الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

مَضى نصف عمر النهار, ونحن على دروب لم تنفض عنها الموت, تتدافع فيها شهوات القتل, تخدشها دعسات المقاتلين, تجرحها فتدميها.

في الفلاة البعيدة, والدنيا على غروب, وعين الشمس شاحبة في الأفق, لاحت "صيدا".

 

الدرب إليها لم يكن سهلاً, حواجز تصر على نشر الذعر و الخوف, وجوه قبَّحها السهر والتعب, وعيونٌ يسكن فيها الحقد, وتلمع فيها الكراهية.

 

يلوح بيده, يوقفك, تقف وتبتسم, يعبس ويقطب, يتململ ويتمايل برشاشه, ويفرض عليك سطوته، عيناه تنغرسان في وجهك, وتزدحم فيهما علامات الاستفهام, وتدِب فيك رعدة الخوف على عائلتك الصغيرة مما قد يفعله الواقف ضد الحياة, وأغلب الظن أنه لا يعرف لماذا يحارب, ويقتل. 

 

ويشير بعينيه قبل يديه، يطلق سراحنا من أسر سطوته, يتركنا نواصل الدرب.

 

على بوابة المدينة أومأ شاب ملتحٍ, أشعث الشعر, في عينيه ذئب يرتعد, أفرج عنا بحركة عجلى من يده، فدخلنا أقدم دويلات المدن التي أسسها "الكنعانيون" (وهم الذين عرفهم الإغريق بالفينيقيين) على شواطىء البحر الأبيض المتوسط، دخلنا "صيدون"، والاسم عند بعضهم منسبُ إلى صيدون بن كنعان, ويحاجج آخرون بأنه مشتق من كثرة السمك في شواطئها, أو نسبة إلى الأقدمين من أهلها الذين أكلوا خبزهم من ماء البحر وسمكه, يصطادونه ويتاجرون به.

 

ويفتي المؤرخ الفرنسي جاك نانتي بأن "صيدا": "أول مدينة أسسها الفينيقيون هي مدينة صيدا نحو سنة 2800 ق.م، ثم بُنيت بعدها مدينة "جبيل" و"أرواد", ثم بعد ردح من الزمن مدينة "طرابلس"، ويُصّر بأنّ" مؤسس صيدا هو صيدون بن كنعان البكر.

 

أما أحمد عارف الزين, فهو يعرف أكثر كونه إبن البلد, فأخرج من الوثائق ما يثبت أن اسم المدينة مأخوذ من بِكر كنعان حفيد نوح، وكان ذلك سنة 2218 ق.م أو قبل ذلك, وكانت في أيام يشوع بن نون أم المدن الفينيقية".

 

وتستنطق تاريخ تلك المدينة, فإذا هو حافل بالحوادث، مرّ عليها الغزاة, تركوا فيها آثارهم وحضاراتهم, وأخذوا منها ومن بحرها الكثير.

 

خضعت مثل غيرها من المدن الفينيقية على الساحل لسيطرة الفراعنة، وشكلت جزءا من أراضي مصر وذلك منذ عهد رمسيس الثاني، ويمر عليها "الأشوريون" ردحاً، وبعدهم دخلها نبوخذ نصر البابلي, ثم قورش ملك فارس, والإسكندر الأكبر حتى دخول الرومان. 

 

وعلى الرغم من معاناتها من  سياسة الغزاة وسلطتهم وتسلطهم, إلا أنها ظلت متمتعة بنوع من الاستقلالية الذاتية, وحافظت على روح المغامرة والملاحة وبقيت تتنافس مع جارتها "صور" في كونها عاصمة سياسية واقتصادية وثقافية للدويلات الكنعانية.

 

سنة 332 قبل الميلاد لم تقاوم صيدا عسكر الإسكندر، فتحت له بواباتها البرية والبحرية فحافظ المقدوني على مصير المدينة, لكنه عَزَل ملكها، وعلى عهد الرومان تحولت المدينة إلى "جمهورية",  وامتدت أراضيها إلى جبل الشيخ أو "جبل الحرمون".

 

في إنجيله ذكر مرقس الرسول وفي الفصل السابع منه, أن  السيد المسيح جاء إلي "صيدا" و"صور" و"قانا" التي في العُرس فيها كانت أعجوبته الأولى, لمّا حوّل الماء إلى خمر.. فالأراضي اللبنانية أراض مقدسة مع أرض زبعلون، ونفتالي، وجليل الأمم. 

