الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

 لأول مرة، شعرت بأنَّ العمرَ ترامى به، مَسَّهُ الكِبَرُ، مشى على وجهه الدقيق الملامح، ترك تحت عينيه السوداوين تعب السنين.

 

تملاني، تلامحت ابتسامة، خطفها صوته المتراخي وهو يسألني، وقد اكتسى وجهه بحزن مستقر:

 

 

"إيه.. خلاص نويت تسافر تاني؟"

 

 

وسكت، ولم يكمل الجملة التي كنت أنتظرها، وأتوقعها مريرة، قاسية:

 

 

"وتتركني أنا وأمك لوحدينا!"

 

 

التجأ حزنه إلى عينيه، يخبئ فيهما وجع الفراق، فقد طوت الهجرة ولدين من أولاده قبلي، وما انتظر مني، أنا "الولد البكري" وبعد أن عُدت إليه، أن أتركه من جديد، وأعطي وجهي للبلاد الغريبة، بعيدًا عنه وعن أمي.

 

 

هو الذي يدور في فمه لسان، يبيِّنُ عن عقل وافر وجواب حاضر، استطال السكوت وغرق في حزنه. ثم ما لبث أن استرجع وقاره، فبدا لي كما عرفته منذ أن وعيت، شديد الاعتداد بنفسه، قوي الشكيمة، يخلط شدَّهُ بلينِهِ.. جهد موصول، وعطاء متمادٍ، لا تداعِ في النفس ولا اسوداد في الرؤى بل انبساط، ثقافته واسعة عميقة.

 

 

من أقوال العرب المتعارفة: "لكل شيء من اسمه نصيب".. وقد رأيت في والدي حكيم واصف صدق هذا القول.

 

 

فـ"عمو حكيم" (كما كان يحب أن ينادي عليه الأهل والأصحاب) "حكيم" في عقله وتصرفاته، "حكيم" في صداقاته، "حكيم" عليم بطباع الناس وغرائزهم. 

 

 

فتح عينيه للنور في بيئة تقية صالحة، تعاونت على تربيته، وتكوين شخصيته.

 

 

إذا اختلف احترم المُختلف معه، وإذا اقتنع أقنَعَ، وشجَّعَ وسانَدَ. وإذا اعترض، وعاند في اعتراضه، لا يمنع عليك رأيك.

 

 

كانت حياة حكيم واصف مجموعة من المواقف التي تتسم بالنبل والوفاء، والإخلاص والصدق، ولم يُسمع عنه من خصومه حجّة، فقد فُطِرَ على خُلُق أبيٍّ، يربأ بهُ عن المنكر من التصرفات. 

 

 

عصبي المزاج أحيانًا، يفورُ ويغضبُ، ولكنه كان حكيمًا، واثقًا من نفسه، فقلب حكيم واصف يُطِل من عينيه.

 

 

وكان يشد بغرار إيمانه، من غير أن يلوث ضميره بجرثومة التعصب المقيت. لم يطأطئ، لغير الله، رأسًا، ولم يُحنِ لغير الموت ظهرًا، وهو إلى ذلك ذاق مرارة السجن وعذاباته، ولم يحِد ولم يهادن، عاند، كاسر، وأصر على أفكاره، فلم يغيّر من مواقفه، ولم يَتَلَوّن.

 

 

ويوم مولدي، كان والدي خلف قضبان السجن، فقد حُبس من أجل معتقداته ومبادئه وإيمانه وآرائه، ولم يرني، أنا بِكرِه، ولم يحتضني إلا بعد ستة أشهر من مولدي. اهتزت دنيا "الحكيم" حكيم واصف، لكنها لم تقع، نهض من كبوته، وبدأ من جديد، كافح، عاند، ثابر، تغلب على الصعاب. رَبّانا، كبّرنا، علَّمنا، وتركنا على مضض نغادر العش، الواحد في أثر الآخر، إلى الدنى الواسعة.

