عاجل
الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

ابتسامة من ألم

رسم: سوزى شكرى
رسم: سوزى شكرى

في أحد الأيام من شهر أكتوبر كان الجو صحوًا وأوراق الأشجار تتساقط داخل قسم واسع, جدرانه بيضاء بها صور من إبداعات التلاميذ، وثلاثة صفوف من طاولات خشبية ونوافذ كبيرة يشع من خلالها ضوء ينير المكان, ومكتب كبير للمعلم بجانبه سبورة سوداء علّق فيها مكان لوضع الطباشير والممحاة.



 

بينما كنا نتابع الدرس فإذا بالباب يطرق طرقًا شديدًا, بدا لنا خيال شخص كبير أنه المدير يدخل ومعه تلميذ جديد عيناه تلمعان من الذكاء، وملابسه رثة وقال لنا: هذا صديقكم الجديد "كمال"، والتفت إليه مخاطبًا: تفضل خذ مكانك, واستمر المدير يحادث الأستاذ وبعد خروجه، حوّل التلاميذ نظرهم اتجاه كمال فلم يرفع رأسه، ثم استمر أستاذ العربي في الدرس, دق جرس الاستراحة فخرج التلاميذ يتسابقون كالعادة، لكن "كمال" ظل واقفًا في مكانه حتى خرج الجميع، وفي ساحة كبيرة تتوسطها حديقة جميلة بها أشجار عالية كان الجميع يلعب ويتناول وجبته الخفيفة, استرقت النظر اتجاه "كمال"، فلاحظت أنه أخرج منديلًا غير نظيف من جيبه وبدأ يأكل.

 

عُدنا إلى الصف وكمال لم يكلم أحدًا، وفي اليوم الثاني جاء كمال متأخرًا ودخل القسم ولم يكلم أحدًا كذلك، وفي الاستراحة أخرج نفس المنديل وبدأ يتناول طعامه، عندما انتهى توجهت إليه وطلبت منه أن نلعب جميعًا لكنه طأطأ رأسه دون أن يجيب وابتسم ابتسامة مليئة بالحزن، جعلتني لا ألح عليه في السؤال، تكرر ذلك الفعل لمدة أسبوع كل يوم نفس قطعة الحلوى؟ ماذا يخفي هذا الطفل وراءه؟ وقررت أن أكتشف السر وفي يوم من الأيام وضع المنديل على كرسي ودخل يغسل يديه, فأخذت المنديل وفتحته لأتسمر في مكاني من الدهشة, لم يكن يأكل بل كان يتظاهر بالأكل لقد كانت قطعة الحلوى عبارة عن قطعة خشبية شكلها شكل حلوى, نزلت الدموع من مقلتي, وضعت المنديل في مكانه وذهبت عند أستاذي فأخبرته بما رأيت فقال لي: "نعم يا ابنتي انه طفل فقير، أبواه مريضان وله أربعة إخوة"، حزنت لما سمعت.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

وقلت له: "أريد أن أقتسم معه وجبتي"، أجابني الأستاذ: "لن يرضى يا ابنتي؛ لأنه يملك عزة نفس، ولكن سنساعده دون أن نجرح شعوره"، قلت له: كيف؟ فقال لي: كل يوم قبل الخروج إلى الاستراحة سأرسله ليملأ لي قنينة ماء وأنت ضعي له حصته داخل المنديل دون أن يحس, وبالفعل فعلت ما اتفقنا عليه, ومر يومان فلاحظت أن نظرات كمال اتجاهي تغيرت فتلك الابتسامة المليئة بالألم تحوّلت إلى ابتسامة بريئة صافية واستمر الحال هكذا, وفي أحد الأيام ذهبت رفقة أمي إلى سوق خارج مدينة طنجة، وإذا بطفل وراءنا يدعونا لشراء الأكياس من عنده، كان ذلك الطفل هو كمال صُدم عندما رآني لكني اتجهت إليه وقلت له: أهلًا صديقي كمال.

 

وتدخلت أمي لتقول له: أنت طفل رائع تعتمد على نفسك وستكون إن شاء الله رجلًا يعتمد عليك فهنيئًا لوالديك بك، ابتسم لنا ابتسامة حزينة فقرأت في عينيه ما يخالجه من تساؤلات: هل ستخبر التلاميذ؟ هل سيستهزئون بي؟ لكني لم أعرف كيف أتصرف وفي اليوم التالي دخل كمال مطأطأ الرأس ينتظر تعليقات التلاميذ، لكني لم أخبر أحدًا لأن هناك أطفالًا يستهزئون من لا شيء، فاستنتج كمال أن الأمر عادي، ومنذ ذلك اليوم وهو يبتسم ابتسامة بريئة صافية دون أن يندمج مع التلاميذ. وفي الثالث من دجنبر دخلنا إلى القسم كعادتنا، عندما دق جرس الاستراحة خرج التلاميذ يلعبون، وبقيت أنا في القسم متكئة على الطاولة، وما هي إلا لحظات حتى لمحت طفلًا يقف بجانبي.. إنه كمال يدعوني للخروج للعب، رفضت الخروج ولأول مرة خاطبني: لماذا لا تخرجين للعب, هل هناك مشكلة: أجبته لا أستطيع اللعب فاليوم هو ذكرى وفاة أبي.

 

وأنا أسترجع الذكريات التي كانت معه. تغيّرت ملامح وجه كمال فأمسك بيدي وقادني نحو حديقة الساحة، وأخذ عودًا طويلًا ورسم وجهًا كبيرًا به ابتسامة حزينة فكتب تحتها إنه الماضي، ورسم تحت ذلك الوجه وجهًا آخر مبتسمًا، وكتب عليه إنه الحاضر والمستقبل، ففهمت الرسالة وتحوّلت ابتسامة الألم إلى ابتسامة أمل.. إنه الأمل والمستقبل.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز