الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

لا أشعار بعد اليوم  إذا صرعوك يا لبنان

وانتهت ليالي الشعر والتسكع

سأطلقُ الرصاص على حنجرتي هذا ما عبر عنه الشاعر محمد الماغوط من خوف عندما نبتت مؤشرات الخطر على لبنان.. كانت أجواء التوتر السياسي تعصف بالبلاد منذ فترة طويلة بين الأحزاب المسيحية اليمينية من جهة، وبين الفلسطينيين يساندهم قسم كبير من "أحزاب اليسار" التي انضوت تحت ما عُرف فيما بعد باسم "الحركة الوطنية اللبنانية" من جهة أخرى. هرول أصدقائي شركاء الحلم خوفًا من الآتي مع بداية التهديدات لهذا الكيان الاجتماعي، والظروف المصيرية التي قد تواجهه، والصراع الذي قد ينشأ بين أبناء أمة، وشعب أتي لها لاجئًا، والأضرار المترتبة على وضع قد ينفجر في أية لحظة.

 

كان لإسلام شلبي صديق من أيام الدراسة بالجامعة الأمريكية في بيروت، يدعى محمد الصباغ، والده سعيد كامل الصباغ، المؤلف للعديد من الكتب الدراسية المتشعبة الاهتمامات، منها التاريخية والجغرافية.. من أجلها قام برحلات جغرافية مشرقية ومغربية وتاج مؤلفاته "الأطلس العربي العام" الذي صدر عن "مؤسسة سعيد الصباغ"، واعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية الخارطة الجدارية لفلسطين التي وضعها الصباغ، وأصبحت الخارطة الرسمية المعتمدة في كل المجالات.. وهو من مواليد حيفا ونشأ في صيدا اللبنانية، وبعد وفاته عام 1967 تولي إبنه البِكر محمد إدارة المؤسسة.

 

نجح محمد الصباغ في تسويق "أطالس" والده، وخصوصًا "الأطلس العربي العام" الذي اُعتمِد في معظم مدارس ومكتبات الدول العربية، وحدث أن أقنعه إسلام شلبي بشراء حصة الشركاء في المطبعة، فلم يتردد.

 

استخدم "الصباغ" المعلم درويش الدم، والأخير واحد من أمهر الطباعين في بيروت لتولي مسؤولية المطبعة، مع استمراري في الإشراف عليها، في وقت انهالت فيه العروض علىّ لتجذبني مرة أخري للصحافة.

 

في تلك الفترة لاحت في الأفق بوادر دخول لبنان في نفق الاحتراب الداخلي، خاصة مع بداية هجرة الصحافة اللبنانية، فمنهم من لم يتحمل فكرة الحرب ورحل بعيدًا، ومنهم من بقي صامدًا في موقعه.

 

دق باب مسكني ذات صباح، جاري الفنان والرسام والصديق محمود كحيل، الذي يسكن منطقة البريستول، وكان وقتها في قمة تألقه كواحد من أشهر رسامي الكاريكاتور الصحافي، ويعمل مديرًا فنيًا في أكثر من مطبوعة، بينها "الأسبوع العربي"، وينشر رسومه في مجلةMonday Morning  وجريدة Daily Star، واشتهر برسومه الصارخة بآرائه السياسية، والتي تحمل توقيعه أو يستبدله برسم غراب رمزًا للوضع العربي المتقلب آنذاك.. جاء ليودعني، فقد قرر السفر إلى لندن مع عائلته للعمل في جريدة "الشرق الأوسط" السعودية، ويطلب منى أن أتولي العمل في موقعه بمجلة" الأسبوع العربي"، بعد أن وعد ناشرها جورج أبو عضل، بأن يقنعني بالعمل معهم.. وقبلت كرمي له.

 

كان موقع دار نشر "المؤسسة الشرقية للطباعة والنشر" في "الأشرفية" ببيروت الشرقية، واحدة من خمس عشرة شركة يمتلكها رجل الأعمال جورج أبو عضل، وتصدر عنها مجلة "الأسبوع العربي"، ومجلة Magazine باللغة الفرنسية، والتي كانت تنافس مجلة La Revue du Liban  العريقة.  عام 1974 جال "كورت فالدهايم" الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة في بعض الدول العربية، وخلال تلك الجولة التقي ميشال أبو جودة، رئيس تحرير جريدة النهار اللبنانية، وقال له:

 

"إن لبنان سيتعرّض إلى مؤامرة كبيرة، وأن أمريكا وإسرائيل ضالعتان بها، وهما تريدان خلق فوضى في لبنان".. أما لماذا؟ فالسبب أن واشنطن كانت غارقة في فضيحة ووترجيت، وتعاني من تداعيات الانسحاب المُذل من فيتنام، والإخفاق في "أنجولا"، وكانت تركيا اجتاحت قبرص، ولم تستطع الولايات المتحدة الأميركية أن تفعل شيئًا يعيد إليها الهيبة في الشرق الأوسط، وترغب في الوقت نفسه في القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية.

