ثمانية وتسعون سنة، صار عمر "العزيز هنري"، الثعلب العجوز المكّار، الذي ما زال يشغل العالم بأفكاره ونظرياته السياسية، في كتابه "النظام العالمي" الذي كان صدر قبل خمس سنوات، ليحمل خلاصة النظريات Real politik السياسية، المنطلقة من "الواقعية السياسية"
فطرح فكرة قيام نظام عالمي جديد تأتلف حوله دول العالم، بعيدًا عن "نظام الأقطاب"، وخصّ فيه الشرق الأوسط بالكثير من الاهتمام، معتبرًا أنه تحول إلى ميدان صراعات بالوكالة تدعمها قوى خارجية.
والثعلب العجوز يمضي في غيّه، وفي تهميش العرب، وحرمانهم من أي دور في "نظام عالمه الجديد".
منذ سنوات خلت، وقعت بين يدي وثائق تم تسريبها من داخل وزارة الخارجية الأمريكية، من قِبَل موظف عمل سابقًا في مكتب هنري كيسنجر في عام 1974، وتؤكد هذه الوثائق أنه صاحب مخطط تمزيق العالم العربي وضرب المنطقة والاستعداد لتقسيم الوحدات الجغرافية، وقد تم وضع هذه الخطة في ذلك الوقت بصفته رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي.
في رؤية "العزيز هنري" السياسية، فإن دول المنطقة باستثناء إسرائيل تتميز بالاضطراب، وتتعرض إلى الانقسامات والصراعات والثورات والتطرف.
ويمضي فى طرح رؤيته: إن التماسك الداخلي للعديد من هذه الدول هش، وأن الوحدات السياسية في دول الهلال الخصيب ليست مستدامة بسبب تزايد دور الأقليات، ويُقر ويعترف بأن قيام دولة إسرائيل عَجّل من اندلاع مشاكل الأقليات وتطلعهم إلى الاستقلال، خاصة مع ما وصفه بنضج الأكراد والمسيحيين والدروز لإقامة دولة مستقلة، أما بالنسبة إلى العلويين في سوريا فهم يتطلعون للبقاء حكامًا لكل سوريا.
ويعتبر أن أي اضطراب خطير يهدد النفط في شبه الجزيرة العربية، يجب أن يقود واشنطن إلى إجراء خاص وعاجل للغاية.
ويعتقد كيسنجر حسب الوثائق المسربة، أن كل وحدة جغرافية لديها نقطة انشغال: لبنان هو بؤرة الانشغال لدول الهلال الخصيب وبؤرة تفجر مشكلة الأقليات، والكويت هي نقطة الانشغال لشبه الجزيرة العربية والعراق، وليبيا هي نقطة الانشغال لمصر، والصحراء الإسبانية، هي نقطة الانشغال في المغرب العربي.
وبما أن انفجار هذه النقاط الأربع (أو بعضها) سيطرح العديد من المشاكل الكبيرة، فإنه يجب على الولايات المتحدة أن تُعد نفسها لمتابعة المواقف المتشابكة والخطيرة التي تنتج بيانات جديدة في المنطقة بأكملها، وقد يكون الأمر أكثر تعقيدًا لكن التعامل معه أسهل لأنه بعيد عن الصراع العربي الإسرائيلي الذي يجذب القوتين العظميين، ويضع العرب في كتلة واحدة ضد إسرائيل.
ويعتقد كيسنجر أن سياسة المصالحة فصلت الاتحاد السوفيتي إلى حد ما عن الشرق الأوسط، لكنها لم تلغ وجوده، وهو قادر على العودة وتهديد المصالح الغربية، ولأن مصير أوروبا مرتبط بنفط الشرق الأوسط، فإن سيطرة الاتحاد السوفيتي على هذه المنطقة تعني سيطرته على كل أوروبا، الأمر الذي يثير الذعر.
كانت مواقف الإدارة الأمريكية طوال حرب السنتين في لبنان، وتصريحاتها وتصرفاتها وعلى رأسها هنري كيسنجر سلبية، وتتلخص في إعادة ترتيب جديد للشرق الأوسط، يُستغنى فيه عن الكيان اللبناني لمصلحة دولتي الجوار إسرائيل وسوريا، بتمزيقه وتفتيته واقتسامه بين الدولتين، وموطن للفلسطينيين، كجزء من نظرة كيسنجر لقضايا الشرق الأوسط، وذلك على الرغم من أنه لم يحظ رجل سياسة دولي بما حظي به من اهتمام شارك فيه رجال السياسة اللبنانيين في ديسمبر (كانون الأول) 1973 أثناء رحلته المكوكية في الشرق الأوسط، واستقباله بالترحيب والتهليل في ثكنة "أبلح" العسكرية قرب مطار "رياق"، خوفاً من أن تُوجَه الصواريخ إلى طائرته من المخيمات الفلسطينية القريبة من مطار بيروت.
الرئيس سليمان فرنجية فوجئ بعرض كيسنجر لترحيل المسيحيين (وهذا ما كرّره وأكّده فيما بعد السفير دين براون، خلال حرب السنتين كحل)، وعندما رفض تعرض الوفد الرسمي اللبناني بالأمم المتحدة في نوفمبر 1974 للإساءة بإفلات إدارة الجمارك الأمريكية كلابًا بوليسية متخصصة بمكافحة المخدرات لاشتمام أمتعة الوفد، وإزاء هذه الإهانة رفض الرئيس اللبناني استقبال أي مسؤول أمريكي، وكل اعتذار امريكي، وتأكد أن كيسنجر وضع خطة لتفجير الوضع في لبنان، وكان العميد ريمون أدّه، عميد حزب الكتلة الوطنية اللبنانية، أول من أكّد وتكلم عن مؤامرة كيسنجر ومخاطرها ونتائجها المُدمِرة، وتتلخص في تقسيم لبنان بين سوريا وإسرائيل بإعطاء سوريا البقاع وطرابلس وسهل عكار تعويضاً عن الجولان، وشمال طريق الشام- شتورة للمسيحيين، والجزء الثالث بين نهر الليطاني والحدود الإسرائيلية لدولة صهيون من أجل مسألة المياه.



