تتعلق أغلب المشاكل الاقتصادية لدول العالم بنتائج عدم التوازن في تطبيق السياسات، والنظم المالية، وموازنتها لتؤمن للفرد والمجتمع والدولة الاستقرار الاقتصادي والرفاهية والعدالة وإشباع الحاجات، وهذا يعتمد كثيراً على "كاريزما المفاوض" المتخصص في المجال الاقتصادي بكافة فروعه، وما يحمله من مواصفات أكاديمية متميزة، بالإضافة إلى الخبرة الطويلة بالسوق، بحيث يستطيع أن يقرأ المستقبل الاقتصادي ضمن أرقام علمية وإحصائيات مستندة إلى وقائع ثابتة، وبالتالي فإن الدبلوماسية الاقتصادية تفتقر كثيراً إلى مثل هذه الكفاءات التفاوضية، خاصة في العالم الثالث.
وتنفرد مرتكزات الدبلوماسية البريطانية على سبيل المثال، بكثرة تفرعاتها الاقتصادية، لما لها من أثر كبير في الدخل القومي، والصناعات التحويلية، والبديلة، والطاقة النظيفة، بالإضافة إلى المجالات الاستثمارية الأخرى.
وقد وضع التجار المسلمين قديماً أسسًا تعد منارات دبلوماسية متميزة للحوار الاقتصادي، ضمن تبادل البضائع بين القبائل والترويج لها، من خلال اعتماد المصداقية والربح المدروس، فلم يكن هناك خبراء اقتصاد بالمفهوم السائد اليوم، ولم تكن هناك مراكز لإدارة الأزمات الاقتصادية، ولا وزارات تخطيط ومالية واقتصاد واستثمار ومؤسسات ضخمة، بل كان هناك دبلوماسية إسلامية اقتصادية فردية، من خلال حركة التجار للترويج لبضاعتهم، والمقايضة كأساس في التعامل المالي.
وكان تجار الشام ينزلون ضيوفاً كراماً عند أهل المدينة المنورة لغاية بيع بضاعتهم، دون الترويج إلى عقد مؤتمرات، وتشكيل لجان، واستدعاء خبراء من هنا وهناك، وكانت أفكارهم التفاوضية وتجاربهم البسيطة الفريدة تحقق الهدف منها، لأنها تنطلق من نفوس طيبة تستهدف فعلاً المصلحة العامة والإنسان البسيط، وعلى سبيل المثال كاد الفقر يختفي في عهد الإمام علي، كرّم الله وجهه، الذي انتهج سياسة اقتصادية بارعة حققت توازناً دقيقاً بين الإنتاج والاستهلاك، وفي عهده صدر أول قانون للتقاعد، حيث يروى أنه كان يمشي يوماً في سوق الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس، فوجه سؤالاً إلى من حوله، قائلاً: ما هذا؟ فأخبروه أنه كبر وشاخ، ولم يقدر على العمل، وليس له مال يعيش به، فقال الإمام بغضب: استعملتموه على شبابه حتى كبر تركتموه! وجعل للرجل مرتباً خاصاً يعيش به من بيت مال المسلمين.
وهناك مدارس خاصة لصقل مهارة التفاوض التخصيصة لدى الدبلوماسيين بغرض تحقيق أفضل النتائج، خاصة في المحور الاقتصادي أو المالي، وأنا شَخْصِيًّا أعتبر أهم سمات نجاح المفاوض الاقتصادي هي مواكبة آخر مستجدات السوق العالمية، كونها حجر الأساس فى الحياة اليومية والعملية.
وعلى المفاوض في مجال الاقتصاد أن يكون بارعاً جداً في أمور الاقتصاد، ولديه الرؤية الثاقبة التي تدعم سياسة الدولة وأهدافها، وفي جعبته أحدث المعلومات عن السوق العالمية والتحديات التي تكمن خلف الكواليس، على أن يحسب الربح والخسارة أثناء مفاوضاته، مع تزويده بأدق المعلومات عن الشركة أو المشروع محل التفاوض مع ممثليه، عن طريق البعثات الخارجية، والتي تكون وجهة نظرها من مرتكزات نجاح "كاريزما المفاوض"، مهما كانت درجته الوظيفية.
وهناك مهارات يجب أن يتمتع بها الدبلوماسي أو المفاوض في القضايا الاستراتيجية أو الاقتصادية، من أهمها: الاستعداد التام للتخفيف من حدة المفاجآت وعنصر المخاطرة بأقل الخسائر، من خلال التخطيط المسبق والتحليل الجيد للمعلومة قبل الدخول للمفاوضات/ تحديث المعلومة والمهارات الشخصية والوظيفية واكتساب الخبرة لإدارة الموضوع بأعلى درجات الكياسة والاستيعاب/ القدرة على الأخذ بزمام المبادرة وعدم تقديم التغييرات من أجل التغييرات/ التمتع بالبراعة السلوكية "الأخلاق العالية والبروتوكول والإتيكيت" كمدخل لمعالجة المواقف المختلفة/ حسن التخطيط والاهتمام بالتفاصيل ذات الصلة بتحقيق الأهداف/ حسن استقبال الأفكار الجديدة والتفاعل معها وإشراك فريق العمل/ تبني منطق وفكرة الفريق الواحد والقدرة على الإقناع وكسب المساندة وتعضيد الآخرين وتحفيزهم وإعلان مظاهر النجاح دون مغالاة، مع بقاء مركزية القرار بيد رئيس الفريق.



