في تعريفه المبدع للوطن كتب الكاتب الكبير المختلف، منير عامر "إن الوطن هو رجل وامرأة في عناق وبينهما أطفال".
تذكرته بشغفه بالحياة والمرأة والصحة النفسية للمصريين، وبرغبته الصادقة في مساعدة الآخرين، تذكرته بكل متناقضاته، وولعه الصوفي وتدينه، وتحرره الواضح.
صمته الطويل وحديثه الذي لا ينقطع، وبهجته المشعة بجنون الكتابة المبدعة، ووقاره الأنيق، عندما قرأت عن مبادرة اللبنانيات "زواج بلا مهر لمحاربة العنوسة".
قلت: حقًا إنه إدراك عميق لمعنى الوطن والحياة، وحرص على الدين والدنيا ومكارم الأخلاق، وهنا عدت إلى إحصاء 2017 الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وهو إحصاء دقيق أنجزته الدولة المصرية، ويمكن عبر تأمله فهم العديد من القضايا الهامة في الحاضر المصري وفي المستقبل، ومنها الأعداد الكبيرة لعنوسة الشباب والفتيات في مصر، بل وعنوسة الرجال والنساء بشكل واضح.
فقد بلغ كما جاء في التقرير الإحصائي، عدد الإناث اللاتي لم يتزوجن في الفئة العمرية 35 عامًا فأكثر 472 ألف أنثى بنسبة 3.3% من إجمالي عدد الإناث في تلك المرحلة العمرية، وذلك خلال عام 2017، مقابل 687 ألف حالة ذكور بنسبة 4.5% من إجمالي أعداد الذكور في الفئة العمرية المشار إليها.
وأشارت الدراسة الإحصائية إلى أن السبب المباشر يرجع لغلاء المسكن، سواء كان مستأجرًا أم مملوكًا، وتكاليف الزواج من مهر وتجهيز المنزل، وغيرها من الالتزامات التي أدت إلى تقليل فرص الزواج.
ولعل أبرز الأسباب التي حددها جهاز التعبئة والإحصاء، هي غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج الأخرى الناتجة عن العادات والتقاليد المتبعة.
ذكرتني مبادرة بنات لبنان حفيدات فيروز ساحرة الغناء العربي عن الحب والوطن، بما يجب إطلاقه في مصر الآن، فهل يفعل المجلس القومي للمرأة أمرًا في هذا الصدد؟ خاصة مع ارتفاع معدلات الطلاق مؤخرًا.
الزواج مؤسسة الحب والأطفال والسعادة، وليس مؤسسة اقتصادية خانقة للرجل والمرأة.
ولا شك أن الأمر له جذوره التاريخية في مصر منذ السبعينيات، منذ اختفاء لافتة شقة للإيجار، منذ اختفاء المجايلة في الحب والزواج، لقد كانت الجامعة المصرية مصنعًا للأحلام ولقصص الحب، جيل واحد بينه حساسية مشتركة، كان يجب بعضه بعضًا في علانية، لأن المقصد هو الزواج.
تغيرت المسألة ورصدها العبقري المصري نجيب محفوظ في "الحب تحت هضبة الهرم"، حيث لا مكان للحب.
إن مشروعات الإسكان المتعددة، والإنجاز الواضح فيها لهو الحل الأمثل لتلك المشكلة، وتحتاج المؤسسات العامة والأهلية لاستعادة فكرة المساكن، هل تتذكرون مساكن أعضاء هيئة التدريس في جميع جامعات مصر؟
هل تتذكرون الحلول العبقرية في مساكن الهيئات والجهات الكبرى في مصر.
لا يمكن ترك المهني الشاب بدون بيت، أتحدث عن الطبيب والمحامي والمهندس وغيرهم، أتحدث عن دور النقابات المهنية، وأيضًا عن حقوق كافة الناس في الحضر والريف والبادية.
ويبقى السؤال الأهم عن عادات وتقاليد الزواج التي يجب أن تتغير، وعن النظرة الأهم للحياة، وعن تغيير ما رسخته مشاهد الأغنيات المصورة التي تلح على عقول ولا شعور الناس في مصر بكل هذا الحشد من الذهب، والسيارات والنساء الجميلات، والشبان الأكثر أناقة، بينما يكافح الناس من أجل العمل والحياة، هذا النوع من الطموح الفاخر يجب كسره، حتى تعود النظرة العادية للبيت الجميل البسيط الذي اعتاده الملايين في مصر، وهو دور أهل الفن والإبداع، ودور مؤسسات التعليم والثقافة والمجالس المختصة، وعلى رأسها المجلس القومي للمرأة، الذي عليه أن يزيل من شعور ولا شعور المرأة في مصر تلك الطموحات المؤدية للهلاك.
الشعور بالأمان والدفء والأسرة هو شعور بالحياة.
كل هذا الضجيج في مصر هو مزج بين المأساة والملهاة في النظر لمؤسسة الحب والزواج.
إن السلوك والواقع يبدأ بتغيير الأفكار، وكثير من الأفكار عن الحب والزواج في مصر تحتاج للتغيير، حتى لا يتم تغييب مؤسسة الحب، حتى لا ندفع في اتجاه الولع بكل ما هو مادي وباهظ الثمن، حتى يستقر الحاضر والمستقبل، ويستقيم في مصر الدين والدنيا، لا شك أن تعريف الوطن بأنه رجل وامرأة في عناق وبينهما أطفال، هو تعريف دقيق ومبدع.
فهل ننتظر مبادرة مصرية للزواج بلا مهور؟
هل ننتظر عودة مشاهد الانسجام بين الرجل والمرأة حتى يمكن إدراك جوهر الحياة، حقًا إن المحبة هي أثمن ما يمكن أن يمتلكه الإنسان.



