
دفـن البـــــــذرة

قصة: شيرى باتريك
نقمة ولكنها نعمة.. ملائكة وشياطين.. جنود وعِظام.. أقوياء وضعفاء.. امرأة وجارية.. نور وظلام.. بذور وأشواك.. بستان وصحراء.. إرادة وسخرية..
يومًا ما قررتُ أن أذهب إلى اإخصائى العلاج الطبيعى محاولة منّى لمعالجة العَرَج الجسدى الذي أُعانى منه، وذَهبتُ لأنى أعانى كثيرًا من عجزى الظاهر أعانى من
نظراتهم همساتهم سخريتهم إهمالهم..
أُعانى من جملة (كُنتُ أَمزح معاكِ)، أُعانى من لغات أجسادهم التي كانت تُحاول سَجنى بالبيت. ففى مرحلة الطفولة فى شوارع قريتى كان بعض أطفال القرية يسخرون منّى ويُقلدون طريقة المَشى الخاصة بى..

وذًهبتُ كان الإخصائى مصغيًا لى وتبدو عليه السعادة كلما تكلمتُ وأخرجت ما بصدرى من صناديق سوداء، وفى المنتهى بعدما تكلمتُ معه وتناقشنا كثيرًا فى موضوعات مختلفة..
ضحك وقال: سأُساعدك ولكن كونى على يقين أن عقلكِ سليم.. ونفسكِ راضية.. وقلبكِ صحيح.. وفكركِ بنَّاء.. ووجهكِ مُشرق.. وعيونكِ لامعة.. ويديكِ ستُعينان كثيرين.. وقدميكِ ستأخذاك إلى عالم أفضل.. وستكتشفين العالم من حولكِ.. ولا تنصتى إلى هؤلاء الذين لديهم عَرَج عقلى.. عَرَج نفسى.. عَرَج فكرى.. ووجوههم عابسة.. وعيونهم تغمرها الكآبة.. وقلوبهم مَقابر للكراهية.. وعقولهم منبع الكوارث..
اذهبى فعقلكِ قادرٌ على جعلك امرأةً مثمرةً تُطعِم العقول والقلوب قبل المعدة..
وقلبكِ يا صغيرتى المملوءُ بالمودة والمحبة سيحتوى ملايين الضعفاء، فمن عانى قادرٌ على إعانة المتألمين.. ونفسكِ المتزينة بالرضا والقناعة ستكون دومًا الأجمل..
اذهبى وابحثى عن الكنز المدفون بأعماقكِ؛ لا بل الكنوز المدفونة بداخلكِ، اذهبى ولا تنصتى لأحد وكونى أنتِ منارة ترشد التائهين فى صحراء الأنا.
لقد كان لقاؤه مُقدسًا مَنحنى السَكينة.. القبول.. الراحة..
كان لقاء أشبه بحضور متصوفٍ يدعو الناس للعبادة أو قديس ينشر السلام داخل نفس متألمة. ولكن سريعًا ما اشتعلت النيران مرّة أخرى بداخلى؛ لأن كلماتهم كانت مملوءة بالسخرية وأفعالهم سرعان ما أطفأت روحى.. سريعًا ما تكفنتُ بالكآبة..
وكيف لا أتكفن بالكآبة؟! وتَشتعل النيران مرّات عديدة بداخلى؟! وأُمزّق نهدى حتى يَسيل منه دمًا وأُدرك أثناء قراءتى أن ذلك من أعراض الاكتئاب..
ولكن.. ولكن كلمات المتصوف ما زلتُ أسمعها وسلام القديس ما زال يُريح النفس بعض الوقت.. فقررتُ أن ابحثُ عن تلك الكنوز المغمورة بداخلى رُغْمَ الإعاقة الحركية والألم النفسى.
وقررتُ ألا أُنصت لهم.. كان حديثى لذاتى وقوديًا، فكُنتُ دائمًا ما أُردد كلمات المُحللة النفسية كارين هورنى (إن لم أَكن جميلة أَردتُ أن أَكون ذكية)، وبدأتُ فى رسم خارطة ترشد نفسى نحو حياة أفضل بعيدًا عن الكآبة والإنصات لهؤلاء..
قررتُ أن أكون منارة ترشد نفسى أولاً نحو ميناء أجمل لتستقر سفينة حياتى فى بحر مملوء بالحياة والحب وليس الكآبة والأوجاع وأُثبتُ أننى إنسانة وبإرادتى سأكون أفضل ممن يستخدمون ألسنتهم فقط دون عقولهم..
ممن يسيرون وراء الشكل لا الجوهر..
