الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

لم أكن أعرف ياسر هواري، وما كنت قرأت له، فهو مقِلٌّ في الكتابة، وهذا ما يؤخذ عليه، لكنني كنت أعرف عنه، فالرجل من الرعيل النادر الذي شَعَّ اسمه في سماء الصحافة اللبنانية، وسَرى ذكره في البلدان العربية.

 

 

ما توقعت أن يأتي اليوم الذي أتعرف فيه إليه، وأعرفه، وأعمل معه، ويصبح من الذين أصطفيهم من الأصدقاء.

 

جَنَّ جرس الهاتف المدفون تحت الأوراق المبعثرة والمتراكمة على طاولتي، رفعت السماعة:

-    أستاذ مودي.. أنا ياسر هواري

 

طلع الصوت هادئ النبرات، لَفَّتني المفاجأة، غَصَّ الكلام في حنجرتي، غالبت تجمد الكلمات على طرف لساني، مرت بمخيلتي عشرات الصور له، شعر بارتباكي، هَمَسَ صوته:

 

- بين يدي نسخة من "بيروت المساء"، أريد أن أبدي لك إعجابي وتقديري لأسلوبك في تصميم الصفحات، واستخدامك الجيد والمتأنق للصور.

 

 

وسكت، انتظرت هنيهة استسلم إلى المفاجأة، ابتهجت أغوار قلبي بكلامه.. أن يأتيك مديح أو تقريظ من صحفي مثل ياسر هواري، هو الأجر الحقيقي الذي يتمناه أي مصمم صحفي.

 

 

استطال سكوتي، استبطأ الكلام، زخرف كلمته بالرغبة:

 

- حبذا لو التقينا غدًا في مكاتب "الديار" في "فردان"، أظنك تعرفها.

 

هززت رأسي بالإيجاب قبل أن تخرج الكلمات من بين شفتي، أخذت نفسًا عميقًا من الغليون، تلذذت به، دغدغتني سعادة غامرة.

 

 

لأول مرة في حياتي كرهت الانتظار شارع "فردان Verdun" تغار منه شوارع بيروت، فهو شاغل العالم، وعلى مساحة 760 مترًا.. ترى العجب: محلات تكتب على جبينها أشهر أسماء بيوتات الأزياء في العالم، فنادق، مطاعم، علب ليل، وسهر. 

 

 

في سنة 2015 في تقريرها السنوي السابع والعشرين لأغلى الشوارع الرئيسية في العالم، وضعت مؤسسة "كاشمان إند ويكفيلد" الشارع البيروتي العريق في المركز الثالث عربيًا، والثامن والأربعين عالميًا.

 

 

والشارع يحمل اسم مدينة "فردان" (شمال شرق فرنسا) التي دارت فيها أطول معركة في الحرب الكونية الأولى، فقد استمرت سنة 1916 تسعة أشهر وثلاثة أسابيع وستة أيام، وأرضها ارتوت من دماء مئة ألف جندي، وكانت انتهت بهزيمة الجيش الألماني على يد الجنرال الفرنسي هنري فيليب بيتان. Henri- Philippe Pétain

لم أنتظر طويلًا، أدخلتني السكرتيرة مكتبه، لما رآني انتصب ياسر هواري خلف طاولة مكتبه.

 

-    أهلًا.. أهلًا وسهلًا أستاذ مودي

 

 

ومسح وجهي بعينيه، مدَّ يده، دفنها في كفي. 

 

 

ربعة في القامة، مليح القسمات، جذابها، شعره الذي خطه ولونه الشيب يضيف عليه وقارًا، يتحدث إليك في منغوم عذب، هادئ النبرات، يعرف كيف يدخل إلى عقلك وحياتك، عفيف اللسان، يحتفي بزائره فيوسع للكل في مجلسه، إن في مكتبه المعجوقة طاولته بالأوراق والملفات، أم في منزله، ويفيض عليهم في مجالسه الشيء الكثير.

 

 

وهو إلى ذلك من أرق وألطف الناس خروجًا إلى حديث، تسمع له فلا تجد في رأيه أي نقص، ولا في قوله سقط أو شائبة أو عيب.

 

 

عرض عليّ الانضمام إلى ما سماها "ورشة أسرة الديار"، ولم يمانع كوني أعمل في "بيروت المساء"، وفي "الأسبوع العربي" التي كان وراء شهرتها وشهرته في أوائل ستينيات القرن الماضي.

 

 

لم أتردد، ولم يتردد هو، طلب فاروق البقيلي الذي كان صمم "ماكيت" المجلة، عرفني عليه لتبدأ علاقة شابها التوتر والنفور أولًا، لتنتهي بنا إلى ود وصداقة ورفع كلفة.

 

 

هي اللحظة إذاَ، وهو القرار الذي لا بد منه والذي سيغير حياته، ويلتقط ياسر هواري اللحظة، يمحو من ذهنه كل شيء ما عدا ما قال له إميل الخوري ذات يوم في جريدة "الديار"، زمن حنا غصن، مؤسسها ورئيس تحريرها:

 

-    إنك يا بني سيكون لك مستقبل منير في الصحافة

ومن يومها تخلى عن فكرة الطيران، وهجر كلية الحقوق، وأمسك القلم ولم يتركه.

