
قصة حامل البندير

قصة: على مرزوق
ذلك اليوم لا يمكن لعقلى ذى اللون الرخامى الأملس أن ينساه عندما ازدانت السماء بفستانها الأزرق ذات خصلات الغروب الحمراء المتدلية، وتكحلت الأرض بأجمل أزهارها باعثة أطيب الروائح وأجملها بين طبقات الهواء العديدة، وسط المبانى بالية تقع شقتنا، فى مبنى بسيط مُطل على الشارع الرئيسى، شقة بسيطة ليس بالشىء الكثير، صامدة رُغم تآكل السنوات وتعاقبها، بالمناسبة لقد انتهينا من أعمال الصيانة منذ مدة بسيط،ة فلا تزال رائحة الطلاء تملأ حجراتها، لكنها الآن أجمل من ذى قبل…
هذه غرفتى، أول غرفة على اليمين، بشرفة فى خارجها، أنا أعشقها عشقًا كبيرًا، لقد قضيت بها معظم أوقات حياتى، بجدرانها التي كانت متشققة حيواناتها الطريفة التي تزحف باستمرار، كانت واسعة رُغم شكلها المستطيل الغريب، وهذا الحديد ذو الطلاء الأسْوَد الذي يغلف أطرافَها والنباتات التي تحاصره بمختلف أنواع الورود والأعشاب المفيدة، لقد تعرفت علىَّ بالرغم من السنوات الذي مضت، ظننت بأنها قد نسيتنى، تبددت الشكوك عندما همست "اشتقت إليك"؛ تعلمت الكثير عن البشر منها، هى دائمًا ما تحدّثنى عنهم وما يدور بهم، فهى تستمع لما ينجم عنهم من أحاديث، تعلم ما يدور فى أنفسهم وتعلم كيف يفكرون، لا أعلم لماذا تركتها كل هذه المدة ولا أذكر سبب تركى لها، كل ما يهم الآن هو أنى قد عدت…
جلستُ بداخلها حيث ما كنت أجلس دائمًا لمشاهدة العالم، خلال تفاصيلها، ثناياها، لأول مرّة يخالج قلبى شعورٌ غريبُ لذا قررت عينى التأكد، لكن لا شىء، تملكنى شعورٌ غريبٌ لم ينتابنى سابقًا ولم أشعر به من قبل؛ أراحنى طير بُنّى بخطوط سوداء صغير كان يتمرن على الطيران من الشرفة العليا عندما أشار إلى تراكم الجيران وتزاحمهم داخل الشرفات، نساء، أطفال، عجائز، فى العادة لا نرى مثل هذا المَشهد سوى فى حالتين، فرح (عُرس) أو حزن (وفاة)…

وجّهت وجهى حيث يوجهون، هناك تجمُّع غير مألوف فى نهاية الشارع بالقرب من مسجد سيدى ابن الإمام، تساءلت فى همس بينى وبين ذاتى:
- "ما الذي يحدث هناك؟".
نزل هذا التساؤل هذا على رأسى عندما نظرت إلى إحدى الشرف المجاورة، إنها ابنة الجيران، بوجهها الدائرى الذي تغطيه نظارة بيضاوية الشكل، وظفيرتا شعرها المنسدلة على كتفيها الهزيلين، طولها وابتسامتها.. كم من سنوات مرّت وأنا لم ألحظها أو أنتبه لوجودها حتى؟…
الإجابة لم تتأخر.. فقد تعالت الأصوات القادمة من مسجد بالإمام فى نهاية الشارع، منذ مدة لم أستمع لهذا النوع من الموسيقى، إن الأصوات تتعالى شيئًا فشيئًا وتقترب بشكل كبير من أسفل شرفتنا، يا له من إيقاع أخاذ، إنه يستل الروح، يحلّق بها بين طبقات السماء، جوار السُّحب البيضاء القطنية، رفقت الطيور المُحلقة فى شموخ..
-أووو.. يا إلهى إننى أسقط! ".
