الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

كلما حاولت غرس سن القلم على الورق للكتابة عما عشته خلال حرب السنتين في لبنان (1975-1976) يردُني عنه، تتلبُّك أفكاري، تضيع وتتشتت.    خطرات تومض مثل البرق، وتعود تلتطم بالغوامض من الوقائع التي عشتُ مرارتها، وكتب غيري قبلي عنها، وظلّت لا تنجلي عن الحقيقة، فما أعجز قلم الكاتب في كل كلام يكون له عن المعميات.

  ثمّة مراحل وفصول في المأساة اللبنانية لم تزل مجهولة وقائعها، فلا الذي عرفته ووقفت عليه خلال عملي في ثلاث مطبوعات، لها ما لها من شأو، كان دقيقًا وصحيحًا، ولا الذين يعرفون حقائق تلك المراحل والفصول المأساوية وأدوار اللاعبين والمتلاعبين فيها كشفوا عنها وأفصحوا عن أسماء الضالعين فيها خفية.

  لقد كانت الحرب اللبنانية مليئة بالغرائب، موّشاة بالحقائق المرّة، "لقد حارب العالم كله، أو أكثر من دولة في لبنان، وبدلًا من أن يتنبه اللبنانيون إلى ذلك فإنهم بفعل تنويم مغناطيسي استمرأوا اللعبة التي أوصلتهم إلى أنَّ شعبًا طيبًا انقسم على نفسه، ووطنًا جميلًا دمَّرهُ بنوهُ حتى الأوصال"، كما كتب فؤاد مطر سنة 1993.

 

وقد لعبت "الاتصالات السرية" بين المتحاربين أنفسهم وبين "أطراف عدوّة"، إما مباشرة أو بوساطةٍ تولاَّها مُحايدون، دورًا بارزًا في إتمام التسويات والصفقات وتغيير مجرى الحرب والتاريخ.. الاتصالات السرية تلك أسماَها سليم اللوزي "الدبلوماسية السرية" في معرض تلميحه للجوء اليمين المسيحي للاستجارة بإسرائيل.

  المبادرات لإيقاف المأساة اللبنانية تعددت: واحدة للفاتيكان، يوم كان البابا بولس السادس على السدّة البطرسية، وواحدة برعاية وإشراف "العزيز هنري" كيسنجر، على عهد الرئيس الأمريكي جيرالد فورد، وثالثة لدمشق، قام بها عبد الحليم خدّام وحكمت الشهابي، ووضع ملامحها وأهدافها حافظ الأسد، وانتهت إلى وضع لبنان تحت وصاية دمشق ثلاثين سنة طويلة ومريرة، والرابعة تولتها "الأم الحنون" فرنسا.  

المصباح أمامه يهتز مثل رقّاص الساعة، فيتحرك ظل رأسه على الحائط الذي خلفه بحركة رتيبة، رائحًا غاديًا.

  تسليت في النظر إلى الظل المتحرك، سهمت، حاولت مرارًا أن أمحو من ذهني توجسي وخوفي على زوجتي وأولادي، ونحن نمضي ليلة أخرى في الملجأ، نتقي خلف حيطانه السميكة من القذائف العشوائية والرصاص الطائش.

  استدار، رفع المصباح، بانت قسمات وجهه كأنها تنبعث من كاريكاتور "دومييه"، لسعني بنظرة فيها آثار من لمعة الود.

  "أبو عفيف"... ينادون عليّ بأبي عفيف

تعاركت أصابعه وهو يحك جلدة رأسه، حَمَل كرسيه، جلس إلى جانبي، شعرت بأنه يريد أن يجدل الكلام بيننا.

  ليس في "حديث الملاجئ" من كلام غير عما نمر به من انقطاع التيار الكهربائي، وشحّ الماء، والطوابير أمام الأفران، والحواجز الطيّارة، والتقنيص على مفرق الطرق، والخطف على الهوية، والجثث المُمثل بها والمرمية، ينضحُ أسفلت الشوارع من دمائها.

  ويسألني أبو عفيف:   "شو.. يا أستاذ، شو رأيك، ستطول الحرب، وهذا سؤال لا يُرجى فيه غيرك"..

