الروح المبدعة التواقة إلى البوح والتعبير والتفكير والمشاركة بالرأي، مسألة طبيعية، بل شرط جوهري لا بد من توافره لدى المؤلفين والمخرجين والكتاب والفنانين التشكيليين، وغيرهم.
أما عندما تنتاب تلك الرغبة العارمة في البوح والتفكير والتعبير والمشاركة الممثل، فهي تصنع منه حالة من التوتر اليومي، الذي ربما يؤثر على مسيرته المهنية، ويحرمه من فرص لتأكيد نجوميته اللامعة، لأن الممثل مهما كانت درجة نجوميته، هو وسيلة لتحقيق رؤية المخرج.
ولا شك أن التمثيل مهنة إبداعية، وأن الممثل المبدع هو من يتقمص الشخصية الدرامية، ويضيف إليها التفاصيل الإنسانية، وربما يخالف المخرج فى أسلوب التعبير وطريقته، ويأتى بالجديد المبهر، لكنه لا يجوز له، وفقاً لتقاليد المهنة الراسخة الخروج عن رؤية المخرج الفكرية والفنية.
وقد شهد شهر أغسطس رحيل قامتين فنيتين مصريتين، هما نور الشريف وسعيد صالح، وقد تذكرت تلك الطاقة التي دفعتهما كلا على حدة، لأن يصبح لديه الشوق العارم للتعبير عن الرأي الشخصي في الفن، وفي الحياة.
نور الشريف لجأ إلى تعلم الإخراج المسرحي، والإخراج المسرحي هو بالأساس مجال دراسته التخصصية مع التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج فيه عام 1967، وعمل معيداً لفترة قصيرة، لكنه لم يترك الاهتمام الأكاديمي، وظل عمره كله يبحث عن المعنى والجوهر في الفن، وينحاز للقيم الفنية الجميلة.
تذكرت ذلك أثناء استمتاعي بمشاهدة رائعة ألفريد فرج "الأميرة والصعلوك"، التي أخرجها للمسرح القومي وقام ببطولتها نور الشريف، وهي مسرحية احترافية عن تلك الطاقة الضاغطة التي تدفع الفنان والمثقف المنتمي للجماعة الوطنية للبوح والتعليق، وإبداء الآراء والشروح في الأمر العام، وهي أيضا تحكي عن ذلك الفضول القوي الذي يدفع الإنسان لاكتشاف البعيد المجهول، يعرف تلك الأشواق من كابدها، ومن تملكته شهوة إصلاح العالم.
في الفن والإبداع الإنساني دفعت تلك الرغبة العارمة في إصلاح العالم بعض الفنانين إلى الخلود، وبعضهم إلى الجنون، ولا شك أنه لا يوجد فنان حقيقي أو كاتب أصيل صاحب بصمة واضحة، إلا وبه قدر ما من تلك الطاقة الضاغطة، تلك الشهوة التي لا تضاهيها شهوة، ألا وهي طاقة السعي نحو تغيير العالم.
وقد رحل نور الشريف القارئ النهم، والممثل المثقف الذي خبر الحياة، وعاش تفاصيلها وجنوحها وخروجها عن المألوف، وهو نجم كبير ترك ذاته لأفكار الآخرين ورؤاهم، ليترك روائع مثل "الكرنك" و"سواق الأتوبيس" في السينما، وغيرهم في المسرح والدراما التليفزيونية، وليصنع كمنتج وكمبدع صدامات كثيرة فى طريقه للتعبير عن ذاته، وعن رؤيته للحياة، لكنه يبقى كعقل منظم وكوجدان حي وضمير متيقظ، يصنع تلك المواءمة بين ما يحلم به وبين ما هو حادث، بين ما يجب أن يكون، وما هو ممكن.
أما الفنان سعيد صالح، الكبير المدهش، تلك الطاقة الإبداعية اللامحدودة في صناعة الضحك وخلق البهجة، فقد انتابته تلك الطاقة الضاغطة في عمر متأخر، ولأنه اختار الطريق المختلف، فقد بدا غريباً ومدهشاً، فبعد كل أعماله المسرحية والسينمائية العديدة ونجوميته الكبيرة، قرر سعيد صالح الغناء والتلحين، ليصبح صاحب الرؤية والمعبر عن الرأى، وليس ممثلاً يجيد دوره ويبدع فيه في إطار رؤية المخرج.
وقد كان سعيد صالح ابناً للجماعة الشعبية المصرية، أصابته تلك الرغبة الحارقة فقام بتلحين أغنيات فنان الشعب بيرم التونسي، وأيضاً لحن لأحمد فؤاد نجم، وغيرهما، كانت تلك الأغنيات لسان حاله وهو يعبر بالأصالة عن نفسه، ويطرح بالغناء ما لم يستطع طرحه عبر أعماله الدرامية.
لم يكن ما يقدمه سعيد صالح نوعاً من الغناء أو الطرب، ولكن كنا نستمع لسعيد صالح الذي نعرفه.
لكنني أيضا أثناء استعادة سماع بعضها وجدتها بالفعل مجموعة من الألحان الجميلة لأعذب الكلمات، ويمكن النظر في إعادة إطلاق بعضها بأصوات جديدة.
من المؤكد أن طريقة سعيد صالح في الأداء مختلفة وممتعة، هو مدهش جداً، لأن الموسيقى استغرقته، وعبر من خلالها عن طاقتة الإبداعية.
تعلم عزف آلة العود، وكون فرقة موسيقية أنفق عليها من ماله الخاص، لم يكسب من الغناء والتلحين مالاً أو شهرة، لكنه أرضى رغبته الملحة في قول ما يريد.
رحم الله نور الشريف وسعيد صالح، وبارك في أثرهما الفني والإنساني، تذكرتهما وأنا أتابع تراجع تلك الرغبة الملحة في التعبير عن الرأي، وتلك الطاقة الكبرى في تحسين وجه الدنيا، لدى أجيال جديدة من الفنانين.
إنه ذلك الوهج وذلك الإبداع وتلك الطاقة الفاعلة المهمة التي يحتاج نجومنا الجدد لإدراكها وإطلاقها، إنها في بعض الأحيان تأتي مع النضج، تأتي مع الخبرة الإنسانية والفنية، لكنها تأتي للمبدعين الأصلاء، ونحسب علاماتها قادمة قريباً لدى عدد من الفنانين، الذين عليهم إدراك أنه قد آن الأوان لاستثمار أموالهم ونجوميتهم وحب الناس لهم في الإبداع الفني بمعناه الجمالي، والمعرفي.



