رَجَفَ النور في القنديل، وهو يمد يده على حيطان الغرفة العمياء من كل بصر، والوحيدة الآمنة في البيت، فهي مستورة وراء أربعة حيطان، هما لغرفتي الاستقبال والطعام، فكنا نلجأ إليها، ونتكوّم أرضا بين حائطين، نتّقي من الرصاص، وشظايا القذائف، متى اشتد القصف العشوائي.
والقنديل الذي استبدلنا به الشمع أسوة بالجيران، إختاره لي البقال جار البناية (الذي يُطعم من منتوجات دكانه شارع مدام كوري كله)، من بين القناديل التي صار الناس يتهافتون عليها، ويجني من توقهم للنور وقتل الظلمة مئات الليرات، فبعد أن صار انقطاع التيار الكهربائي يتكرر مع بداية القصف الليلي، راجت تجارة قناديل الجاز، قبل أن تنافستها "قناديل لوكس" التي تشع أكثر وإن غلا ثمنها، إلا أنها بقيت قليلة التداول.
"زجاجة نمرة 4 يا أستاذ، أفضل من غيرها.. بنصحك فيها".
يُدلل جارنا البقال على بضاعته، يمص شفته السفلي، منتشياً:
"هي أدق صنعاً، وأكثرها تحملاً للحرارة، وغسلها من "الشحتار" (وهو السواد الذي يتجمع على زجاجة القنديل بفعل اشتعال فتيلته)، لا ينزع عنها نقاوتها".
ويكفي أن تملأ جوف القنديل بالجاز، وتركز "الشمامة" أو الطربوش فتعلوا الفتيلة، وتعطي ناراً تستحيل نوراً.
إلى تلك الطاولة اليتيمة في الغرفة الآمنة، كنت أجلس، والقنديل يرخي نوره على الورق أمامي، ينزل سن القلم عليه، أنسج به خيوط مقالاتي وتحقيقاتي لمجلة "صباح الخير"، وهي حصاد أخبار وتحليلات، وما أعانيه من "رحلة" الصباح والمساء من "مدام كوري" إلى "فردان" كنت أفرغه على الورق في الليل.
وقد اعتدت أن أحمل "دفتر جيب" أسجل على صفحاته ملاحظاتي، وخلاصة تحليل سمعته من سياسي نابه زار "الديار"، أو آخر قابلته وتبادلت معه شتات الحديث، سألته وأجاب، ناقشته و فسّر، سمعني وسمعت له، وسجّلت كل ما قاله.
حرصت في رسائلي الصحافية إلى "صباح الخير" أن أنقل الحقيقة الموضوعية من دون تكلف أو تزويق أو مبالغات، فكانت خاصة وخالصة من الانحياز لطرف أو حزب أو فئة، وهؤلاء كانوا يوجهون لبعضهم البعض التهم الكواذب ويلوّنون كلامهم بألوان مصالحهم السياسية.
ومع اشتداد أوار القتل وتوسعه، إضافة إلى انقطاع التراسل مع الخارج بعدما تفككت "مصلحة البريد والبرق والهاتف" التي كانت من أفضل مؤسسات البريد في العالم العربي، لجأت إلى الصديق محمد البطوطي، برّد الله ثراه، كم كان ودوداً وخدوماً، وكان المستشار الصحافي في السفارة المصرية لدى لبنان، فيتسلم التحقيقات المصورة، والمقالات، والتحليلات، والمقابلات السياسية، ويضمها إلى بريد "الحقيبة الديبلوماسية" المرسلة إلى وزارة الخارجية في "المحروسة"، ليتسلمها مدير تحرير "صباح الخير" تباعاً.
وأوفيت بذلك بتعهد قطعته على الإدارة، بأنني لقاء الإجازة غير المدفوعة، حباً و انتماء، أراسل "صباح الخير"، وألبي طلبات واحتياجات مطابع "روز اليوسف" من خامات وأحبار وأفلام وأقلام ولوازم تقنية.
كاد شارع مدام كوري أن يرقد في سكون ظلامه لولا أزير الرصاص الذي يترنح في الهواء، قبل أن يرتطم بحائط مبنى، أو يدخل من شباك.
