
فراشة البهو

قصة: نعيمة عبد الجواد
فُتِحَت بوابة القصر لاستقبال السُّلطان المنتصر الذي زفَّته الّسماءُ بتعميم حالة من الصفاء؛ لكى تتلألأ أشعة الشمس ويشتعل ضوءُها عند انعكاسها على حُلَل الجيش الظافر المَعدنية.
وأمَّا الأرضُ؛ فظهرت كانعكاسٍ مغايرٍ لصورة الّسماء الصافية؛ حيث استحالت لسماء ملبدة بغمائم رمادية من غبار تُثيره أقدامُ الخيول التي تشقُّ الأرضَ كرياح عاتية. ظهَر السُّلطان مَحمولًا على صهوة غمامة ترابيةٍ عظيمةٍ. ولتماهى جَلَدُه مع بأس حصانه الأدهم، كالفهد الكاسر أخذ السُّلطان يشق عنان الأرض إلى أن بلغ وجهته.
ترجَّل السُّلطان كسَهمٍ نافذٍ: ووقف شامخًا وسط مماليكه السُّلطانية (الخاصكية) الذين ضربوا طبقات الأرض كالبَرْق عند ترجُّلهم من على صهوة الجياد، ووقفوا كأوتاد مكِينة تطوِّق السُّلطان المنتصرَ، وهى تسير بشمم رافعة رايات البلاد الخضراء التي يتوسطها شريطٌ أصفرُ.
استقبلته أمُّه التي لم يستطع الدّهر أن يمحو طلتها البهية وقسماتها الخلابة التي ورَّثَتها لابنها صانعة منه أيقونة لجَمال الخِلقة وتمام الجَلَد. فى أحضان أمِّه ارتمى؛ ليشعر بدفء حبها الوارف الذي حُرِم منه على مدار أسابيع، وعصفت بكيانه السعادة عندما تعانقت دقات قلبيهما فنبضت وكأن مستقرّها صدر واحد.

تشتت الخاصكية بعد تركه؛ لينعم بدفء أهل الدار الذين التفوا لاستقباله فور ملامسة قدمه بلاط القصر.. اصطف الخدم والحشم على جانبَىْ مجاز السُّلطان، ووقفت زوجاته الأربع الجميلات يستقبلنه بضحكات أضاءت وجوههن، وبأيادٍ ممتدة ظامئة لعناقه، فتشابكت، وباتت مثل كرمة أينعت توًّا متوسِّطة بهو القصر؛ لتظلل على السُّلطان المزركش رداؤه بدماء الأعداء.
الفرحة بلقاء الأحبة لم تكتمل إلا بالتقاء عينيه بعينَىْ جارِيَتِه وخليلتِهِ الجركسية "زمردة" التي أثلج دفءُ نظراتها جروحَه الملتهبة، وجعله يستقر فى فراشه الذي كان يئن من لوعة فراقها طوال الأيام السابقة. تمنّى استعادة قواه؛ ليحظى مجددًا بنعيم قربها.
بعد أن استفاق من سُباته العميق، أسرع فى طلب "زمردة"؛ لتقومَ على خدمته. كانت زوجاته يستشطن غضبًا من استحواذ تلك الجركسية على كيانه. فهى الوبال الذي أهداه له الوزير مؤخرًا بعد إعجابه بجمالها فور لقائها فى قصر *شاد الدواويين الذي أخبره أنها هدية من قائد عساكر فارسِى التقى به فى رحلة صيد.
بعد لحظات مرّت دهورًا، دلفت "زمردة" غرفة السُّلطان تتهادَى فى ثوب فضفاض شفاف تتطاير أطرافه مع كل نسمة هواء تداعب شعرها الكثيف المنسدل حتى أسفل ظهرها، إلى أن استقرت فى منتصف الحُجرة أمام مصباحٍ شديدِ الضوءِ. رفعت يديها وهى تنحنى إجلالًا لسُلطانها كفراشة رقيقة، فخشى أن يجتذبها الضوءُ، فهَبَّ مسرعًا يؤزّه الشوق.
قضى معها ليلَه الذي بات قصيرًا برفقتها العذبة. وقبيل انصرافها، أخرجت "زمردة" من صدرها قلادة ذهبية ثمينة بها دلاية تتوسطها زمردة تحيطها طلاسم. وفى خشوع المحبين أخبرت سُلطان قلبها أنها قد أعدَّت هذه القلادة له خصيصًا؛ لتحميه من الأخطار، لما استبدت بها المخاوف بعد غيابه الطويل. انصاع السُّلطان لكلماتها، وفى حنان نظر فى عينيها قائلًا:
- "زمردة"ّ! ألبسينى الزمردة؛ لتكون فى غيابك رفيقَ الدروب والمعارك وأنيسَ الوحدة والهجران.
