سجا الليل على بيروت المكسورة، المعلقة على زمن الموت.. على دوي الانفجارات ترتجل المراثي، ويأز الرصاص, عناوين الكراهية والحقد والغضب تختفي في الظلام الدامس.
في البيت تبتلعنا العتمة، قنديل الجاز الذي اشتريته من دكان الحي يسهر معنا، تعبت فتيلته وهي ترمي ضوءاً متكاسلاً على الغرفة التي تَجّمعنا فيها، نتقي بحيطانها من الشظايا ومن رصاصة عمياء تلطم الجدران وتخترقها.
وعندما كان يشتد القصف العشوائي وتتساقط القنابل بين البنايات "الملزوزة" الواحدة جنب الأخرى، كنا ننزل إلى ملجأ البناية، ننتظر مع جيراننا أن يتناهى الليل ويمضي في طريقه، ويطلع النهار فتخلع بيروت أعمال الظلمة.
في جوف الليل يترامى المقاتلون ولا شيء يُسمع إلا دبيب الموتى، في الشوارع المظلمة ينبض الخوف، والموت المكتوب خلف عيون المقاتلين، ينبت في فوهات بنادقهم, ينعقد في كل مكان في بيروت المقهورة، المكسورة الخاطر، الحزينة والمكلومة على ماضيها الذي كان، وكانت فيه أبهى عواصم العرب وأجملها، وأكثرها ثقافة وزينة وأناقة.
حيطان البنايات تَتَبَقَّعُ بالثقوب، والخوف يجلس على العتبات.. هناك في الطوابق العالية "قناص" يصطاد طرائده، ينتهك حياة الأبرياء، يفجع قلب أم، ويُيَتم أطفالاً، ولا مرة رفَّ جفن "قناص" على ضحاياه.
ويتوقف القصف، نعود إلى شقتنا، أرجأ الأرق النوم, ولحظة ينطبق الجفن على الجفن، كنت لا أرى سوى همّ الزوجة والأولاد، ونهاراتي الطويلة في بيروت الملتاعة.
كلما كنت أفاتح زوجتي بضرورة عودتها والأولاد إلى مصر قبل إغلاق المطار، كان إصرارها على البقاء معي يزداد، وحجّتها أنها في مأمن مع الجارات، خاصة "أوديت" و"نوال"، ثم أن الأولاد يعشقون لبنان ومدرستهم وأبناء الجيران "روني" و"داني"، وما كانت زوجتي تريد ترديد حديث الرحيل عن لبنان وتركي وحيداً في المدينة المقهورة.
"وقف النار”
يصهلل صوت المذيع، نفرح، ولا تدوم الفرحة سوى ساعات معدودات.. ووقف نار بعد الآخر يأتي و يرحل خلف الوعود، يترك لبنان الممسوس باللعنة يلعق جراحه.
كنتُ مثل آلاف اللبنانيين، أصحو على صوت صديقي الودود شريف الأخوي، الذي كان يرسم خريطة شوارع بيروت، ويدلل على الطرق الآمنة والسالكة، الآمنة من "الحواجز الطيارة"، ومن "الخطف على الهوية"، والأخرى السالكة الخالية من رصاص "القناصة".
وصار صوت شريف الأخوي، الجزء المهم من حياتي اليومية، في الصباح و المساء أسترشد بصوته، وأرسم دربي إلى "الأشرفية" حيث "الأسبوع العربي" في "بيروت الشرقية"، ثم الدرب إلى "بيروت المساء" وبعدها مجلة "الديار" في "بيروت الغربية".
وتقسيم بيروت إلى بيروتين، مسمى أطلقه شريف الأخوي وقصده كما قال لي ذات يوم، لم يكن بهدف سياسي, إنما جغرافي بحت لتحديد الأماكن والشوارع.
وشريف الأخوي، قامت بيني وبينه صداقة وودّ، مالَ إلى المذياع وأحَبَه، فترك تدريس الأدب العربي ليصبح من أهم مُعِدي ومقدمي البرامج في "إذاعة لبنان"، وكان برنامجه "نزهة" الذي كان يعده ويقدمه مع زوجته يُمن، من أكثر البرامج استماعاً.
وقد كان شريف الأخوي من صفوة الرجال الذين عرفتهم في لبنان علماً وأدباً وخلقاً، ووطنية، ومن ألطف الناس خروجاً إلى الحديث والنوادر، وكنت كلما التقيته يزداد تعلقي به، فقد كان لمّاعاً, لمّاحاً، عذب الروح، حلو المعاشرة.
في سنة 1973 ولبنان يضج بالحياة، ويشهد فورة اقتصادية وسياحية وثقافية، أخبرني شريف الأخوي، على فنجان قهوة في "هورس شو" في "شارع الحمرا"، أنه يُعد برنامجاً يتناول تسخير المرافق العامة والإدارات الرسمية لخدمة المواطن العادي.
فقد تم إنشاء "غرفة اتصالات" في مديرية قوى الأمن الداخلي، تشمل المناطق اللبنانية كافة، الهدف منها توجيه المواطن العادي إلى أسرع الوسائل والسبل وأجداها نفعاً لحل مشاكله المعلقة في دوائر وإدارات الدولة.. والفكرة كانت رائدة في العالم العربي.
مع اندلاع الاحتراب الداخلي تغيرت مهمة تلك الغرفة، وأصبحت "غرفة عمليات" تنقل على مدى 24 ساعة وقائع الأحوال الأمنية المتفجّرة مباشرة على الهواء:
"آمنة و سالكة"
"غير آمنة وغير سالكة"
"خالية من التقنيص"
"هدوء نسبي"
"حاذروا المرور بشارع... وشارع..."