 

وكملاحظة عابرة، أتذكر في تلك الأيام وبحكم عملي في دهاليز الصحافة اللبنانية أنه وقع في يدي تقرير سري: Confidential US State Department Central Files يشير إلى أهمية ايجاد موقع جديد في العالم لصراع مسلح بعد فيتنام، فمصانع السلاح مهددة بالإغلاق ما يضر بمصالح المستثمرين من رجال الأعمال الأمريكيين.

 

واندلعت اشتباكات في منطقة الدكوانة في صيف 1974 بين بعض الميليشيات وفصائل المقاومة الفلسطينية، واعترض رئيس الوزراء حينئذ تقي الدين الصلح، في لقاء مع الزعماء الموارنة على العلنية في إنشاء ورعاية مخيمات التدريب التابعة لهم، وطالب بإغلاقها.

 

استقال الصلح، وعين "فرنجية" رشيد الصلح رئيسًا للحكومة، وفى شهر يوليو/ أيلول، حذر جوناثان راندل مراسل "واشنطن بوست"، من قرب اشتعال حرب أهلية في لبنان، مما أدي إلى إبعاده عن لبنان لمدة ستة أشهر، أما إسرائيل فهناك مظاهر عديدة تؤكد تورطها في الحرب الأهلية، لعل أبرزها تحريض إيجال آلون، وزير خارجيتها السابق، للمسيحيين عن طريق إبداء استغرابه من عدم تدخّل أي رئيس لبناني لإنقاذ مليون مسيحي لبناني.

 

تسارعت الأحداث مع بداية 1975، فقد أطلق الرقيب في الجيش اللبناني مارون داود، النار على النائب اللبناني معروف سعد، الذي كان على رأس تظاهرة احتجاجية لصيادي الأسماك في مدينة صيدا في شهر فبراير، فأصابه إصابة بالغة توفي على أثرها، وكانت تلك الحادثة هي الشرارة التي أشعلت براميل البارود المعدة سلفًا. فجأة ظهرت المتاريس في شوارع بيروت، ومسلحين يقدمون أنفسهم كأنصار لتيار معين يقطعون طرقًا غرب وشرق العاصمة اللبنانية، يطلبون هوّية كل من يمر على هذه الحواجز من دون تمييز.

 

في البداية قبل أن تتأزم الأمور، وللوصول إلى أيًا من مقرات عملي، كان لا بد من الحصول على تصاريح بالمرور، خصوصًا أنني قد قبلت وأنا لما أزل أعمل في "الأسبوع العربي" عرض عمل آخر من الصديق الصحافي الخلوق ياسر هواري، للإشراف الفني على مجلة الديار، التي كان يرأس تحريرها بمنطقة فردان ببيروت، ومن دون أي رغبة أو إيمان بالانتماء لأي من الفصائل أو الأحزاب العديدة على الساحة العقائدية والسياسية، أصبحت فلسطينيًا بهوية من منظمة فتح، عن طريق معلم الطباعة درويش الدم، والذي نجح في الحصول على معظم مطبوعات المنظمة، والتي كان مقاتلوها يحرسون المطبعة أثناء الحرب، ويتولون حمايتها، فلقد كانت الوحيدة التي تعمل في منطقة خطرة.. وإلى جانب الهوية الفلسطينية حملت هوية "كتائبية" يَسِّرَ لها وأصدرها جورج أبو عضل، كي أصل إلى المنطقة الشرقية من بيروت، وحصلت على بطاقات هوية أخرى كثيرة حملتها فيما بعد، وكان من الصعب معرفة طبيعة كل حاجز والحزب التابع له، فكانت مهمة إظهار الهوية المناسبة في الحاجز المناسب صعبة واستغرق إجادتها وقتا طويلًا.

 

كان حادث عين الرمانة بداية انطلاق الحرب اللبنانية - الفلسطينية يوم الأحد 13 إبريل 1975، ومُزّقت البلد جرّاء المواجهات العنيفة والسرقات وأعمال التخريب والتدمير والكمائن، وقسّمته وبرزت خطوط التَماس الأولى "الشياح- عين الرمانة"، وبدأ تكريس التقسيم بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية.

وراح لبنان يمشي على درب الآلام.

 

تم نسخ الرابط