والسماء ليلتها المسكونة بالغيوم السود تنسرب مطراً، والموت نازل مع القذائف على رؤوس الأبنية، تهدم، تحرق، تُميت، والعويل قد تسمع رجع صداه مع الهواء المعربد.
وتصطك من البرد ومن الفزع على حالك، وعلى عائلتك الصغيرة، ومدفأة الغاز بالكاد تلملم البرد وتنشر الدفء.
تراخيت على الكرسي تعباً منهوكاً، مهموماً يتمرجح القلم بين أصابعي، يتمرد، يأبى رسم الكلام، أصبحت نهباً لليأس والرجاء، وتفهمت عذابات اللبنانيين.
كنت أعاين كل يوم تمزق البلد الصغير، واشتعاله وتدمير حلاه، وحلاوة العمل والعيش فيه، وقد لمست ذلك على مدى سنوات خمس، كانت الأغنى فكراً وثقافة، والأحلى والأبهى لي ولعائلتي.
كان جرح بيروت ينزّ وكان يؤلمني كلما خرجت لها أن أرى أجمل مدن العرب تدفع ثمن طلّتها البهية، ويضنيني أن تدفع بيروت المثقفة المتباهية بحالها ثمن ثقافتها وتنورها.
ولأن بيروت كان "حرّة" حتى آخر حدود الحرية جعلوها تدفع ثمن حريتها، زرعوا فيها الموت والخراب والسيارات المفخخة، ورموا على طرقاتها الجثث المسحولة، المشوهة، ونصبوا على المفارق قناصة ينشرون الفزع، ويوزعون الموت.
و بدل مواسم البهجة ومهرجانات الفرح التي كانت تتابع على مدار السنة، وتزين صيف الجبال والسواحل، صار الموت يتمشى مع النوائح حول النعوش.
لبنان هو "ظاهرة حرية" لا يمكن أن تتكرر في منطقة يعشش فيها التسلط، وهيمنة حراس السلاطين، وزوار الفجر.
وهو كما عرفته وعشت أيامه الحلوة ضرورة جمالية، وحضارية للمنطقة.
وما أحد أنصف بيروت مثل نزار قباني، فهي تبنته واحتضنته وأطلقته، وطبعت أولى دواوينه، وليس غريباً بعد ذلك أن يسميها "ست الدنيا":
يا ست الدنيا يا بيروت
من باعَ أساوركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
من صادر خاتمكِ السحريَّ وقصَّ ضفائرك الدهبيّهْ؟
من ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوين؟
من شطّب وجهكِ بالسكّين، وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين
من سمَّم ماء البحر، ورشَّ الحقد على الشطآن الورديّه؟
ها نحن أتينا.. معتذرين.. ومعترفين أنّا أطلقنا النار عليك بروح قبليّه..
فقتلنا امرأة كانت تدعى "الحريَّة"
كان الصحافي المخضرم حنا غصن، صاحب امتياز "الديار" لما كانت "جريدة"، وبقيت له حصة لما صارت "مجلة"، يديرها ياسر هواري، يتردد باستمرار على مكاتبها في "فردان"، مرات للمشاركة في اجتماعات التحرير، ومرات للدردشة مع المحررين، وابداء الرأي والمشورة.
وحنا غصن، عروبي، لا يكابر أحدٌ في جلالة قلمه، عارك الكلمة، كتبها جريئة، حادة في افتتاحيات كان لها ضجة ودوي.
نجلس على الحديث معه فلا مقايسة عنده بيننا، ودوداً، يسمع، ويتروى في الإجابة، يُلبس الأفكار التي يطلقها اللائق من التعابير.
في جلسة حديث رميت عليه سؤالاً كان يثور ويضج في ذهني
"ما هو دور سوريا - الأسد في المأساة اللبنانية؟
تمشى حنا غصن بعينيه على وجهي، تملاني، تنحنح، وأجاب على البديهة:
"يا سيدي حافظ الأسد منذ سنة 1970 وهو يدير لبنان كما يدير بلاده"!
وسكت، رش علامات التعجب على وجوه من سمعوا قوله.
وكان حنا غصن على صواب. فشخصية حافظ الأسد هيمنت على لبنان. وأغلب الظن أن المؤرخين النابهين سيسجلون له بأن حكمه منذ 1970 حتى وفاته في سنة 2000 اقترن بتاريخ لبنان.