 

وبعض شرّاح الكتاب المقدس يقولون إن السيد المسيح وصل إلى أعالي  مدينة "مرجعيون", وحدود «بلاد الشام» عندما يرسمون خارطة درب السيد المسيح إلى جليل الأمم.

 

من البحر الذي يستلقي بين قدمي "صيدون", انطلق أوّل مركب يحمل  ألواح الأبجدية.. وعلى أرضها  شُيّدت حضارات شتّى.. والآثار المتبقية, إن في القلعة البحرية أم البرية أو قلعة المعز, شواهد على فرادتها و تسيّدها، وفي متحفها نِتَف من تراثها وحضارتها, وكيفما تلّفت فيها, تشتم عبق التاريخ.

 

وتحفظ الكتب والوثائق إسم والي صيدا سليمان باشا الفرنساوي, حامي حماها, والحافظ على عهدها وتفوقها وازدهارها.

 

والرجل فرنسي المولد, رأى النور في مدينة "ليون" عام 1788, وفي المعمودية كان اسمه  Joseph Anthelme Séve ونمُر بأسواق المدينة العتيقة, كانت قبل أن دهمتها الحرب تدب فيها حركة تعّودها أهلها, على اعتماد في النفس منذ أبعد العصور.

 

وتركنا "صيدا" وكنا نريد فيها البقاء, وكم غلبت على الذاكرة حوادثها وتاريخها، ولكن شئنا أم أبينا, فإن الوقت الخائن, الجائر, سلخنا عن استراحة, كنت في الحقيقة أريدها طويلة, فقد كان نظري تعِب, وتعب تأملي, وصرت أحسبني في عياء عن متابعة السياقة وعن استنطاق الدروب.

 

ودخلنا سيدة البحار و"أم المدن", حسب بلني الكبير, و"المباركة المرفوع عنها الفتن", حسب الشافعي..  دخلنا "صور" التي كانت تبحث عن وجهها البهي, وقد عفّرته الحرب بغبارها.

 

" صر" SR, هكذا يسميها بعضهم, ومعنى الكلمة " الحجر الحاد" الذي يرمز إلى  تلك المدينة البحرية وبنيانها، والمعني الفينيقي للإسم "الصخرة".

 

في قاع بحر "صور" تختفي مدينة غارقة, حبلى بالآثار الثمينة، في قاع بحرها أيضاً مياه حلوة، وتنبع في بعض مناطقه مياه كبريتية.

 

و"صور" تنهض للتاريخ والحقائق, مُصانة في جوف الكتب عنها:  في القرن السادس قبل الميلاد, حاول الملك البابلي نبوخذ نصَر إحتلالها, فردّته عنها أسوارها,  فحاصرها 13 سنة, وإنكفأ في النهاية. سنة 323 قبل الميلاد, جرّب الإسكندر الأكبر إخضاع "أم المدن", فتحصنت خلف أسوارها, فحاصرها  سبعة أشهر, فصمدت له, وقاومته بعناد... فما كان منه إلا أن أمر عسكره بتدمير نصف المدينة البحرية. 

 

وعَصَت الصليبيين الذين حاولوا إقتحامها وإحتلالها. وحدهم الرومان تمكنوا منها, وذلك بعد ثلاثة قرون. فأخضعوا "صور", التي أبت, بأنَفة و كِبَر, إلا أن تكون لها إدارتُها الذاتية, فصكّت العملات الخاصة بها, من الفضة والبرونز. في سنة 1224, عاود الصليبيون الكرّة لإخضاع"صور", فكانت آخر مدينة ساحلية تمكنوا منها. فبقيت خاضعة لسيطرتهم حتى سنة 1291, لمّا استولى المماليك عليها.

 

 في بدايات القرن السادس عشر، أصبحت "صور" في قبضة السلطنة العثمانية، كغيرها من مدن المنطقة, يحكمها السلطان بقرارات "همايونية" و"فرمانات", حتى ولادة دولة لبنان الكبير غداة الحرب العالمية الاولى سنة 1920. 

 

ومن "صور" كانت "العولمة" الأولى, عندما نقلت "الأحرف الابجدية" الى العالم, و أمنّت التواصل الحضاري بين أمم الأرض. فلم يكن لتلك المدينة أي ولع إلاّ بالعلوم والصناعة والتجارة, واكتشاف المناطق البعيدة.

 

وليست أسطورة "قدموس" إبن "صور" البار, وتطوافه في البلدان بحثاً عن أخته "أوروبا", سوى الشاهد على المغامرة واكتشاف العالم, الذي طُبع عليه "الصوريون".