  فهو لا بد عرف من الجيران أنني صحفي، أعمل في "الأسبوع العربي"، و"بيروت المساء"، و"الديار".. ومن المفترض- والحال هذه- أن أملك معلومات، وأن أعرف الحاضر، وأستشرف المستقبل.. تمامًا مثل المُنَجِّم الذي يهتفُ للغيبِ، ويوشوش السماء، ويستطلع ويستشرف، ويتنبأ..

  لم أتفاجأ بالسؤال، غيره، قبله، وقد يأتي بعده أيضًا من يعتبرني مثل ميشال نوستراداموس، الصيدلاني والمنجم الفرنسي، الذي نشر "النبوءات" سنة 1555 ويُحكى ويُتندر بها حتى اليوم.

  وانتظر الرجل الجواب وحِرت هنيهات، بماذا أردُّ على هذا الرجل الفضولي الذي يريدني أن أضرب له "الوَدَع"، وأي الأجوبة ترضيه ويقر بها عينًا، ولا تجعل مني أنا "صحفيًا فاشلًا"، غير متابع، وغير مُدرك.

  وقبل أن أفرج عن الكلام سمعنا صوت شاب:  

"لقد هدأ القصف، يظهر أن الإخوان تعبوا وراحوا ليرتاحوا.. يمكن لمن يريد الخروج من الملجأ".

  ونادتني زوجتي، استردت الكلام من فمي، وتخلصت من الإحراج ومن أبو عفيف، استأذنت منه، استدرت، صوته المُعفّر بالخيبة ملأ رأسي:

  "الله معك.. الله معك يا أستاذ"    أحببت لحظتها الشعور الذي قد ينتاب أبو عفيف، من أنه كان عندي رأي طويته عنه.

  الخميس الثامن عشر من سبتمبر (أيلول) 1975

  اتكأتُ قرب نافذة الغرفة، جفاني النوم.. مُسَّهد أرِق، تتلبد الأفكار والهواجس المتلاطمة في ذهني، تلامحت خيالات مخيفة، ألحّت علي، هَدَرَ الصوت في داخلي: في مكان ما في هذه العاصمة التي تعيش الزمن المناكد، يموت في هذه اللحظات إنسان بريء. 

  لم تهدأ الانفجارات، رجع صدى أصوات الرشاشات يتمدد في الليل البهيم، الموحش، المتوحش، المخضّب بالدم.

  كان الصبح يوشك أن يطلع، وقد بدأ يمسح بيده عتمة الليل عندما دوى انفجار كبير، توالت بعده الانفجارات، واحدًا بعد الآخر.. اهتزت لها بيروت الملتاعة، شعرت بارتجافات المباني الشاهقة، اصطكت النوافذ المغلقة في البيت، ارتعش زجاجها، صوت الانفجارات الرهيب كان يلطم جدران الأبنية فتهتز لها. 

  تجّمعنا خلف الحائط، بدأت زوجتي تتمتم صلاة كانت ترددها دائمًا في مثل تلك اللحظات.. 

  توهج من بعيد ضوء نار مشتعلة، قَدَّرَهُ جارنا الذي خرج إلى "البلكون" أنه في "ساحة الشهداء"، بحركة تلقائية ضغطت على أزرار جهاز راديو "ترانزيستور" لم يكن يفارقني، أدرت إبرته، طلع صوت المذيع، رخيمة نبراته:

  "هنا لندن"، وأعلن علينا أن القذائف الصاروخية تنزل على رأس الأسواق التجارية بغزارة، وأن واحدة منها سقطت على مبنى "ٍسينما أوبرا"، فاشتعلت فيه النيران التي ما لبثت أن تمددت، وانتشرت في تلك الأسواق العريقة التي كانت قلب بيروت النابض بالحيوية، والمحسودة من عواصم العرب الأخرى لأناقتها وجاذبيتها وتنوعها وغِناها.

  دخلت النيران المحلات التجارية مثل فاجرة مجنونة، حرقتها، رَمَّدَتْها، وأنهت عمرًا وزمنًا وتاريخًا وتراثًا بكامله.

  كان سكان الجبال يرون بيروت تحترق، والعالم كله كان يتفرج على "روما" الجديدة.

  وتعالت أصوات تطالب بإنزال الجيش، والحيلولة دون إكمال حرق ما تبقى من العاصمة، والحد من تفاقم موجة التخريب والنهب في الوسط التجاري، وزيادة الخسائر في اقتصاد البلاد.