ظل يتعبّد فى رحابها أيامًا، إلى أن استعاد كامل قواه، وذهب فى رحلة صيد مع خاصكيته. طوال الطريق كان يتحسَّسُ زمردته التي زَيَّنت صدرَه، وأثارت غيرة ودهشة أمّه وزوجاته؛ لتعلُّقُه الشديد بها، وتصميمه ألا يخلعها من صدره.
ترصَّد غزالًا رائعًا ذكّره بزمرَّدته، وعزم على اقتناصه. كانت تسانده حاشيته فى نَيل غايته بقتل أى حيوان تستشعر اقترابه منها قبل السُّلطان.
وفجأة بزغ من المجهول ثعلبٌ ماكرٌ فاقت سرعته الخيول المتسارعة وراء الغزال. وبوقوع الصيد المحتمل فى مرمَى السُّلطان، بدأ يشحذ سهمه صوبها. حقد الثعلب المتربص بها على ذاك الآدمِى الذي فاقه مكرًا. لكن هيهات، فور أن خفف السُّلطان من سرعة حصانه، عمد الثعلب فى جَرْيِه على تمرير ذيله الطويل المُهَدَّب على ساق الحصان، فجَفل، ثمَّ اختل توازنه، وانقلب بالسُّلطان الذي كان يطلق سهمه فى الهواء، وبدلًا من استقرار السهم فى جسد الغزال، طاح واقتنص المملوك الذي أطلق سهمًا لقتل الثعلب، فطاح أيضًا سهمه فى الهواء، واستقر فى قلب السُّلطان بدلًا من جسد الثعلب.
بموت السُّلطان، خيَّم الحزن على القصر، وحفرت الدموع أخاديد لها فى محيَّا النساء. وعند دفن الجثمان، أشارت زوجاته على أمّه أن تدفن معه قلادته المحببة، لكن أَوْعَزَت "زمردة" للسُّلطانة بوجوب احتفاظها بقطعة الحُلِى التي عشقها ولدها؛ لتملأ صدرها بأحضانه الدافئة. وافق رأيها مزاج السُّلطانة الأمّ.
منذ تلك الواقعة أخذت "زمردة" تتقرب إليها، فتعلقت بها الأمّ، والتمست العُذر لولدها الذي وقع فى غرام تلك الرقيقة الساحرة. صارت قلادة الزمردة رفيق درب الأمّ المكلومة وأنيس وحدتها، وكانت "زمردة" مَن ساعدها على تجاوز أزمتها. وبعد استعادة السُّلطانة الأمّ قواها، استعدت لتحمل أعباء منصبها الجديد كسُلطانة البلاد لحين استدعاء الوريث الشرعى للحُكم؛ لأن السُّلطان الراحل لم ينجب ذكورًا.
ليلة توليها الحُكم، قصدت حمَّامِها المَلَكى؛ لتزيل غبار الأحزان. وفى طريقها للخارج، هرعت الجوارى أمامها؛ لتعد فراشها الوثير، وتكسوه بالورود النضرة. دون أن تدرى، تعثرت قدم السُّلطانة الأمّ فى رداء الحمّام، وسقطت فى المَغطس لتموت غريقة؛ لأنها لم تجد مَن ينتشلها منه فور السقوط.
وبانتشار خبر الوفاة، اجتاحت بوابات القصر جحافل من المماليك السُّلطانية الجراكسة و*أجناد الحلقة، واعتقلوا أهله فى انقلاب غاشم. تهادَى قائدهم فى بهو القصر واستقبلته "زمردة" بردائها الشفاف المتطاير الذي يجعلها تبدو كفراشة رائعة الجمال، وانحنت فرحًا قائلة:
- مولاى.
فرد عليها بتنهيدة العاشقين:
- جميلتى ومحبوبتى ورفيقة صباى ودربى! لولا مساعدتك لما استطعت أبدًا أن أنقذك وأستعيدك. ستكونين زوجة سُلطان البلاد.
رمقته بابتسامة ساحرة، وهى تتذكر أن القلادة ذات الطلاسم السحرية المصممة للفتك بأعدائها كانت مَن خلصها من العبودية. وأنها لسوف تحتفظ بها للأبد. وجهت نظرة ذات مغزى لم يكن مفهوم لحبيبها وهى تذكِّر نفسَها بأن تهدى القلادة لمن يخطر بباله تعكير صفو مخططاتها.
(تَمَّتْ).
*شاد الدواوين: مساعد الوزير والمشرف على استخلاص الأموال.
*أجناد الحلقة: محترفو الجندية من أولاد المماليك، وهم الفئة النظامية فى الجيش ولا يتغيرون بتغير السُّلطان الحاكم ويشكلون قلب الجيش ودعامته وقت الحرب.