عاجل
الخميس 2 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

ذات رحيل

رسم: ابراهيم عبدالملاك
رسم: ابراهيم عبدالملاك

الزمن الهارب من ثقوب ساعة الحائط المعلقة في غرفة دراستي، استمر بوداعة يغير طباعه عندها، هناك في غرفتها النائية، ليصبح ودودًا ومهادنًا كقط أليف.



أقرع الباب فتستقبلني -قبل ابتسامتها المهللة- رائحة البخور العطرة، شيء من عبير مميز، ظلت تتفرد به دونًا عن باقي غرف الدار.. عبق خاص، يذكرك بزيارة المقامات المقدسة! شيء من السفر في الماضي العزيز!

لطاما أثار فضولي، سبب اختيارها تلك الغرفة المنزوية، دونًا عن باقي غرف البيت؟!

نعم.. لقد أصرت بعناد عليها، لأن طريقها يمر من أمام نافذة المضيفة، وهكذا تستطيع أن تتملى، وتسترق النظر إلى صورة المرحوم جدي الكبيرة -والمعلقة بصدر المضيفة- بشاربية الغليظين، والمعقوفين بشموخ للأعلى. هذه الصورة التي طالما سحرتني -أنا أيضًا- بهيبتها ووقارها. 

كنت أصارع عقارب الساعة، لأنهي واجباتي، وأذهب إلى صومعتها الحنون، حيث تقص عليّ حكاياتها عن الجـنيـــات، والشاطر حسن، وسير الأنبياء، وسير البطولات، بينما تكون قد أعدت لزيارتي أطايب من أطعمتها اللذيذة.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

(2)

لكم أرسلـتني لأسدد عنها بعض النقود للبقال، لعلمها كم يبعث هذا في نفسي من الثقة والحبور، نعم.. مذ كنت في المرحلة الابتدائية، وهي ترصد حركاتي، نظراتي وأهوائي، لتتعرف إلى ميولي ورغباتي، فتقومني وتعجنني، لأنضج على نار حكمتها الهادئة، كما أرادت، فمرة عبر السير الدينية، وأخرى عبر السير البطولية، وأحيانًا باستعادة قصص الميثيولوجيا الهادفة، أتنقل في حدائق روحها العظيمة، أعب وأنهل ولا أرتوي؛ لأعود إلى غرفتي، مترعًا بأحلام وطموحات عظام، متخمًا بالأفكار، ومدججًا بالتطلعات والآمال تشع بريقًا في عيني الواعدتين، فأجدني، وكأنني قد خبرت عصرًا ذهبيًا، أستطيع أن أقولب الواقع وفقه. 

 (3)

ذاك الصباح! وبعد أن حاول شقيقي الأصغر كريم، ربط شريطتي ياقته المدرسية الحمراء، انفجر صوته فجأة بنوبة بكاء مقهور، بعد أن فشلت جميع محاولاته. وشعرت لأول مرة في حياتي، بأن بكاءه ينذر بشؤم. وراحت عضلات غريبة تتقلص في بطني، وتضاعف وجيب قلبي، عندما هبت أمي مسرعة لتنقذه من الاكتئاب الذي بدأ يحاصر روحه ومزاجه. 

ثم رحنا نتحلق حول أمي، وهي تحضر لنا (عرائس اللبنة) لنأخذهم معنا إلى المدرسة كوجبات مساعدة، وكنت سألتها عن سبب تسميتها بالعروس، لتغيير مزاج ذاك الصباح.

-ربما بسبب عدد لفات الخبز التي تشكل استدارة قوامها، أو ربما؛ لأنها شهية دائمًا! وابتسمت.

وكما في كل يوم من أيام المدرسة، بدا الجميع منهمكًا بشدة، في نصف الساعة تلك، التي تسبق موعد مغادرتنا إلى المدرسة، وهنا يصبح انتقالنا إلى باحة الدار، محملين بحقائبنا و(عرائس اللبنة) -لانتظار بعضنا بعضًا- عامل ارتياح نفسيًا، يبدو جليًا على محيا أمي.

(4)

لا تفارق ذاكرتي تلك اللحظة، عندما سمعت صوتها، بدا يائسًا ومحبطًا، يشوبه ارتجاف، والكثير من التوسل والرجاء، عندما قالت بتهالك:

-دخيلك يا امرأة سعيد! يمكن (بدي أموت)!

نظرت ناحية الصوت المصفر، كانت جدتي. 

ثم تهالكت مستندة إلى جدار باحة الدار، وراح وجهها يمتقع بالصفرة، ليغدو كقطعة صلصال، ينضح بالخوف من مصير، تبين واضحًا لصاحبته.

وبدا جليًا، أنها تجتاز المسافة الفاصلة بين عالمين، لا يستطيع أحد سواها رؤيتهما. راحت عيناها المضمحلتان، تتنقلان بحسرة على الأشياء المتناثرة حولها، فيما تمسكت هي - بيدها المعروقة والمرتجفة- بشبك النافذة المعدني قربها، والمصنوع على شكل دوائر متداخلة، وشدت قبضتها عليه، عند نهاية الدائرة التي تبدأ بعدها دائرة جديدة، كأنها تعبر عن تمسكها بالحياة.