لا، إنى فى الشارع الآن، بين الجموع "البندير" له صوت فريد، أريد المشاركة، أريد أن أسبَح مجددا، أريد أن أطير رفقة المُحلقين بالسماء…
انصرف تجار المحال التجارية عن البيع، كما أن الناس توافدت أعلى أسوار البيوت المتهالكة المهجورة لمشاهدة ما يحدث، هلاك المنزل من المزاحمة، لكن مَن ذلك الرجل الغريب الواقف أمام على عتبة ذلك البيت المهجور؟، ذو الشعر الكثيف والطويل حتى كتفيه، لحية كثة، سرواله وقميصه المرقعان فى غاية الغرابة والطرافة…
الانسجام هو ما يميز إيقاع هذه الموسيق، وغناء هؤلاء الرجال، على الرغم من كل هذا الوقت الذي استهلكوه للوصول إلى منتصف هذا الطريق المُعَبَّد الصلب الممتد والرابط بين المسجدَيْن، روح الحماسة تتقد فى قلوبهم وقلوب الناس المحيطة بهم كما تتقد النار فى ليلة شديدة الظلم وقودها حطب الآثام والخطايا…
"ماذا يحدث؟ أين أنا الآن؟"، هذا صحيح أنا الآن فى وسط هذه الحشود، ولكن كيف وصلت إلى هنا؟، الناس تحيط بى كما يحيط النمل بطعامه فى ذروة نوبة عمل شديدة القسوة، كسر تماسك هذه الصورة صوت البندير" يا ليتنى مَن يضرب به؟"، ياإلهى، حامله ينظر إلىّ، إنه ذلك الرجل المخيف، يرمقنى بنظرات مريبة، عن قرب إنه أكثر إخافة ورعبًا، بوجهه الكبير وعظام فكّه البارزة والتي زادته قبحًا!، يبدو أنه سمع الحديث الدائر بينى بين نفسى، ماذا؟، لقد التفت إلى الجهة المقابلة، يبدو بأنه لم ينتبه إلى ما قلت؛ نحن على أعتاب الوصول إلى مسجد ابن عيسى، ستنتهى هذا الطقس الجميل، هذه العفوية، البساطة، السعادة المرتسمة على وجوه الجميع بأسنانهم المتلألئة الكاسر بريقها جموح المسافات، والأعراق، الواصلة بلمعانها إلى أعتاب السماء الحمراء البرتقالية، ماء الزهر ينهمر من الشرف المتراكم على أطرافها النساء والأطفال من مختلف الأعمار كما تنهمر الأمطار الغزيرة فى فصل الشتاء، كنت لا أزال ألاحظ بنت الجيران على الرغم من هذا البُعد...
كم أتمنى ألاّ تنتهى هذه الطقوس، وتطووووول…
السماء بلا شمس الآن، نحن نودع يومًا آخر من رصيد أيامنا على ظهر هذه الأرض الفانية، يوم مضى وانتهى من أيام هذه الدنيا، ولكن سيأتى غدًا يومٌ جديدٌ وتظهر الشمس مجددًا، فكما للشمس وقت تظهر فيه وتختفى فلهذه الطقوس أيضًا أوقات تظهر فيها وتختفى…
لقد وصلنا للمسجد المنشود" ابن عيسى"، أذان المغرب على وَشَك أن يُرفع من شيخ المسجد المحترق رأسه شيبًا رماديًا لامعًا، وانتهت كذلك هذه الطقوس التي أسرت قلبى فعلاً، لقد أيقظت روحى، حرّرتها نحو اللا محدود، لامست السّحاب، وعادت إلى وعائها…
استيقظت من الأحلام التي تملّكتنى بعد انتهاء هذه الطقوس من يد نزلت على كتفى كما ينزل القدر المكتوب على الأرض الخاضعة وجهت رأسى مميلا إياه نحو جانبى الأيسر، إنه حامل البندير، بشعره الطويل ولحيته الكثة، ولكنه يقدم البندير إلىّ وهو يقول.. - "الآن.. حان دورك!". (النهاية)..