 

وإميل الخوري (1894- 1961) يعرفه المصريون كاتبًا ماهرًا في اصطياد الأخبار وصياغتها بأسلوبه المتميز في "الأهرام"، وكان محمد التابعي كلما كتب أو تحدث عنه كان يصفه بالأستاذ الكبير، فما عاد ذكر إميل الخوري إلا واللقب قبل اسمه، وهو كان كتب لشيخة جرائد العرب سلسلة من التحقيقات الملفتة، تنبأ في نهايتها بالحرب الكونية الثانية، وما حدث بعد تحقيقاته بسنة كان مصداقًا لما كتب، بثاقب بصره وبصيرته، وكان مكوثه في مصر وفي "الأهرام" يمكن أن يطول لولا أن إسماعيل صدقي باشا أصدر قرارًا سنة 1925 بإخراجه من مصر، بسبب نشاطه في خدمة سعد زغلول باشا.

 

 

وإميل الخوري جال أوروبا، كتب وتاجر ونجح واغتنى، وعاد إلى لبنان سنة 1952 ليصبح على عهد كميل شمعون سفيرًا لدى روما، وفي "فلورنسا" جاءته المنية فنقل جثمانه إلى مسقط رأسه "برمانا" سنة 1961.

 

 

وغَلَبَ على ياسر هواري الميل الحاد إلى الصحافة، فسافر يدرسها في London College of Journalism وفي "عاصمة الضباب" تألب على المجلات، أوسعها درسًا، نظر إليها من كثب، وأنعم النظر في ما دخل على الإخراج الفني من تطور، وبدأ يكتشف أهمية "الصورة" في المقال أو التحقيق، والأهم معرفة اختيارها، وأسلوب وضعها وإبرازها في الصفحة، فطافت عليه رغبة غامرة بأنه متى عاد إلى بيروت يخرج من جعبته حصائد ما درس ورأى وعاين.

 

 

وتصاريف الزمن وضعته في درب سعيد فريحة الذي كان يعد العدة لإصدار مجلة فنية، تؤنس وحدة شقيقتها "الصياد"، وحدث أن عرض ياسر هواري على صاحب "الصياد" رؤيته بأن يكتب الخبر فيها على شاكلة "أقصوصة" أو حكاية وبلغة مبسطة وسهلة، فيها عافية اللغة مع إعطاء الصور حيزًا بارزًا.

 

 

-    "اتكل على الله".. طلع صوت سعيد فريحة مزهوًا بما سمعه.

 

 

واتكل ياسر هواري على الله، وأصبح رئيسًا لتحرير "الشبكة"، كان في السابعة والعشرين من عمره، وإلى جانبه مسك سليم نصار القلم وسانده عاطف السمرا، وصحافيين مبتدئين في الحرفة أصبح لهم في ما بعد "شنة ورنة" في الصحافة اللبنانية والعربية.

 

 

بعد صدور العدد الأول في 30 يناير 1956 وعلى غلافه صورة فاتن حمامة، قال سعيد فريحة لياسر هواري: 

-    لقد تمكنت من أن تجعل سعيد عقل من قراء "الشبكة"، وسائق التاكسي أيضًا.

 

 

وهزت شباك "الشبكة" مجلة "الكواكب" المصرية، ولأول مرة وجدت "بنت دار الهلال" من ينافسها على عرش المجلات التي تعنى بالفن في العالم العربي.

 

 

وترعرت "الشبكة" ونمت، كبرت وشاخت، واستمرت المجلة الفنية الأولى في العالم العربي على الرغم من مزاحمة "الموعد" و"السينما والعجائب" و"الكواكب".. سنة 2018 غابت "الشبكة" وكان عمرها 62 سنة.

 

 

بعد ثلاث سنوات قرر ياسر هواري ترك "دار الصياد" و"الشبكة".. حمل حقائب السفر من جديد وطار إلى "نيويورك".

 

 

في "نيويورك" مكث ياسر هواري سنة كاملة، كان يتردد خلالها على مكاتب Time-Life، يتنقل في أقسامها، يرى، يعاين، يتعلم، يسأل، يستفسر، يسمع، يستوعب، ويناقش، واكتشف مجددًا ما للصورة من أهمية في مواكبة النص المكتوب، وأنه أحيانًا تُغني الصورة عن الكلام، فهي قد تقول بما فيها من ظلال وأنوار وبهاء وأنوار وسناء، ما لا يمكن التعبير عنه بالأحرف المرسومة على الورق.

 

 

ووطن النفس على أن ينسج على منوال "لايف" مجلة تحاكيها في النهج والأسلوب.

 

 

وفي بيروت التي عاد إليها بعدما امتلأت كأس شغفه بفكرة المجلة الجديدة، فاتح عبد الله المشنوق، صاحب جريدة "بيروت المساء"، وكان كتب في عواميد تلك الجريدة زمنًا، بما يفكر به وينويه، فراح المشنوق يحاول أن يجمع ما قد يسمح بتحقيق "حلم" هواري، فتمكن من جمع مئة ألف ليرة، والليرة في الستينيات كان لها الحول والقوة، ويحسب لها ألف حساب، ووجد ياسر هواري أن المبلغ لا يلبي ما يحتاج مشروعه فَأغلق ملف الفكرة الجديدة.