اتجهت أنظار الجميع بفزع، ناحية الصوت المتضرع، استبد بنا قلق ورهبة كبيرين. عندها بادرت أمي مشجعة:

-سلامتك يا امرأة عمي، خبريني، مم تشتكين؟!

جالت بعينيها الذاويتين في أرجاء المكان، تبحث عن شيء قوي ونفيس، تتشبث به، وتناضل من أجله! عندها التقت عيناها عينيّ، ولاحظت ساعتئذ، أن عينيها عسليتان، تشوب لونهما خضرة فاتحة، وشعرت حينها أنهما تستنجدان بشدة، وتتمسكان بذيول الحياة.

-تفضلي، ادخلي يا امرأة عمي - وساعدتها حتى أوصلتها إلى الغرفة- استرخي قليلًا، وسأعد لك (كاسة متة) ساخنة، وستشعرين بعدها بتحسن كبير، إن شاء الله.

    ترنحت قامتها المستندة إلى ذراع أمي، بينما هي تردد مطمئنة نفسها:

-أي (مليحة المتة)، (مليحة، مش هيك؟!).

-نعم (مليحة كثيرًا) الآن ستشربين كأسين، وستشعرين بتحسن كبير، إن شاء الله، لا تقلقي يا امرأة عمي، (شو مفتكرة الموت نعاس؟!) قالت والدتي مشجعة.

-أنت والحمد لله بصحة جيدة، فقط أنت لم تنمي جيدًا ليلة أمس، تابعت أمي طمأنتها، بينما كنا نحن نغادر إلى المدرسة.

(5)

بدت الحارة غريبة على عند عودتنا من المدرسة، شعرت أنني تهت، أو أضعت الطريق. الناس متجمعون، ونفر غريب وكثير، يكتظون متجمهرين، أمام البوابة، وداخل باحة الدار، عندها شاهدت جارتنا الشابة (سلوى)، والتي طالما أغرمت بملامح وجهها المشرق، بدت سلوى ذاك اليوم حزينة الوجه، ومدمرة الملامح، تتجمع في عينيها اللوزيتين سيول، تنتظر الاندياح. 

-تشجع يا وسيم، قالت من خلال دموعها، وأدخلت أصابع كفها العطرة في شعري المندى بعرق بارد.

تجمدت في مكاني، رميت حقيبة المدرسة، وصرخت بكل قوة صوتي: 

-(لا.. لا). 

طوحت ووليت هاربًا، لا ألوي على شيء، تاركًا شقيقي الأصغر كريم حائرًا، لا يعرف ماذا يفعل.

رحت أراقب البيت من بعيد، غير قادر على الدخول، بينما لم تعد تفارقني صورة عينيها العسليتين الضاربتين إلى الخضرة، وهما تستغيثان بعيني، ورحت ألوم نفسي، لأنني لم أمنح تلكم العينين، أيما طوق نجاة، عندما أشحت بعيني بعيدًا عن نظراتها، وانسللت سريعًا إلى المدرسة، كأنني أحاول التخلص من كابوس مخيف.

شعرت بحب كبير، يلعج في ضلوعي نحوها، ورحت أتضرع إلى الله أن يعيدها! 

فأشاهدها عندما أعود جالسة كعادتها في صدر الغرفة. تقلب في الصور القديمة، تخاطب أصحابها، وتعاتب غيابهم الطويل، بينما هي تنتظر عودتي، لأحدثها عن يومي المدرسي، وشقاواتي ومعابثاتي.

بقي باب غرفتها مقفلًا ردهة من الزمن، كنت -خلالها- وفي كل يوم. بينما أنا راجع من المدرسة، أتوقع أن معجزة سوف تحدث، وسأشاهد باب غرفتها مفتوحًا، وأشاهدها حاضرة بكل أنسها – وكعادتها - مادة ساقها اليمنى إلى الأمام، تريحها، وتدلك بيدها اليمنى مفصل الركبة المتألم والمتآكل.

(6)

ذات يوم شتائي بارد ومدلهم الغيوم، كنت عائدًا من المدرسة، محملًا بأمنية راحت تذبل وتذوي من طول الصبر، شاهدت من زجاج البوابة الخارجية لدارنا باب غرفتها مفتوحًا، ركضت فرحًا ومستبشرًا.

-أخيرًا.. تحققت.

كانت غرفتها تضج بالفوضى، الأغراض ملقاة في شتى الأماكن، ومفروزة على شكل حصص، بينما كانت عماتي وبعض النسوة الأخريات، تتقاسمن حصصهن من التركة.

ألقيت ببصري على الأغراض الغالية على قلبي. 

متناثرة ومقطعة الأوصال، تشتكي مثل ذاكرتي الكليمة.

سألت باستغراب:

-(ليش).. هل ماتت (ستي)؟!

تطلعت النسوة إليّ بدهشة، كمن تنظرن إلى مجنون، فلقد ماتت الجدة منذ أربعين يومًا تمامًا.

خرجت مصدومًا، فقابلتني شجرة التوت في باحة الدار، كانت هي أيضًا، تذرف ما تبقى من أوراقها، ذاك الشتاء. عُدت إلى غرفتي، وأقفلت الباب، لقد رحلت جدتي في الغياب، ومنذ تلك اللحظة، لم أعد أتوقع أبدًا.. حصول معجزات.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز