ما زلت على طريق الأشواك، ودروب الذئاب..ذئاب الميليشيات..وصلنا طريق "صيدا" القديمة الذي يبدأ ببلدة "الحدت"، مسقط رأس يعقوب صروف، الذي كان ركنًا من أركان النهضة العلمية والأدبية في الشرق، وهو مُنشئ "المقتطف" في بيروت، ثم انتقل بها إلى مصر، وكان أيضًا واحدًا من أصحاب "المقطم".
ومن أبناء "الحدت" المبرزين في الأدب والفلسفة جورج خرما عون، والمؤرخ يوسف إبراهيم يزبك، الذي تأسس "الحزب الشيوعي اللبناني" في منزله في تلك البلدة.
ونعرِج على "كفر شيما"، جارة "الحدت"، الحفريات الأثرية في "منطقة الرويس "من "كفر شيما" كشفت عن نواويس حجرية وخزف، وحجارة ضخمة، ورخامات منقوشة، فتلاءم ما عثر عليه المنقبون مع اسمها الأثري، فقد عرفها المؤرخون قديمًا بأنها "قرية الفضة" وأعادوا اسمها إلى السريانية، وقد وافق على هذا الاستنتاج مؤرخون معاصرون منهم الدكتور فيليب حتى، غير أن علماء اللغات السامية كان لهم رأي مختلف حول معنى اسمها، فقد أقرّوا بأنه لا خلاف على أن الجزء الأول من الاسم "كفر" يعني القرية، أما "شيما" فقد يكون اسم "صنم" أو "إله فينيقي قديم"، وفي الآرامية كلمة "شيما" تعني الكنز المخبوء، إلا أنهم يرجحون أن يكون الاسم اسم إله أو صنم.
بيوت كفر شيما، منها القديم المعمم بالقرميد الأحمر، ومنها المتوسط، ومنها الحديث، ما يجعل البلدة مُحافظة على مظهر القرية اللبنانية.
و"كفر شيما" أنجبت عددًا من الكتاب والشعراء والصحفيين، مثل اليازجيون (ناصيف وإبراهيم) والشميليون (شبلي وأمين)، وإلياس فرحات من شعراء المهجر المبرزين، وسليم تقلا الذي أصدر مع أخيه بشارة جريدة "الأهرام" أسبوعية في الإسكندرية سنة 1875، وأتبعها بعد سنوات سبع بأخرى يومية "صدى الأهرام"، فلاقى في سبيل جريدته وتأمين طبعها ونشرها، ما لاقى من صعاب ومشاق، فقد احترقت مطبعته أثناء حريق بُليت به الإسكندرية في "الحركة العرابية"، ولم تفتر عزيمة سليم وبشارة تقلا، نقلا جريدتهما إلى القاهرة، وصارت تصدر يومية، وتقوى على غدرات الزمان، وهي اليوم شيخة الصحف العربية.
وفي "كفر شيما" وُلد رسام الكاريكاتور الأبرز بيار صادق، ومنها أطلّ غندور كرم، صاحب "الراصد"، وفيها ولد وترعرع جبران الحايك صاحب "لسان الحال"، وجورج رجي الشاعر والصحفي الذي أصدر "الراصد" يومية وبلغات ثلاث: العربية والفرنسية والإنجليزية.
أما الفنانون فعدّ على أصابعك: فيلمون وهبي، عصام رجي، ملحم بركات، ماري سليمان، ماجدة الرومي..وكان للسياسة نصيبها من أبناء "كفر شيما"، وأبرزهم أمين كسباني، أمين سرّ جورج ملك بريطانيا، وكذلك عَمِل مستشارًا للملك فيصل الأوّل.
فجأة، أخرج ابني نصف جسده من السيارة يسبقه صوته صارخًا: "مدرستي"..ابتسم ابتسامة متكاسلة على شفتيه، وموّشاة بألم فراق مكان بدأ فيه ينهل العلم، وتعلّم اللغة الإنجليزية ليخرج صوته محشرجًا:
Bye Bye Goodbye my school
وجلس في مقعده صامتًا مُقطبًا، حاولت أخته أن تداعبه لكنه أغمض عينيه وتصّنع النوم.
بالكاد، على اليافطة الحديدية المنخورة بالرصاص تقرأ كلمة "الشويفات"، والبلدة درزية مع أقلية من الروم الأرثوذكس، لم تقوض الحرب عيشهم المشترك.
و"الشويفات" اسم مشتق من جذر "الـشـوف"، والشوف كلمة آرامية مـُعرّبـة معناها الـمكان المرتفع والـمُطِل، تصغيرها "الـشـويف" وجمعها "الشويفات" أي مجموع الـروابـي الصغيرة، ويُقال أيضًا "الشيفة" أو "الشوافة" وهم طليعة القوم الذين يتشوّفون أي يشرفون من مكان مرتفع على حركة قـوافـل التجار والزوار والوافدين، لضرورة السلامة العامة.
ويكفي "الشويفات" أن يكون أمير البيان شكيب إرسلان وُلد فيها، حتى تتكبر وتتشاوف على جيرانها.
