آخر العنقود و الإبنة الوحيدة، الذين اختاروا مهنة المتاعب كما يقول الوالد " أنا لم اتعلم، كنت متحمساً لتعليمهم، حاولنا توجيههم نحو الهندسة و الطبابة لنبعدهم عن هذه المهنة ، مهنة المتاعب، فلم يقبلوا " ، محتضناً أحفاده نور و زين أبناء عصام و مني إبنة الهام الوحيدة. كان سعيد فريحة مدرسة صحفية خاصة من سماتها خلق الضحك حتى من الألم و السخرية التي تمس برفق فلا تجرح أو تكسر عظما. جعل من الحبر و الورق فضاء للجمال و الكلمة الحلوة و فن الحياة الانسانية، و كان الى جانب نهجه الوطني و مقدرته الصحافية إنسانا اجتماعيا مرحًا، و متحدثا بارعا يملك حضورا مذهلا، يستضيف فى بيته من يحلو له من لبنانين و عرب و من زملاء الدار المقربين .
رحب بي الأستاذ فريحة أيما ترحيب، و إستقبلني فى مجلسه مبدياً فرحه و سروره بقدومي ، و فى جلستى اليه جاء عارضا و طالباً الانضمام لأسرته، و على حد تعبيره "أحبك أن تنضم الى أسرتي لتكون الإبن الرابع و الأخ لعصام و بسام و الهام، عايزك تكون معانا و بسام سيتناقش معك في التفاصيل". و انسحب مع زوجته ليستريح ويتركني مع الأبناء و الأحفاد:
مع عصام فريحة، الإبن الأكبر الذي سلّمه والده رئاسة تحرير جريدة الأنوار، كان هادئ الطباع، يعمل فى هدوء و سكينة، رقيق الكلام، صدوق اللسان، راضِ بما قُسم له، " بيتوتي" كما يقول أهل لبنان، فعائلته على قمة أولوياته. أذكر تماماً واقعة أثناء تواجدي بدار الصياد في إحدي الأمسيات بالوقت الذي تُجهز فيه الصفحات للزجّ بها للمطبعة، جري البحث عن رئيس التحرير لإعتماد الصفحة الأولى من العدد اليومي. و بعد البحث و التحري، تبين أن عصام إصطحب أبنائه لإحدي حفلات سيرك أجنبي جاء الى المدينة. كان عصام يختلف تماما في طباعه عن أخيه بسام و أخته الهام، يعمل فى صمت و أقل طموحًا عنهما.
ومع الهام فريحة الإبنة الوحيدة لسعيد فريحة. بعد سنوات الجامعة، دخلت عتبة الزواج فى تجربة لم تنجح، ومع كل ماتوفر أمامها من فرص و خيارات، إختارت العمل الصحافي، فقد ولدت وفى فمها قلم وسط الحبر و الورق وعاشت وسط هدير المطابع. عندما إلتقيت بها كانت رئيسة لتحرير مجلة " سمر"، وفيما بعد عُينت نائبة للمدير العام، ومسؤولة عن المقر الرئيسى للدار ومكاتبها فى لندن وباريس والقاهرة ودبي والرياض، ومسؤولة عن حوالى ثمانمائة من العاملين. والذي لا يعرفه الكثيرون انها حصلت على جائزة " مصطفى وعلي أمين "لصمودها أحد عشر عامًا في إدارة الدار في سنوات الحرب بين الأعوام 1975 – 1991، الى جانب أعلى درجات الشرف لوسام الإستحقاق الوطني من رئيس الجمهورية اللبنانية.
أما بسام فهو رجل أعمال ماهر مراوغ مغامر مثابر، يثق بنفسه، له شبكة متنوعة من العلاقات العربية والدولية وله مهارات اتصال قوية، و يتمتع بالقدرة علي البيع و يعتقد أنه أمهر من غيره، ماهر فى الإقناع، واسع الحيلة والدهاء، يُحسن الاستفادة من كل مايملك: مالاً، و وقتا، و جهداً ، لا يتردد فى اتخاذ القرار، لا يسمح للفرص أن تفلت من بين يديه، وله أخلاقيات عمل قوية و قادر دائما على إعادة المحاولة.
بدأ بسام في إعادة المحاولة معي، محاولا اقناعي بالعمل معهم فى دار الصياد بالشروط التي وضعها بإظهار نصف الراتب مع الزيادة في الأوراق الرسمية و النصف الآخر يُسدد نقداً. وقد حذرني الأصدقاء أن ما لا يظهر في الدفاتر الحسابية قد يعطي الفرصة لوقفه اذا لزم الامر، فالنصف الآخر من الراتب قد يتوقف في وقت ما حسب الرضا السامي.
إستمرت المفاوضات أسابيع وشهور مع لقاءات متعددة، وجاء ردي بالرفض وإبقاء العلاقة في حيز الصداقة دون أن أتأثر بمحاولات ضمي لعائلة آل فريحة، علي أن أقوم ببعض التصميمات لمطبوعات الدار كفنان مُصمم مستقل من خارج المنظومة. وبقيت صداقتي مستمرة ببسام فريحة حتي بعد قيامي بطباعة الصياد في مطابعي بالعاصمة البريطانية مع هجرتها الى لندن، بعد الحرب الأهلية اللبنانية و غربتي الثانية.