  إلا أن "الحركة الوطنية" التي كانت تضم الأحزاب والقوى التقدمية المتحالفة مع الفلسطينيين، تصلبت في موقفها الرافض للاستعانة بالجيش، وتطايرت الاتهامات حول من يكون "نيرون" الذي حرق بيروت:

  في بيروت الغربية اتهموا "الكتائب اللبنانية" ومن معها، وحلفها، بأنها هي البادئة في حرق الأسواق بهدف المزيد من التصعيد، ولَيَّ ذراع الرافضين لإنزال الجيش، وأولهم رئيس الحكومة رشيد كرامي. 

  وفي بيروت الشرقية، الفلسطينيون ومعهم القوى التقدمية، هم الذين يريدون بيروت "أرضًا محروقة" لإخضاع البلاد، والسيطرة عليها وإسقاط النظام.

  ولم تهدأ الاتصالات، كنت مثل معظم اللبنانيين المصدومين بما جرى ويجرى لعاصمتهم، أتابعها تدور بين رشيد كرامي، ومعظم الزعماء الروحيين والسياسيين، وزعماء الأحزاب. 

  وفي قصر بعبدا، تابعنا تفاصيل استقبال الرئيس سليمان فرنجية لكل من عبد الحليم خدّام وحكمت الشهابي، وقد بعث ما قيل إنه دار خلال اللقاء الطويل، الأمل في احتمال الخروج من الأزمة.

  وكنا، زملائي وأنا، نتنفس الصعداء في مكاتبنا (التي كنا نصلها كل يوم بأعجوبة، رغم أنف المقاتلين المنتشرين في المفارق والأزقة، وغصبًا عن بنادق "القناصة" التي كانت لا ترتوي من دم الأبرياء) عندما ترِدنا أخبار التفاهم على وقف النار، ولكنني كنت الوحيد الذي ينتابني الشك، فلا أصدق ما أسمع،   وكنت دائمًا على صواب، فكان وقف النار يُخرقُ من هنا وهناك على خطوط التماس، وعلى الجبهات التي اتسعت من العاصمة إلى الجبل.

  ويعود القصف المدفعي المكثف على الأحياء السكنية، والجثث ملقاة في الشوارع، وبيروت المستباحة تُنهَبُ وتُدمَّرُ.

  يومًا بعد يوم، أخذت أشعر بأن إحساس المسيحي بالوحدة يتفاقم، فهو محاصر ومعزول، والقيادات المسيحية السياسية والفكرية أخذت- كما كان يتردد، ونقف أحيانًا في المجلات على خفاياه وتفاصيله- تُعيد النظر في كل ما كان وصار منذ قيام "دولة لبنان الكبير" بعد الحرب العالمية الثانية، وضمّت بيروت، طرابلس، عكار، الهرمل، راشيا، حاصبيا، وكل الجنوب.

  وكانت جامعة الروح القدس للرهبانية اللبنانية المارونية، ملتقى لرجال الفكر والسياسة، وفي اجتماعاتهم وخلواتهم المتواصلة كانت تترجع أصداء الحرب المعلنة على النظام، وبدأت تخرج من تلك الاجتماعات والخلوات طروحات عِدّة، منها من ينظم التعددية، ومنها من يرفضها، ومنها أيضًا الفيدرالية والكونفيدرالية.

 

ولقد وضح لي ولغيري من المتتبعين، أن فكرة "الوطن الثنائي" القائم على المشاركة في الحكم والسلطة، لم تعد مجدية ولا قائمة، وأن دولة الأربعينيات سقطت، والنظام السياسي احترق مع بيروت، وأصبح رمادًا.

  وأينعت في الرؤوس فكرة "الجيتو المسيحي"، فتعجّل البطريرك الماروني مار أنطونيوس بطرس خريش في رفضها، وقد أعلن ذلك في غير تصريح وخطاب، وسمعت هذا الرفض منه لما ذهبت مع وفد من "الأسبوع العربي" للقائه في صرح "بكركي" (وإذا كانت الذاكرة بعد تذكُر، فإن الوفد ضم أسعد المقدم، جورج إبراهيم الخوري، وخليل خوري) ولم تكُن "بكركي" وحدها في مواجهة الساعين لإيجاد ذلك "الجيتو"، فقد انضم إليها الفاتيكان، فأرسل البابا بولس السادس، الكاردينال برتولي في محاولة لتأكيد العيش المشترك، فيرجع لبنان كما قال عن لسان البابا "البقعة المباركة من الشرق الأوسط، ويؤدي الرسالة التي أوكلتها إليه العناية الربانية، فيبقى بلد التسامح والحرية والسلام".ٍ