شعرت بالوحدة على الرغم من تواجدي إلى جوار عائلتي، فقد أحاطتنا مرة أخرى ظلال أيام جميلة عشتها في لبنان الذي أحببته وعشقته، أترك بعيدًا كل مشاعر الألم والوحشة التي فرقت بيننا، هذا المعشوق الذي سكن قلبي، ملامح وبريق أيامه الحلوة ورغد العيش، وصوت فيروز يأتي من مذياع السيارة "بحبك يا لبنان يا وطني بحبك، بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك"، ووجدت نفسي أردد أبياتًا من قصيدة "لبنان يا قطعة سما"، كان نظمها صديقي يونس الابن، أحد شعراء القافية (عرفته خلال عملي في "دار الصياد")، ولحنها وغناها وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما، عالأرض تاني ما إلها، ولوحات الله راسمها، شطحات أحلى من الحلى، عالطامعين مُحّرِمها وللخاشعين مُحللِها".
اقتربنا من "الدامور"، أكبر المدن الساحلية اللبنانية وأجملها.. يرجع أصل اسمها إلى كلمة "داموراس" التي تعني باللغة الفينيقية "ديمومة"، واشتهرت برجال أصبحوا اليوم من المشاهير، منهم مصمم الأزياء العالمي إيلي صعب، والكاتبة الأديبة روز غريب، زوجة الممثل المسرحي المتميز والاستثنائي أنطوان كرباج، والمطران ميشال عون، والمايسترو أسعد عون، وهي مسقط رأس المربية جورجيت التي أحبها أبنائي، أيقونة العلم والتدريس التي التفوا حولها فأسقتهم بالحنان حب الدراسة والتعلم، زرعت فيهما ورسّخت حب المعرفة والحقيقة والقيّم، كانت جورجيت قصيرة القامة، نحيلة، مبتسمة دائمًا مع حزم في عينيها، فنالت كل التبجيل والاحترام من طلابها في مدرسة "إيست وود كوليج" في "كفر شيما".
في الدرب إلى "الدامور" عشرات الحواجز، مسلحون من كل نوع ولهجة وجنس، مرة اللهجة فلسطينية، ومرة لبنانية، تكتشف من مُحدثك على الحاجز أنه درزي عندما تسمعه يُرخم حرف القاف، وشيعي جنوبي عندما يُنّغِم كلامه ويمُطه، غالبية سكان "الدامور" من المسيحيين، هُجِّروا وحُرِقت بيوتهم، واُقتلع زرعهم في العشرين من يناير (كانون الثاني) سنة 1976، مات كثير من أهلها في المعركة، وفي المذبحة التي أعقبت ذلك، ومن تخلص من سكاكين المجتاحين ونيران بنادقهم نَزَح.
وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، عاد اللبنانيون، ورجع سكان البلد الأصليون إلى بيوتهم، وعمّروا "الدامور" من جديد.
بين الحاجز والحاجز حاجز آخر، ومسلحون، وأسئلة، و.. "تفضل مع السلامة".. ونتفضل، تكابد السيارة معنا عذاب الدرب، وسحنات المسلحين القبيحة وأوامرهم، ولفظات فجّة من بعضهم، يرّن رنينها في أذني إلى الآن.
وصلنا مدينة الأرجوان ذات الرمال الذهبية والبحر اللازوردي، تخبر أمواجه المزودة حكايا وروايات وأساطير.. مدينة "الجية" التي سُميت "برّ الأمان"، حيث قذف الحوت النبي يونان أو يونس، بعد أن قضى ثلاثة أيام في بطنه، أوصله سالمًا ليتذوق طعم الجنة بعد عذابه ومعاناته، وفيها لمن يريد أن يعرف "مقام النبي يونس"، يعود تاريخه إلى عهد المماليك الذين بعد طرد الصليبيين، حولوا المعبد القديم إلى مسجد إسلامي على اسم النبي يونس، ولا تزال إشارة الصليب مع نجمة على الأعمدة داخل المقام.
كذلك تقع أنقاض الكنيسة البيزنطية على شاطئ البحر مباشرة إلى الجنوب من أنقاض مدينة "بورفيريون" مدخلها من جهة البحر، ويبلغ طولها نحو 41 مترًا مكسوة بالفسيفساء والتصاوير الجدرانية التي وُجدت مجموعات عظيمة منها، وتم عرض هذه الكنوز في جناح خاص في متحف "قصر بيت الدين".
وفي "الجية" أيضًا "قصر المير"، الذي بناه الأمير بشير الثاني الشهابي، والعديد من الآثار التي تعود للقرن الثاني الميلادي، ولا تزال رمال "الجية" تخفي آثارًا من العهود القديمة المختلفة من الفينيقية إلى العربية الإسلامية.