 

 

وخلال لقاء مع جورج سكاف، صديق عمره ودربه (كان أسس معه ومع مهيبة المالكي مجلة "رجال الأعمال" واشترت المالكي حصتي سكاف وهواري وانفردت بملكية امتياز المجلة) ذكر له أن جورج أبو عضل بعدما أصدر مجلة Magazine باللغة الفرنسية التي راحت تزاحم وتنافس مجلة La Revue du Liban، يعد العدة لإصدار مجلة سياسية أسبوعية سماها "الأسبوع العربي"، وجمع لها لفيف من الصحفيين أعدوا عددا تجريبيًا لم يحظ بما يطمح إليه جورج أبو عضل، وشجعه سكاف أن يطرق باب الناشر الثري.

 

 

فعل والتقاه، وعرض عليه فكرة المجلة المختمرة في رأسه، وهي على شاكلة "لايف" و"باري ماتش" التي كان جان بروفو Jean Prouvost حولها إلى "لايف" فرنسية.

 

 

سمع جورج أبو عضل ما جاء ياسر هواري يعرضه، سأل، وأجيب، استزاد، فزيد شرحًا، ثم وافق، وعندما سأله أبو عضل عن الراتب الذي يرضيه ويكفيه فوجئ برفض ياسر هواري تقاضي أي راتب شهري، واشترط الحصول على نسبة 10% من حصيلة التوزيع، اندهش أبو عضل ونزل عند رغبة الشاب المتوثب للنجاح.

 

 

كانت المجلات اللبنانية في ذلك الوقت تبدي الكلام على الصورة، فقام ياسر هواري في "الأسبوع العربي" باختزال الكلام لصالح الصور المعبرة، أعطاها مداها على الصفحات وكانت منتقاة بذوق وحرفة وفهم لفن التصوير، وقد تربى في "الأسبوع العربي" مجموعة من المصورين المبرزين، منهم لبيب ريحان، بيار معدنجيان، وعماد تكريتي، صوروا وأبدعوا وتفننوا.

 

 

وفي حين كانت المجلات اللبنانية تركز أيضًا على "المحليات اللبنانية" أكثر من "العربيات"، قام ياسر هواري بكسر تلك المعادلة، فكانت "الأسبوع العربي" تعطي الشأن اللبناني 30% من صفحاتها و70% لأخبار العرب، فأخذ لبنان إلى العرب، وجاء بالعرب إلى لبنان.

 

 

وأطلق بذلك صحافة Pan Arab وراحت "الأسبوع العربي" تسرح وتمرح، تصول وتجول، وتنتشر، ويرتفع توزيعها أسبوعًا بعد أسبوع.

 

 

واستغل أنطوان شويري، المسؤول عن الإعلانات هذا النجاح على مستوى العالم العربي كله، فأطلق بدوره Pan Arab Ad وبدأ المعلنون الأوروبيون، والأمريكيون واليابانيون، يتهافتون على الإعلان في "الأسبوع العربي" ذات الانتشار الواسع في بلدان العرب.

 

 

وعرف ياسر هواري كيف يتسلل إلى مداخل السياسيين، لبنانيين وعربًا، وأن يستل عنهم ذاتيتهم من غير أن يدع أحدًا يستل ذاتيته المهادنة، البعيدة عن التصادم والهجوم والحدة، فاتهم في الوسط الصحفي باعترافه في البرنامج التليفزيوني "ما وراء الوجوه" الذي كان يقدمه ريكاردو كرم، بأن "صحافته لا لون لها ولا طعم ولا رائحة"، ودافع عن نفسه في البرنامج نفسه بعتبرها "صحافة الحقيقة الموضوعية"!

 

 

وعلى الرغم من تلك المهادنة لم تسلم "الأسبوع العربي" من "قلم الرقيب" فكانت تمنع وتصادر.

 

ويحسب على ياسر هواري جرأته في كسر التقاليد والمعادلات الصحافية، فكانت "الأسبوع العربي" المجلة السياسية الأولى في العالم العربي، التي تجرأت على أن تصدر بقضية ثقافية على الغلاف، عن خروج محمود درويش من فلسطين، ثم منح الرحابنة وفيروزتهم أغلفة عدة، وكان له الفضل في تعريف العرب على نزار قباني، الذي احتل غلاف المجلة أكثر من مرة.

 

 

واستمرت "الأسبوع العربي" المجلة الأولى في العالم العربي لا ينازعها أحد حتى مطلع السبعينيات، ثم أخذ نجمها يأفل تدريجًا، وركنتها على الرف صحافة المعلومات التي أطلقها سليم اللوزي، وتسيدتها مجلة "الحوادث" حتى وفاة اللوزي سنة 1980.

ولم تتوقف أحلام ياسر هواري...  

تم نسخ الرابط