  ولا أحد كان يريد أن يسمع للكاردينال ما جاء يقوله، فيوم وصوله انفجرت فجأة موجة الخطف إلى حد أن عدد الذين خطفوا بين الصباح والمساء بلغ 250 شخصًا، أُفرِجَ عن معظمهم باستثناء 50 شخصًا نشطت كل الأطراف المتحاربة للإفراج عنهم!

 

طاف الكاردينال مع السفير البابوي لدى بيروت، المونسينيور ألفريدو برونييرا، على زعماء الطوائف، وعلى الزعماء السياسيين، ولم يترك أحدًا يعتب عليه.

  وخلال تواجد الموفد البابوي، كشفت جريدة "لو موند"Le Monde وتبعتها "لو فيجارو "Le Figaro نقلًا عن مصادر في "كي دورسي"Quai d’Orsay  وزارة الخارجية الفرنسية، أن الرئيس فاليري جيسكار ديستان، مهتم بإطلاق "مبادرة فرنسية" قادرة على تسهيل عملية البحث عن "حل سلمي" للأزمة في لبنان.

  في اجتماع التحرير في مجلة "الديار"، بينما كان النقاش يأخذ مداه حول صورة الغلاف والموضوع الرئيسي للعدد، وهل يتربع فاليري جيسكار ديستان Valérie Giscard d’Estaing على الغلاف، وتُنشر المعلومات التي وصلت المجلة من مراسلها في باريس حول ما ينويه ديستان.. وصلنا نص تصريح الرئيس رشيد كرامي:

  "إن المبادرة الفرنسية تنتظر انتهاء مهمة الموفد البابوي، الكاردينال برتولي، بحيث إن أعطت ثمارها يُستغنى عن التحرك الفرنسي، وإذا لم تُثمرُ المبادرة البابوية، يُعطى الضوء الأخضر للمبادرة الفرنسية لتبدأ عملها".   وكما جاء الكاردينال، غادر مكسور الخاطر.

  ويوم الأربعاء 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975، حطّت طائرة فرنسية خاصة في مطار بيروت الدولي، خرج منها موريس كوف دو مورفيل Maurice Couve de Murville، الذي كان أحد أبرز مهندسي السياسة العربية في عهد الجنرال شارل ديجول.

  فشل البابا، وجاء الرئيس يحاول!   ساد الاعتقاد في الأروقة السياسية، كما في الأوساط الشعبية، أن "الأم الحنون" بعد مساعدتها على قيام "دولة لبنان الكبير" قبل قرن، لن تترك لبنان ينزف حتى الموت، فهي قادرة، بما لها من رصيد لبناني وعربي على بلسمة وتضميد جراحه، والتخفيف من آلامه.

  والحقيقة أن "الأم الحنون" لم تغب عن الأزمة اللبنانية، فبعد حريق بيروت النيروني العبثي، وتدهور الوضع سياسيًا وأمنيًا، أعلنت باريس أنها مستعدة للإسهام في أي تحرك يضم "الحكومات الصديقة للبنان"، بهدف مساعدة لبنان ودعمه لوضع حَدٍّ للحرب المدمِرة. 

  وتبع هذا الكلام المحمود من الأطراف اللبنانية، تكثيف المسؤولين الفرنسيين والأمريكيين مباحثاتهم الثنائية في شأن لبنان، إلا أن هذه المباحثات لم يتمخّض عنها أي تحرك دبلوماسي ملموس، لكنها- كما قال لي سياسي لبناني- أدت إلى اعتراف أمريكي صريح بوجوب القيام بمبادرة في لبنان. 

  لم يوضح الأمريكيون ما هو تصوّرهم لهذه المبادرة، إلاّ أن "العزيز هنري" كيسنجر، أبلغ نظيره الفرنسي جان سوفانيارج Jean Sauvagnargues أن بلاده "قلقة للغاية" حيال الوضع المتفجر في لبنان، وتحاول أن تجد أنجع الوسائل للتعامل معه.