حكيت قصة مدينة "الجية" على زوجتي وأبنائي، والتفت للمقعد الخلفي لأجدهم راحوا يغطون في نوم عميق، وكأني حكيت "حدوتة قبل النوم"، وقبل أن أوضح لهم أن "الجية" تعني في اللغة السريانية المكان المبهج واللطيف، تمنيت أن أغفو قليلًا بعد لحظة البهجة التي داعبت مشاعري، وأنا أستعرض قصة المدينة التي يحتضنها الخليج، والتي اكتسبت تسميات عديدة بحكم موقعها الجغرافي الذي مرّت به جميع الشعوب قديمًا وحديثا، وأشهرها "يورفيريون" أي مدينة الأرجوان التاريخية القديمة.
أمنية الراحة و"الغفوة" وتلبية رغبة الجسد مع تثاقل الجفون ولو لدقائق كانت مستحيلة، فقد ظهر في الأفق مجموعة من المسلحين فاق عددهم أفراد المواقع والحواجز الأخرى التي واجهتنا طوال الطريق، ونحن الآن على مشارف مدينة "صيدا"، على مقربة من مقصدنا، كانت علامات الشراسة تبدو على قسمات وجوههم وهم يرتدون ملابس مقلدة للجيش اللبناني المبرقشة بالكاكي ودرجات اللون الأخضر، من دون العلامات المميزة لكل وحدة عسكرية، همس السائق في أذني:
"إنهم من جماعة الملازم الفار أحمد الخطيب، يسمون أنفسهم "جيش لبنان العربي".
ولمحت على وجهه ابتسامة صفراْ، وهو يتابع:
"الفلسطينيون، يا أستاذ، اخترقوا وأنفقوا، واشتروا ولاء عدد ضئيل من الجنود، ففروا بآلياتهم من الثكن، وراحوا- بدعم من الفلسطينيين- يسيطرون على الثكن في بيروت".
شعرت من أسلوب كلامه هزءًا، ولكنه استهجان، والحقيقة لقد كان من الصعب معرفة إذا كانت هذه الشرذمة من الجنود من "جيش لبنان العربي"، أو من غيره، فتصرفات أفراده بعيدة تمامًا عن أخلاقيات الجندية الصادقة من حسن النظام، والانضباط، وعدم تخويف الآخرين.
اقترب ثلاثة مسلحين، بدا الذعر على محياهم، شعرت أنهم متعطشون للعنف واللصوصية، استيقظ شريف مذعورًا، هزّ أخته المتكمشة بأمها، غلى الدم في رأس كبيرهم في الرتبة، زاد وجهه انتفاخًا من الغيظ الذي لم أعرف له سببًا، وصرخ:
"نزلوا.. نزلوا من السيارة".
وترّجلنا، حاوط الأولاد أمهما، وأبعدوني عنهم، وأنزلوا سائق وركاب سيارة النقل، فانضموا إلى الشاب الذي رافقني.
ولاحت بوادر سوء المعاملة والقوة المفرطة والغلظة، أشعرونا أننا متهمون بفعل منكر، ولم يقولوا لنا ما هو، ولا وجهوا لي أو لركاب سيارة النقل المرافقة أيًا من الأسئلة التقليدية:
"من وين جايين.. ولوين رايحين.. شو محمّلين.. شو في بالحقائب والشنط؟"
فجأة، اقترب ثلاثة مسلحين من سيارة النقل التي كانت تحمل حقائبنا، نهشوا جوانبها، حاولوا التحرش بسامية مربية أطفالنا فهرعت تحتمي بنا، اثنان من المسلحين أخذوا سيارة النقل، بعدما أفرغوا حمولتها وفرّوا بها، وتوجه أفراد منهم إلى سيارتي، والآخرون وجهوا أفواه بنادقهم نحونا، احتمى الأطفال بأمهم وسامية اندست معهم، وبحركة تلقائية أخفيت مفاتيح السيارة في إحدى الحقائب التي تم تفتيشها، فتشوا كل شيء فيها حتى إنهم حاولوا نزع مقاعدها فلم يتمكنوا، جربوا سرقة السيارة، والفرار بها كما فعلوا مع سيارة النقل فلم يفلحوا.
مرّت بنا سيارة مصفحة، مموهة، لا شارات عليها، ولا شعارات، أو أي رموز تدل على هوية سائقيها، حيوا المسلحين:
"يعطيكم العافية يا شباب"...
وانطلقت مسرعة، وفجأة كأن لتلك التحية فعل السحر، أخذ أفراد "جيش لبنان العربي" بالانسحاب.. وضعت الحقائب في صندوق سيارتي وما تبقى في المقعد الخلفي مع الأبناء وانحشرت معهم مربيتهم، أما شباب الحاج سليم الصيداوي، فقد استعوضوا الله في خسارتهم، ودبروا عودتهم إلى بيروت، ضغط الشاب الذي رافقني على يدي، أعطاني بيانات المسؤول عن رحلة السفر، وتفاصيل المركب التي ستقلنا لمصر.
حاولت السيطرة على جهازي العصبي وضبطه والتحكم في غضبي، بعد أن اكتسبت الخبرة في شؤون الحواجز، والتعرف والتعامل مع عناصر قوى الأمن و"الشبّيحة" لأكمل طريقي، شعرت بالأمان ونحن على مقربة من أبواب مدينة "صيدا" التي كانت خاضعة يومًا لمصر.