وعلى هدي صوت شريف الأخوي كان الناس يتحركون في زمن بيروت المنكسر.
كانت لفظة "مؤامرة" تتنقل بين الشفاة والآذان في قاعات اجتماعات التحرير، في البيوت والمقاهي وكلما جلس شخصان إلى الحديث عن الحال والمآل في البلاد، وتسمع الكلمة في التصريحات والبيانات، ويستسهل السياسيون في خطبهم الطنانة الرنانة الكلمة، وتزيينها بنبرات تتلاعب بمخارج الأحرف لتصبغ عليها صبغة المأساة!
و"المؤامرة"، هي سبب البلاء، وهي اللعنة النازلة على البلاد والعباد، وهي وحدها وراء المتاعب و المآسي والخراب والدمار والموت.. وهي التي تشعل النار كلما خف أوارها وتتلّظى خلف المقاتلين، وتمدهم بالسلاح والذخيرة.
وإن أنت قرأت تصفع عناوين الصحف:
" المؤامرة مستمرة"
"خيوط المؤامرة السوداء تحاك في البيت الأبيض"
"إسرائيل وراء المؤامرة لتقسيم لبنان"
وكنت بعد اجتماع التحرير في "الأسبوع العربي"، سواء في بيروت الشرقية حيث "الجبهة اللبنانية" (كميل شمعون، بيار الجميل، شارل مالك, فؤاد فرام البستاني، شربل قسيس، وإدوار حنين...)، أم في بيروت الغربية في "بيروت المساء" و"الديار"، حيث "الحركة الوطنية" (كمال جنبلاط، والأحزاب اليسارية، والمنظمات الفلسطينية).. كنت أشعر بشغف اللبنانيين أسوة بكل العرب "بنظرية المؤامرة"، والتستر خلفها من تردُّدٍ وخوف، ربما من تسمية الأشياء بأسمائها.
واليوم بعد ست وأربعين سنة, بِتّ على يقين وقناعة أنه إن كان هناك "مؤامرة" على بلد الأَرز، فهي بالتأكيد مؤامرة (لبنانية - فلسطينية- عربية) أبطالها كل العرب.
بعد "أيلول الأسود" في الأردن سنة 1970 تدفق آلاف الفلسطينيين على لبنان، مدنيين ومسلحين، وقد كان هذا "التدفق" بموافقة عربية شاملة كاملة.
فالعرب سمحوا للثورة الفلسطينية في بلدانهم بأشياء ومنعوا عنها أشياء، سمحوا لها "ببعض" الكلام" وحظروا عليها "التواجد المسلح"، ومنعوها من ممارسة أي سلطة على الأرض والناس.
وراحوا يمارسون على لبنان من الضغوط ما ضاعف عجزه في حماية سيادته واستقلاله، فأخذت المنظمات تُجري تدريبات عسكرية في مناطق عدة، في الجنوب، والبقاع، وبيروت وضواحيها، والشمال.. وقد ترافقت مع صحافيين إلى إحدى تلك المعسكرات في الشمال، وشاهدت بأم العين تدريبات "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في البقاع.
وهذا الانتشار جعلهم غالباً يخرجون بأسلحتهم ويقومون بالتجول في المدن والبلدات، واعتراض اللبنانيين وتفتيشهم على الحواجز، وكنت مع غيري من الصحافيين أتابع تلك التصرفات المستفزة، واستشعر خطورتها، ولم أكن الوحيد الذي توقع أن يؤدي ذلك إلى الانفجار، وهكذا كان وصار.
وتدريجياً تحولت المخيمات الفلسطينية إلى ترسانات ضخمة من السلاح، بالتزامن مع وجود آلاف اللاّجئين في المخيمات وداخل الأحياء السكنية، يعيشون حياة بؤس وشظف وعوز.
وقد وجدت المنظمات وناسها تعاطفاً لدى الأحزاب العقائدية اليسارية اللبنانية، والتي ائتلفت فيما بينها تحت زعامة كمال جنبلاط، واستطاعت قيادات فلسطينية لاجئة إلى لبنان، أن تتخذ من المنقلبين على النظام اللبنانى غطاء سياسياً يحمي تواجدها العسكري.
وربما كان مقال نبيل خوري في مجلة "الحوادث": "المقاومة جيش المسلمين"، خير مُعَبر عن حدّة الانقسام، وقد كتبه خلال غياب سليم اللوزي في لندن، ولما عاد طلب من نبيل خوري الاستقالة، فى أول إجراء قام به.
ولا يعني ما سبق أن إسرائيل بريئة من دم لبنان، أو أن لا يد للاتحاد السوفيتي، أو حتى للفرنسيين والأوروبيين، أو أن الأمريكاني لم يدبر ويُشرف ويُنفق على كل ما جرى في لبنان.. والحال أن الكلام عن "توطين" الفلسطينيين كان عنوان حرب السنتين، مقترناً بكلام عن "خطة العزيز هنري" كيسنجر لدفن المسألة الفلسطينية في الربوع اللبنانية، وهذا المنطق البراجماتي ليس بعيداً عن عقل "العزيز هنري"، الذي ينطلق في سياساته من مفهوم ما يسمى "الواقعية السياسية " Realpolitik والكلمة ألمانية أطلقها Ludwig Von Rochau في القرن التاسع عشر، اسماً للمفهوم السياسي الذي يستند في المقام الأول على السلطة، وعلى العوامل والاعتبارات العلمية والمادية، بدلاً من المفاهيم العقائدية والأخلاقية.