  ولم ينجم عن اجتماع الوزيرين في نيويورك أي اتفاق عملي، إلا أن جان سوفانيارج طالب هنري كيسنجر بممارسة الضغط على إسرائيل لتفادي أي تدخل في جنوب لبنان، الأمر الذي قد يؤدي إلى ردة فعل سورية، وفي المقابل طلب هنري كيسنجر من نظيره الفرنسي التدخل لدى الدول العربية المعنية، خصوصًا سوريا والعراق من أجل "الحفاظ على التهدئة والحؤول من دون أي سلوك قد يتسبب باندلاع حرب إقليمية"، والتنسيق الأمريكي الفرنسي وقتذاك، لم يتجاوز هذا الحدّ. 

  وكان جورج جورس Georges Gorse يرافق موريس كوف دو مورفيل في مهمته (بدأت في 19/11/1975 وانتهت في 2/12/1975) وجورج جورس يعرفه المصريون جيدًا، يوم كان سنة 1939 أستاذًا محاضرًا في "جامعة فؤاد الأول" (جامعة القاهرة فيما بعد) وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ترك مصر وانضم إلى "فرنسا الحرة"، والجنرال شارل ديجول، وكانت الصحافة الفرنسية تطلق على جورس لقب "اليساري الديجولي"!

  منذ البداية حرصت باريس على التأكيد أن هذه المهمة دو مورفيل– جورس، ليست "وساطة فرنسية"، إنما بعثة "الصداقة والاستطلاع"، ولقد فهمنا نحن، معشر الصحفيين، أن باريس أرادت التوضيح للمسؤولين اللبنانيين أن مهمة المبعوثين الفرنسيين هي إيجاد مناخ ملائم لتسهيل الحوار، والاتفاق بين جميع أطراف النزاع.

  ما كنت عرفته في بيروت في حينه عن مهمة دو مورفيل- جورس، وكنا نحكيه ونحلّله في اجتماعات التحرير، وفي اللقاءات مع السياسيين والسفراء المعتمدين لدى بيروت؛ أن دو مورفيل حاول بكل ما أوتي من حنكة وتجربة إقناع جميع الزعماء اللبنانيين والقادة الفلسطينيين، وتحديدًا ياسر عرفات، ثم الرئيس السوري حافظ الأسد، بالمقترحات السياسية الفرنسية حول الأزمة اللبنانية– اللبنانية من جهة، واللبنانية– الفلسطينية من جهة أخرى. 

  وتتضمن تلك المقترحات خطوات عملية تهدف إلى انفراج الوضع اللبناني، واستعادة الاستقرار والأمن، والأهم تحصين "وحدة لبنان" وسيادته واستقلاله.

  وقد تصدى دو مورفيل بمؤازرة "بكركي" و"الفاتيكان" للتيار المؤيد لتقسيم لبنان، فأكد "أن التقسيم أو التجزئة تمثل خيارًا غير واقعي، بل اعتبره حلًا عبثيًا"…

  ولم يترك السياسي الفرنسي المُجّرِب كلامه على عواهنه، فقد كشفت إحدى الوثائق، أنه قال خلال لقائه الطويل مع الرئيس كميل شمعون، أحد البارزين في "الجبهة اللبنانية":

 

"إن ثروة لبنان تتكون بالدرجة الأولى بفضل المكانة المالية لبيروت، وبفضل نشاطات مرفأ بيروت، هذا الأمـــر يعني أن على المسيحيين أن يفهموا أن تقسيم لبنان سيؤدي إلى فقدان بيروت مكانتها المالية، لأن رؤوس الأموال لا يمكن أن تأتي أبدًا إلى بلد مقسّم، وبالتالي غير آمن".

  وعند المبعوث الفرنسي، أن تلك الإصلاحات تبدأ بتعديل الدستور بطريقة تسمح بإقامة ما سماه "التوازن العادل بين الطوائف اللبنانية"، وبعد ذلك "إقرار إصلاحات اقتصادية واجتماعية من أجل تحقيق مساواة وعدالة اجتماعية، وتنمية وتطوير كل المناطق اللبنانية من دون استثناء."

  وإذا كان دو مورفيل وجد حلًا للأزمة اللبنانية– اللبنانية، فكيف كان يرى الحل للتواجد الفلسطيني في لبنان الذي تسبب بالأزمة اللبنانية- الفلسطينية؟     

تم نسخ الرابط