وانفجر لبنان سنة 1975 وكان الاحتراب الداخلي أشبه بـ "انتحار جماعي"، كما وصفه أمامي الرئيس رشيد الصلح، ذلك أن اللبنانيين تحولوا إلى أدوات هينة، لينة، وظن المسيحيون أنهم يقاتلون لتقرير مصير لبنان، والفلسطينيون ومن حالفهم وتحالف معهم من اللبنانيين ظنّوا أنهم يسهمون في تحرير فلسطين، وتحقيق النصر العربي من الماء إلى الماء، أمّا قال صلاح خلف: "طريق فلسطين تمر بجونية"! فأشعل الجبهات، وبات اللبنانيون بحاجة إلى مرآة "ميدوزا"Medusa ليروا قبحهم وأدران تصرفاتهم.
في سنتي الحرب الأولين (1975- 1976) تهاوى كل شيء، وخسر لبنان صفو العيش المعهود فيه، وكان متمحوراً حول وسط بيروت، فشطرها العنف إلى بيروتين: الشرقية مسيحية، والغربية مسلمة.
وانتشر السلب و النهب في عمليات منظمة، سهلها على الجناة هروب السكان من منازلهم، ومدنهم، وقراهم بسبب العنف.
وقسّم زعماء الميليشيات المناطق القابلة للسلب والنهب، مربعات، توزّعوها في ما بينهم: منهم من تخصص في سرقة الأدوات الكهربائية، ومنهم اللوحات الزيتية، والتحف الأثرية، والكتب النادرة، وكان السجاد العجمي من نصيب أحد القادة الفلسطينيين، فأصبح يلحق اسمه بكلمة "العجمي".
وامتدت اليد على "شارع المصارف"، فتم السطو على "البنك البريطاني"، وأُخرجت منه في ليلة لا قمر فيها سبائك الذهب، وما يربو على 100 مليون جنيه إسترليني.
وانتشر أن السوريين كانوا وراء السطو على "بنك لبنان- جيفينور" الذي لم يكن بعد أسس فروعاً له، وبعد تحطيم خزائنه، وتفريغها من أموال المودعين، حطم الجناة أجهزة الكمبيوتر وحرقوا الملفات التي كانت حبلى بالمستندات والوثائق الثبوتية لأرقام حسابات المودعين.
وكان ذلك البنك هو الذي أودعت فيه ما كنت أجنيه من سهر الليالي في تصميم ورسم أغلفة الكتب، وهو ما كنت أقوم به على هامش عملي في المجلات. وبين ليلة وضحاها خسرت "تحويشة" الغربة، ولم أستطع إثبات أي شيء لاسترجاع جنى العمر.
واستمكنت الضائقة المالية والنفسانية مني، ووجدت نفسي لتعويض ما فقدت، أحاول العودة إلى تصميم وإخراج ورسم أغلفة الكتب إلى جانب عملي في "الديار".
كان قدرى قلعجى يزور ياسر هواري، ولما لمحني دخل مكتبي باشاً:
"مودي... شلونك، إنت هون؟!
قال بلكنته الحلبية المحببة، وضحك ضحكة عريضة التمعت لها عيناه:
"مُرَّ بي غداً.. سيكون لنا حديثاً طويلاً".
ومررت في الغد به.. كان وقتها يعد العدة لإطلاق"دار الكتاب العربي" للنشر. وباكورتها كان كتاب عن سيرة الملك عبد العزيز، وبعدها حضر 12 جزءاً خاصاً من السيرة للأطفال وطلب مني تزيين صفحات تلك الكتب بالرسومات الملونة المستوحاة من النصوص، بحيث يسهل على القارىء الطفل فهم سيرة مؤسس المملكة العربية السعودية.
كان مشروعاً ضخماً وضع فيه كل إمكانياته المالية، فجنى بالمحصلة ما غطى التكاليف، وما زاد كان ربحاً استحقه عن جدارة.
لم يفاصل، ما طلبته حصلت عليه ونلته. وانصرفت في ليالي البرد والرصاص والقذائف، أصمم، وأرسم على ضوء الشموع والقناديل.
