أعلنت إحدى دور النشر المصرية عن مسابقة للكُتاب غير المعروفين لنشر إبداعاتهم القصصية، وتقدم الكثيرون وفازت المهندسة لمياء عبد الهادي، وصدر كتابها الأول "همسات القيثارة الوردية".
وكانت المسألة مدهشة جدًا بالنسبة لي، فقد أرسلت لي د. رحاب التحيوي، المحامية، والمهتمة بالفن والثقافة، الكتاب لمناقشته في حفل توقيع خاص أقامته لها مجموعة النخبة، وهي تجمع ثقافي لخريجي كلية الهندسة من دفعات متقاربة من جامعة عين شمس، يضم خريجي الكلية من الثمانينيات حتى الآن.. تجمع ثقافي إنساني نادر ومدهش، بعيدًا عن النقابة المهنية، والجامعة. تجمع إنساني يحمل حساسية مشتركة لهذا الجيل.
وهي مسألة نادرة ومعبرة عن حيوية المهنيين المصريين من الطبقة المتوسطة.
وقد شارك في هذا النقاش الإعلامي هيثم كمال، وكيل وزارة الإعلام الأسبق، والمهندس طارق النبراوي، نقيب المهندسين السابق، وأدار الحوار المهندس الاستشاري أسامة زكي، وحضرت باقة من أبرز وأندر أهل الهندسة في كل التخصصات.
وربما كانت تلك تجربتي الأولى في الاشتراك في نقاش أدبي ثقافي مع مجموعة من غير أهل الاختصاص، ولكتاب كاتبته لا تود حتى الآن أن يكون المجال الأدبي هو مجال تخصصها.
الملاحظة الأولى أن التجمع المهني والكاتبة هم من المصريين المنتمين للطبقة المتوسطة، ولديهم هذا الاهتمام وذلك الشغف بالكتابة والقراءة، واللقاء والتجمع للنقاش حول شأن غير مهني، بل اهتمام اعتيادي.
في تقديري أن هناك مجموعات كبيرة من المصريين لديهم مثل هذه الاهتمامات، كمجموعات مهنية، وكأفراد متناثرين، لكنهم بلا شك ملايين كبيرة.
مما يجعل الارتكان لفكرة تراجع الاهتمام بالأدب والثقافة من الجمهور العام فكرة غير صحيحة، وهي تساهم في صناعة إحباط لدى المبدعين والكتاب الجادين الملتقين حول إبداعهم الجميل، مما يعزز فكرة أن الطبقة المتوسطة المصرية ما زالت تمارس بل وتعلم الأبناء والأحفاد ميراثًا من تقدير القيم الفنية والأدبية.
وهي تفعل ذلك في إخلاص وصمت، رغم كل الضجيج والضوضاء الجارية الآن في مجالات الإبداع والفنون، ما يؤكد أن المجتمع المصري وفي القلب منه الطبقة المتوسطة، في حالة حياة وتماسك، واهتمام بميراث القيم والأخلاق، وأهميته القراءة والكتابة.
ربما لا نراهم لأنهم بعيدًا عن الأضواء، إلا أن ملابسهم العادية، وملامحهم التي تشبه ملامح ملايين المصريين، تخفى خلفها وقتًا مختلسًا للإبداع والقراءة.
جدير بالذكر أن العنوان الذي وضعته المهندسة لمياء عبد الهادي، وهي وكيل وزارة الكهرباء، التي قاربت على إدراك ميعاد التقاعد، عنوانًا حالمًا عن همسات القيثارة الوردية، وهي مجموعة مدهشة من القصص القصيرة جدًا، هي قصص حب لأبناء عمومتها وأقاربها، وفتيات العائلة، وزميلات الجامعة، والجيران.
هي تملك تلك الحاسة الأهم، والتي تتوافر لدى الموهوبين من الفنانين والكتاب، ألا وهي حاسة فهم ومتابعة قصص الآخرين، والانشغال بالناس.
هي لم تسجل قصتها، ولم تنشغل بمشاعرها الدقيقة، بل كتبت حياة الأسرة والأصدقاء.
في الندوة التي سعدت بها منذ أيام قريبة، وجدت بين الحاضرات جدات تجاوزن السبعين، وأمهات يصحبن الأبناء المزهوين ببهجة الشباب.
كلهن في القصص، وقد رفض التصريح بوضوح عن علاقتهن بتلك القصص، المدهش أنني وجدت نفسي أمام قصص حقيقية، معظم قصص حب خريجات الجامعة منذ عام 1980، وما قبلها بقليل، قصص انتهت بالزواج، والأولاد، والهناء الأسري.
واحدة من تلك القصص قصة في منتهى الرومانسية، عن مهندسة أرادت أن تبني جسرًا بين منزلها الريفي ومدفن زوجها، حتى تزوره كل صباح.
قصص عن الغناء الجماعي للفتيات، وعن مشاعر الأنوثة بين الطفولة واكتمال الوعي بالذات، وعن العائلة، وطريقة عمل الفطائر، وعن الأيس كريم في شرفة المنزل عند الغروب، وعن الفتيات الحالمات بأن تصبح الحياة حفلا كبيرا.
مبهجة جدًا لمياء عبد الهادي، هي وصديقاتها، ذلك الحب الآمن الجميل الذي انتهى كل تلك النهايات السعيدة، مغامرة أن تحكي ابنة الطبقة المتوسطة الوقورة كل هذا الحكي، الذي يصدر عن حياة أسرية دافئة، تعلم أفرادها أهمية القراءة والكتابة والمحبة.
جيل تربى بطريقة تستحق التأمل والاستعادة، ومغامرة أيضًا أن تطلق دار نشر تلك المغامرة الأدبية البريئة.
حيوية حقيقية تدعو للبهجة، وتبعث على الأمل والسعادة، وإليكم واحدة من تلك القصص القصيرة جدًا والاستثنائية، رغم عاديتها اليومية الواضحة:
(هي آخر عنقود طويل من البنين والبنات لأب ثري من كبار التجار.. خريجة الهندسة الصغيرة.. تملأ الأجواء مرحًا أينما حلت، تهوى الخروج مع الصديقات وتصطحبهن في سيارتها.. ولكن في الآونة الأخيرة تحمل همَّ العودة إلى المنزل، ازدادت السيارات وتجد بمشقة مكانًا لسيارتها، وبالأمس تشاجرت مع جارها الشاب الذي يتعمد لفت نظرها.. يفرح بمناوشاته، بعد أيام من هذه المشاجرة أصبح أكثر رقة.
يفسح المكان لسيارتها.. يعرض حمل مشترواتها عنها، ويومًا سألها فجأة: متى آتي إلى منزلكم أنا وأهلي؟
تزوجا.. وتركت عملها من أجله، هما الآن أبوان لصبي وفتاة، ربما يبدآن قصصهما المماثلة).



