يعتبر التفاوض سنة الحياة المدنية على مدى العصور، وهو من سمات العقلانية والتحضر، ومن خلال التفاوض تحولت القارة الأوروبية بعد القرن الخامس عشر إلى قارة وشعوب متحضرة تبحث عن السعادة والحياة الكريمة من خلال نبذ العنف للوصول إلى استقرار القارة، وأتت ثمار التفاوض بالاتحاد الأوروبي اعتماداً على الثقة المتبادلة والمصداقية، وحب الخير بعيداً عن التعصب الديني أو المذهبي.
وتحاول المدارس الغربية إهمال وإغفال الدبلوماسية التفاوضية الإسلامية التي لها الأثر الكبير في توطيد التعاون بين الدول، وإشاعة المودة والسلام بين الشعوب، وتطبيق ما يدعو إليه الدين الإسلامي الحنيف من تسامح وتآخٍ ومحبة ونبذ العنف والعنصرية والفوقية، حيث اتصفت الدبلوماسية التفاوضية الإسلامية بالذوق واللطف والكياسة واللياقة، التي أسست معالم وأهداف وإستراتيجية الدبلوماسية التفاوضية التي نتعامل بها الآن، وما يسمى "فن المفاوضات" وهو عالم كبير وشاسع في العصر الحديث، وهناك مدارس خاصة لصقل هذه الصفة لدى المفاوضين، خاصة الدبلوماسيين كونها حجر الأساس في الحياة اليومية والعملية.
ويعرف التفاوض بأنه الحوار والمناقشة بين طرفين (شخصين أو مجموعتين) حول موضوع محدد للوصول إلى اتفاق نهائي أو مبدئي على عدة مراحل، وكذلك فإن التفاوض هو عرض مطالب كل طرف وتبادل الآراء، وتقريب وجهات النظر للوصول إلى الحلول المقترحة، واللجوء إلى كافة أساليب الإقناع المتاحة لإجبار الطرف الآخر على القبول بما يقدمه الطرف الأول من وجهات نظر أو مقترحات تنتهي باتفاق، يتم بموجبه تبادل الوثائق المطلوبة، ويكون ملزماً.
والشخص المفوض بالتفاوض عليه التسلح بمفاهيم وسلوكيات تعتمد بالأساس على نظريات علم النفس، في الهدوء والتعامل بحنكة ودراية كبيرة، ومرواغة مقصودة بغرض الوصول إلى تحقيق الأهداف بكل سلاسة وسهولة، بالإضافة إلى القدرة على التحليل، وتصور المشاكل والسلبيات والايجابيات، والقدرة على الحكم الصائب على الأمور القاصرة أو المجزئة، وغير واضحة المعالم، مع القدرة الكاملة في التلاعب بمفردات اللغة من ناحية الكلمات والمعنى، والقدرة على اتخاذ القرارات وحسن التصرف في الوقت المناسب، وعدم التعصب أو إبداء عدم الرضا، لأن ذلك من نقاط ضعف المفاوض، عليه المرونة في تقبل آراء الطرف الثاني، والاستعداد التام للتفاوض استناداً للهدف المرسوم، والانتباه واليقظة الدائمة لكافة الاحتمالات، ووضع خطة بديلة أولى وثانية أو بالأحرى احتمالات أولى وثانية.
إن المدارس الدبلوماسية تُدرس المفاوض كيف يكون على دراية كاملة بما يدور خلف الكواليس لدى الطرف الثاني، وأن يدرس نفسية وسلوكيات وتاريخ وخبرة المفاوض قبل الجلوس معه، على أن يضع خطط رئيسية وبدائل للمفاوضات التي سوف تجرى.
وتركز المدارس الدبلوماسية كثيراً على مرتكزات علم النفس الاجتماعي ولغة الجسد والمطاولة والمراوغة، من أجل كسب الوقت، وتغيير خريطة المباحثات إلى جانب المفاوض، قد نرى المفاوض يهدد بالانسحاب من المفاوضات كجزء من الضغط على الطرف الثاني من أجل الحصول على مكاسب جديدة، أو فرض مطالب جديدة، واستمالة الجمهور بسبب هذا الانسحاب التكتيكي.
إن أهم سمات الشخصية التفاوضية هو التفرد بالأداء والطرح، ولغة الجسد، ونبرة الصوت، وهدوء الأعصاب، والحنكة الكلامية، وبعد النظر، واحتواء المقابلة والصبر في النقاش خلال الاجتماعات، والقدرة على إخفاء الحقائق والمطالب والشروط دون اللجوء إلى الكذب، والإلمام الكامل بكل مفردات الموضوع من ناحية علم اللغة القانوني العام، وعلم الكلمة وعلم المعنى، ولباقة اللسان، والتوقف عن الكلام عند الوصول لنقاط القوة في المفاوضات.. كل هذه السمات تعتمد اعتماداً كلياً على أصول وإستراتيجية الدبلوماسية التي يجب اتباعها بغرض معرفة قدرة وشخصية الطرف الثاني.
إن من كاريزما المفاوض المحنك هي القدرة على التحليل، وتصور المشاكل والسلبيات والايجابيات، والقدرة على الحكم الصائب على الأمور القاصرة أو المجزئة وغير واضحة المعالم، والقدرة الكاملة في التلاعب بمفردات اللغة من ناحية الكلمات والمعنى، والقدرة على اتخاذ القرارات وحسن التصرف في الوقت المناسب، والمعرفة الكاملة بالجوانب القانونية والاقتصادية واللغوية وخاصة المترجمة إلى لغة أخرى، وكذلك الانتباه إلى (فقرة التنقيط) بين الجمل اللغوية سواء باللغة العربية أم الإنجليزية.
إن الاحترافية الدبلوماسية لدى المفاوض تجعله يفكر بمكان الخصم، ويقوم بتحليل أفكاره والتنبؤ بما يريده، والتنبؤ بما يعتقد أن الخصم يريده منا، وبهذا توضع تصورات لكل سيناريوهات الحوار، وكافة البدائل من أجل الوصول إلى الهدف بأقل الخسائر المحسوبة.
دبلوماسي سابقا
كلية عُمان للإدارة والتكنولوجيا – مسقط