وقدري قلعجي أليف كلمة، يتعامل وإياها بألفة، يتعهد كتاباته بثاقب بصيرته، وخلفيته اليسارية، أضفت على ما يكتبه بعداً فكرياً وإنسانياً. تعاطى الكتابة، مهنة انصرف لها منذ أن ترك دمشق إلى بيروت، فكتب في "المكشوف" التي أسسها الشيخ فؤاد حبيش سنة 1935 (استمرت في الصدور حتى سنة 1950)، فكانت فكرية أدبية طلاّعة، تابعت مجريات الحداثة الثقافية في لبنان والعالم.
وكانت بمقالات قدري قلعجي، تزامل مع مقالات "ناسك الشخروب" ميخائيل نعيمة، مارون عبود، لطفي حيدر، يوسف إبراهيم يزبك، عمر فاخوري، رئيف خوري، وعبدالله لحود...
وكان الفكر اليساري يجمع بينه وبين يوسف إبراهيم يزبك (الذي تأسس الحزب الشيوعي اللبناني في بيته في بلدة "الحدت" القريبة من بيروت سنة 1924)، ورئيف خوري، وعمر فاخوري... وقويت الأواصر بينهم فتنادوا ذات يوم لنشر مجلة أسموها "الطريق"، و اختاروا لها من بينهم قدري قلعجي لرئاسة تحريرها، فتولاها من سنة 1941 إلى سنة 1947.
بعدها تسلم مكتب "دار الهلال" في بيروت، وكتب في مطبوعات تلك المؤسسة المصرية العريقة الكثير من المواضيع الفكرية والسياسية والأدبية والتاريخيةٍ.
وقبل ذلك كله كان مستشاراً في المكتب الصحافي لرئاسة الأركان السورية.
ولم أعرف كاتباً شغل المطابع وانشغلت به مثل قدري قلعجي، فقد ترك على أرفف المكتبات عشرات الكتب منها: "أشهر المحاكمات فى التاريخ"، " ثلاثة من أعلام الحرية "، "الثورة العربية الكبرى"، "ألف ليلة وليلة"، " ثمانية من أبطال العرب"، "من أعلام الفكر العالمي".. وغيرها كثير.
وحدث أن قدمني فاروق البقيلي إلى الناشر أحمد سعيد محمدية، صاحب "دار العودة الغزيرة الإنتاج، فرسمت العديد مما كان يقوم بنشره ويُصدّره للبلاد العربية.
وفاروق أيضاً، كان سبب معرفتي بالصحافي علي بلوط، صاحب ورئيس تحرير مجلة "الدستور" التي كان يمولها حزب البعث العراقي، وقتها كان يتحضر لنقل المجلة إلى باريس، وبعدما تلقى إشارات من بغداد أن السوريين قادمين إلى بيروت... أو هكذا قال أمامي. وكان قد أصدر قبل اندلاع الحرب في لبنان عدداً على غلافه شعار المملكة العربية السعودية، وموضوع الغلاف، رسائل موجهة إلى الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، وموّقعة باسم الملك فيصل، يطلب فيها ضرورة أن تقوم إسرائيل بضرب مصر، في إشارة واضحة لنكسة حرب سنة 1967، وما يُفهم من تلك الرسائل أن العاهل السعودي هو المحرض للحرب ولضرب مصر.
وثبت بأن تلك الرسائل "ملفقة" و"مفبركة" في مكاتب "الدستور"، فدان القضاء اللبناني علي بلوط بوصفه الناشر ورئيس التحرير، وحُكم عليه بالسجن، فأخذ كمال جنبلاط على عاتقه مهمة التوسط لدي الملك فيصل، الذي توسط بدوره لدى الحكومة اللبنانية لإسقاط التهمة والإفراج عنه.
أشار علي قاسم أفيوني، مدير تحرير "الديار"، أن أحصل على "إذن تجول" من دون مساءلة وأنا في طريقي إلى "فردان"، وهذه المرة من ميليشيا "المرابطون" التي كان يتولاها إبراهيم قليلات، واسمه المتداول بين الناس "أبو شاكر، والرجل ناصري انشق عن "اتحاد قوى الشعب العامل" برئاسة كمال شاتيلا، وله ماض ليس ها هنا مكان الحديث عنه.
وتآلبت حول أبو شاكر وحول تنظيمه غالبية السنة في بيروت، فكان تنظيماً طائفياً بامتياز، وناصبته العداء الطبقة الأرستقراطية السنية والزعماء التقليديين.