وكانت وما زالت الكتب هى سلاحى فى اكتشاف الكنوز بأعماقى..
وكان عقلى رصاص ذلك السلاح، وحاولت قتل الخرافة، خرافة: "العقل السليم فى الجسم السليم"، حاولت قتل خرافة أننى لا أستطيع السفر للتعلم لأننى من ذوى الإعاقة الحركية وسافرت وتعلمت فى مدن عديدة وبعيدة وكان لدى عملى.. ومرت السنوات المكللة بالنجاحات والإخفاقات.. الألم والفرح.. كانت سنوات مُبهمة الملامح على البُعد السياسى ولكننى كُنتُ أَسير نحو نَحت أهدافى، أمّا هم فكانوا يَسخرون من أفكارى، لقد كانت السخرية نمطًا يتعاملون به معى منذ سنوات ولكن مازالت كلمات المتصوف وسلام القديس
تُريح نفسى.. وتتردد بأعماقى.. وتقوّى إرادتى.. تنير دربى.. تمنحنى القوة.. تشعرنى بالطمأنينة..
فقررتُ أن أَذهبَ إليه مرّة أخرى وأتحدث معه لعله يشعر بالآلام المدفونة بداخلى وتؤلمنى.. قررتُ الذهابَ لأننى أُريد التعافى من أجل ذاتى، فأنا اليوم أفضل منهم.. أريد أن أُحاول.. فخطأ الطبيب الذي على يديه جئتُ للحياة يمكن أن يصححه طبيبٌ آخر.. المحاولة كانت عقيدتى.. وذهبتُ ولم يكن طبيبًا؛ بل كان ملاكًا وبُعث ليساعدنى حقًا كان ملاكًا مملوءًا بالحب والرحمة.. حينما ذهبتُ إليه مع صديقى أعطانى أكثرَ مما كُنتُ أُريد منحنى الأمل والسلام قبل الأدوية.. شعرتُ بالسعادة حينما لمس أوجاعى غير الظاهرة التي كانت تأتى بين الحين والآخر؛ وبخاصة حينما أَشعر بعدم القبول، ملأنى بالأمل، جعل نفسى تزهر طول الوقت وليس بعض الوقت، أعتقد إنه توأم د.محمد مشالى (طبيب الفقراء).. ولكن كان السؤال لنفسى لو لم أكن من ذوى الإعاقة الحركية هل كُنتُ سأكون هكذا؟ أمْ أن الإعاقة كانت وقودًا يجعلنى أثبت مَن أنا؟ حقًا إنها نعمة وليست نقمة، نعمة جعلت منّى إنسانة تُدرك النِعَم.. وجعلت منّى بستانًا يُزهر ويساعد الكثير على أن يزهر رُغم الآلام والأوجاع.. حقًا إنها جعلت منّى امرأة قاريّة ومتعلمة وليست جارية تباع لمَن دفع أكثر.. جعلت منّى جنديَا مقاتلاً وليس مجرد عَظْمة لا قيمة منها.. جعلت منّى بطلة ليست من ورق.. جعلت منّى إنسانة يرق قلبها للمتألمين، نزعت منّى قسوة القَلب وتحَجُّره.
جعلت بداخلى طفلًا يحبو نحو النمو ولا يبالى بكثرة السقوط عند تَعلمه السَّير على الأرض. وكُنتُ على يقين أن رَحم المعاناة سيلد إبداعًا..
كُنتُ على يقين أن خلف الغيوم يأتى مَطرٌ يروى أرضى المشققة منذ عقود..
كُنتُ على يقين أن الشمس ستشرق وتُطهر نفسى المتعبة من الظُلمة الحالكة..
كُنتُ على يقين أن البذرة الصغيرة ستنمو يومًا ما وتعطى ثمارًا كثيرة..
كُنتُ على يقين أن الأمواج والأعاصير ستقود سفينة حياتى إلى ميناء أفضل..
سيكون دائمًا بجوارك الملائكة والشياطين ولكنك أنت مَن تختار أصدقاءك، وأفعالك سترسل لك مَن يرافقك رحلة دربك..
وفى رحلتى كانت الملائكة والشياطين ترافقنى، وكلاهما كان سببًا فى كونى كما أنا،
أنا بنت المحاولة.. بذرة الحياة.. ثمرة القوة.. وردة رُغْمَ الأشواك المنتشرة.. منارة ترشد كل من اقترب منها.. سفينة بها وفيها النجاة.. مازال هناك أَملٌ.. إيه فى أمل أوقات بيطلع من (ألم)!!