ألم يخطر ببال أحد أن يسأل السؤال المهم: لماذا كل هذا الإقبال على حفلات الغناء في صيف الساحل الشمالي؟
مثل هؤلاء النجوم يحظون بذات الإقبال فى دار الأوبرا المصرية، لكن الإقبال الكبير هناك، يطرح السؤال لماذا؟ وبالعودة خطوة للوراء وملاحظة حفلات الهواء الطلق بدار الأوبرا المصرية لفرق الجاز، ولبعض النجوم تجد ذات التدافع الكبير الذي لاحظه الجميع هذا الصيف في الساحل المصري الشمالي.
الإجابة في تقديري أن الجمهور المصري الذي هو في معظمه من الشباب، لا يذهب إلى تلك الحفلات من أجل الاستماع إلى الأغنيات، إنه جمهور مختلف يستهدف فعلاً مختلفاً، غير فعل الاستماع.
أنا لا أشير إلى نوع الكلمات أو الألحان، بل أتحدث عن المتلقى الفاعل المشارك، إنه جمهور يذهب ليشارك واقفاً على قدميه، حيث لا يوجد مقاعد، فالكل منتبه يتمايل مع الايقاع الحي القوي لتلك الموسيقات المعاصرة، لا أود أن أقول بوضوح إنه الجمهور الراقص. وقبل أن تفهمني بطريقة خاطئة، وتظن أنني من هؤلاء الداعين للزمن الجميل والفن الجميل، وما إلى ذلك.. أحب أن أوضح أنني لا أناقش جودة الأغنية ولا مضمونها ولا ملابس المغني والمؤدي أو طريقته، بل أناقش وبشكل ايجابي فعل المشاركة.
وهو فعل يمثل احتياجا إنسانياً في قلب عالم الحداثة وما بعدها، وعالم المدن المعاصرة التي تدفع الفرد إلى الوحدة والانعزال والانشغال بالذات، وممارسة معظم الفعاليات اليومية عن بعد.
إنه الاحتياج للفرح والبهجة والاحتفال، وهو مفهوم نقدي أطلقه الناقد الروسي الشهير ميخائيل باختين.. وفي اعتقاده ونظريته النقدية عن الاحتفال يحاول الناقد الشهير المؤثر في أدبيات النقد المعاصر في الفنون والآداب، البحث عن السبب وراء هذا الاحتياج الإنساني للاحتفال أو قل الكرنفال.. والإجابة هي رغبة معاصرة انسانية للعودة إلى مدينة القرن التاسع عشر، حيث الاحتفال الشعبي والتجمعات الإنسانية المبهجة.
تأمل معي (بلا غضب) ذلك الجمهور الذي ارتدى أبهى الثياب وذهب كي يعبر عن حضوره الإنساني ويشارك في العرض الغنائي الاحتفالي العام، أنه ومع الشاشات العملاقة التي تصور الجمهور، هو واحد من أبطال هذا الاحتفال، إنه جمهور يبتهج بهذا الكرنفال، ويشاهد بعضه بعضاً، كما يشاهد العرض الغنائي.
لاحظ معي أيضاً أنني لا أشير إلى مسألة أخلاقية تتعلق بالذهاب للرقص في الاحتفال العام، ولا أناقش أيضا أسعار التذاكر، فقط ألحظ تلك الملابس الموحدة، مثل ضرورة ارتداء الملابس البيضاء لحضور الحفل، وهو أحد شروط الدخول لواحدة من أكثر الحفلات نجاحاً، ونظاماً في هذا الصيف المصري الساحلي، إنها الرغبة الذكية في تأكيد سمة الاحتفال.
ولذلك يتميز إخراج تلك الحفلات بفهم فكرة المشاركة، فمكان الجمهور ليس مظلماً من أجل تركيز النظر للمسرح، بل تتوزع الأضواء بين مكان الغناء ومكان التلقي، إنهم يصنعون عروضهم الجماعية في كل احتفال.
لا تندهش فهذا أيضاً لا علاقة له بالشعر ولا بالموسيقى، إنه الاحتياج الإنساني.
تأمل معي أهلنا في الصعيد وريف الدلتا، وتجمعهم مع المنشد الديني في الأفراح والمناسبات المتعددة، تأمل الاحتفال بذكرى ميلاد أحد الأولياء الصالحين في مصر.
تذكر ذلك الرقص الجماعي التعبيري البسيط، مع ضبط ايقاع الألف، وترديد همهمة جماعية منضبطة مع ذكر المنشد، تأمل وجد الروح، وحرية الجسد، ودفء الشعور بالاحتفال الجماعي، حتى نستطيع أن ندرك ما هو سر هذا الإقبال على تلك الحفلات الساحلية؟
إنها الرغبة في المشاركة والتلقي الفاعل، في عصر أصبح الاحتياج للمشاركة والتجمع الاحتفالي ضرورة للهروب من الوحدة والعزلة، يحاول الناس في العالم كله الفرار منهما بالتجمع البشري المبهج، في عالم معاصر يفرض علينا البقاء فرادى معظم الوقت، إنه إذن ليس حفلاً للغناء، إنه الكرنفال المبهج وفعل الاحتفال.