وحصلت على إذن "المرابطون" فأمنت من حواجزهم وتفتيشهمٍ، ولم آمن من القناصة والقذائف والسيارات المفخخة.
واستمر القتال متنقلاً من منطقة إلى أخرى، حرقت "الكرنتينا" وحوصر "مخيم تل الزعتر"، وفى بلدة "الدامور" المسيحية جرى السبي، والتنكيل بناسها، وأحرقت البيوت ونهبت، حوصرت "حارة الغوارنة" في المتن الشمالي، ودمرت بيوت "عرب سبنيه" في المتن الجنوبي، وفي "دير عشاش" قتل الرهبان، وحوصر "دير القمر"، ورافق ذلك نزوح وتغيير ديموجرافي خطير، فى حين ظل المتحاورون والمتدخلون الخارجيون وأصحاب المبادرات في دوران الدراويش.
ومع إطالة أمد الحرب سَلّم الأمريكيون والأوروبيون والعرب وحتى الساسة في إسرائيل، بأن لا سلماً أهلياً في لبنان من دون الاعتراف بأن الخلاص بيد دمشق.. بمعنى آخر كما قال لي ديبلوماسي في السفارة المصرية لدى لبنان:
"الاعتراف بالوصاية السورية على لبنان" وكأنه كان يتنبأ
في 20 يوليو/ تموز1976 سمعت خطاب الرئيس حافظ الأسد، فأدركت أن الغرب والعرب سلموا مفاتيح بيروت لدمشق. في ذلك الخطاب روى الأسد ما دار بينه وبين كمال جنبلاط من كلام حول الحسم العسكري، وكيف أن زعيم المختارة أصر على هذا الحسم.
وتمكنت سوريا من دخول لبنان، ورُفع "الفيتو" المسيحي عن هذا الدخول، لا بل أن المسيحيين أنفسهم ألحوا وطالبوا بدخول الأسد بعد انهزامهم المهول والمميت أمام الميليشيات الفلسطينية التي كانت "الحركة الوطنية" تختفي خلفها.
وحدث أن اللبنانيين السنة عارضوا بشدة دخول الجيش السوري، فتصدوا له مع الفلسطينيين، ودارت معارك خاطفة وضارية، استخدم فيها السوريون راجمات الصواريخ والطائرات المقاتلة لقصف مواقع في "جزين".
ومن أجل البقاء في لبنان، راح الأسد ينتظر الفرصة السانحة، والتي قدمها له الرئيس المصري أنور السادات على طبق من فضة.
فبعد الزيارة المفاجئة لمدينة القدس المحتلة، دخل السادات في مفاوضات، إنتهت الى الصلح المنفرد، والى "إتفاقيات كامب دافيد" المعروفة. فوجدت دمشق، فيها إنقلاباً عليها، وعلى دورها في المنطقة عموماً، و في لبنان خصوصاً. و خشية الوقوع في العزلة، إستدار الأسد مائة وثمانين درجة، وخَطَب ود منظمة التحرير، وتصالح معها، ومال الى المعسكر الإسلامي اللبناني، على حساب الأطراف المسيحية، حلفاء الأمس، الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها، عبئاً عليه.
وانضمت سوريا إلى جبهة الرفض العربية التي تشكلت فى مواجهة اتفاقية كامب ديفيد، التي وقعها الرئيس السادات، وانطلقت من بغداد على الرغم من ما بين دمشق وبغداد من جفاء وعداوة.
وعادت "حرب السنتين" لتصبح حرب سنوات، وعلق كل ما جاءت القوات السورية من أجله إلى لبنان، وعلقت معه مقررات مؤتمري الرياض والقاهرة، وكل ما كان متفقاً عليه، وعادت دمشق تمتشق السلاح، وتدير مدافعها فيما عرف بحرب المئة يوم.
وبدأ زمن الوصاية والسيطرة التامة، التي رزح لبنان تحت نيرها ما يربو على ثلاثين سنة.
ووقعت لي ولعائلتي الصغيرة حادثة مخيفة، كانت بمثابة إنذار جعلني أفكر بترك لبنان الذي أحببت والعودة إلى مصر.