 

تخلع الشمس فستانها فوق هامة قلعة صور وبقايا الآثار الأخرى, حجارتها ناطقة تحكي قصة الحقبات الإغريقية والبيزنطية والعربية والعثمانية، أغلقوا أبوابها مع بداية الاحتراب, حفاظاً عليها من أذى الأيادي السوداء التي تتاجر بالآثار.

 

مقاه ومطاعم, ومتاحف وأماكن أثرية, ضاعت منها "نوستالجيا" العجقة الليلية، "صور" كانت مثل جارتها "صيدا" تئن من الحرب.

 

 

عن بعد مجموعة من الشباب المسلحين الواقفين من دون حاجز ثابت أو "طيار", فتحضرت إلى جولة جديدة من الأسئلة, واندسست وراء رتل من  السيارات التي تنتظر المثول أمام الحاجز.

 

أزف دوري, اقتربت على مهل, وحانت مني التفاتة على فتاة طويلة القامة ورشيقة, ترتدي بزة عسكرية وعلى كتفها لفّت شارة "الحرس الشعبي" التابع للحزب الشيوعي اللبناني, وجهها صبوح وأليف، استحضرتها في ذهني, عرفتها: فوز مهدي, زوجة عدنان حطيط, الذي كان سكرتير تحرير مجلة" بيروت المساء", وتعاوننا في تلك المجلة تحول سريعاً الى صداقة,  ورفع كلفة، ابتهجت لمرآها, ومن دون تردد  وجدت نفسي أقول بلهفة:

"الرفيقة فوز..." فتحت عينين كبيرتين, مدّت يدها, صهلل صوتها:

"استاذ مودي..."

 

تمددت على شفتيها ابتسامة, تشي بصدق العاطفة, وصلتني نبراتها ملهوفة:

 

" شو عم تعمل هون, ولوين رايح؟"

وطلبت مني أن أركن السيارة, فأخبرتها أننا في "صور" للعودة إلى مصر.. وغرقت بعدها في حديث مع زوجتي, وفي مداعبة الأولاد والتخفيف عنهما.

 

وكانت "الرفيقة" فوز بنت النبطية، انضمت إلى "الحزب الشيوعي اللبناني" على زمن أمينه العام جورج حاوي (اُغتيل بتفجير عبوة ناسفة بسيارته في منطقة "وطى المصيطبة" في 21 من يونيو (حزيران) سنة 2005، وانخرطت في تنظيم "الحرس الشعبي" الذي إلى جانب خوض عناصره معارك عدّة في الجنوب والجبل, إلا أن مهمته الأساسية هي الخدمات الاجتماعية و الطبية للقرى الجنوبية المحرومة.

 

 وكان الليل تساقط من الإعياء, والدنيا سكون إلاّ من صدى انفجارات بعيدة, فساعدتنا "الرفيقة" فوز على ايجاد نَزل نقضي فيه ليلتنا.

 

رميت نظرة من شباك الغرفة, النجوم كانت تتلامح ساهرة في الليل, و القمر يأوي إلى أحضان الشجر الذي يلف المكان, ذهبت "صور" إلى النوم، وبقيت سهراناً تتقاذفني الأفكار.. شريط من الصور فيها نتف من السنوات الست التي قضيتها في لبنان, بحلوها وغناها, مرّ في ذهني, وتداعت الذكريات في رأسي, تستحضر وجوه الصحاب ورفقاء الدرب, وسهرات بيروت ومجالس السمر والحكي.

 

ضجّ الصوت في داخلي, وجدت نفسي أغمغم:

" من غير وداع.. أنا عائد, عائد مهما طال الزمان".

 

لم يكن ندى الليل جفّ, والشمس المتكاسلة لم تلملم بعد الفيء من خلف البيوت, عندما حضرت فوز مهدي من "النبطية" مع شابين, قالت بنبرة اعتزاز إنهما الرفيقين نديم و فريد, لمساعدتنا للوصول إلى المرفأ وتسهيل الإجراءات.

 

نقلوا حقائبنا إلى سيارة جيب "رانجلر" Wrangler من صنع "كرايسلر" الأمريكية، التي راحت تقرأ طريقها إلى مرفأ صور، لتبدأ  من بحره، رحلة العودة إلى مصر الحبيبة.

 

غمغمت في سري متسائلاً: من أين لحزب البروليتاريا و الطبقة الكادحة, المسحوقة, الأموال لشراء مثل هذه السيارة ؟.

 

"إنه لبنان..  لبنان ياغبي".. و.. ضحكت.  

 

تم نسخ الرابط