 

 

حكيم واصف، هو واحد من ذينك الرجال الذين ندروا هذه الأيام.

 

 

 

فتحت ذراعيها، أرحت رأسي المتعب بالهموم على صدرها، داعبت بأصابعها النحيفة خصلات شعري، كما كانت تفعل وأنا طفلٌ يبحث عن صدر أمه وحنانها.

 

 

وهَمَسَت:

 

"ربنا يرافقك، ويوفقك".

 

 

غصَّت بآخر كلمة: آهٌ مرنانة طلعت من صدرها:

 

"بس يا إبني ما تِغبش كتير وتنسانا".

 

 

مسحت دمعات غدرتها فسالت على خديها.

 

 

زرتُ وجهها بعيني، لم يمسسه الكبر. بعده وجهها، على الرغم من الهموم وقساوة الحياة ومرارتها، على نضارته وحلاه.

 

 

استدعى ذهني كل صور الماضي، عني وعنها، عن حياتها مع الرجل الذي أحبّت، فوهبته حياتها، وعمرها وأولاده الثلاثة. وعندما ساورته المحن، وثارت به عاديات الزمن، كانت بقربه، تشّد من أزره، تواسيه، وتأسو على جراحه، ما مرة شَكت أو تكّدرت. ولا مرة أيضًا، عاشت خلو القلب من الهموم.

 

 

صبورة، كانت أمي، على الضيم جلودة، كتَّامة، لا يوجد أقدر منها على إخفاء ما يعتمر في نفسها من ألم، ووجع، وهموم. لم تدعنا نشعر أن شيئًا ما تغير في دنيانا الصغيرة، حتى عندما طوى السجن أيام والدي، فغاب عنها، كانت تتهادى إلى الرضا الحلو، فلا تُشعِر من حولها بقلقها، ولا تبوح بخطرات ضميرها.

 

تفرغت عمرها لنا، أولادها الثلاثة، تحتضننا وترعانا، وتردُّ عنّا، وتحمينا من أنفسنا قبل الآخرين. كانت علاقتي بأمي علاقة خاصة، فكنت الابن البكر، والأخ الذي حُرِمت منه، فهي واحدة من ثلاث بنات، والصديق الذي تبوح له بكتمات صدرها.

 

 

وكانت لي اليد الحانية التي تخّفف عني، ملجأي في لحظات فشلي وخيباتي، في التعب كانت راحتي، في الضعف كانت قوتي، وفي العواصف هدوئي.

 

 

وعودتني منذ نعومة أظفاري على الثقة والاعتماد على نفسي، فكانت تراقبني من شرفة المنزل، وأنا أتلمس خطواتي على الرصيف، حاملا سلّة في داخلها ورقة كتبت أمي عليها ما تريده من بقال الحي، فكنت أسلمه الورقة، ويتولى وضع المشتريات في السلة، فأعود بها إلى أمي، كنت في ذاك الوقت في الخامسة من عمري.

 

 

وفي صباح اليوم التالي تُحمِّلني السلة، وتراقبني من الشرفة وأنا أتوجه، هذه المرة، إلى "الجزار". ولأنها شرحت لي الفرق بين قطع اللحم المختلفة، ما استطاع "الجزار"، مرة، أن يخمَّني، ويقطع لي من اللحم ما لا ترغب فيه أمي ولا تريده لطبخة اليوم، فكنت أعاين الجزار، وأدقّق وهو يقطع اللحم، وأحاججه إن لم يكن ما قطّعه هو المطلوب.

 

 

أدير عيني في الأمهات، فلا أرى بعد أمي... أمًا.

 

 

 

ويا يوم سفري، كم غصًّت كلمات في حنجرة أمي، وهي تحضنني وتضغط. تصّنع والدي الوقار، حاول أن يخفي حزنه، ففضحته كلماته المغسولة بألم الفراق، اختنق صوته وهو يودعني.. لم يتحمل أن يراني أغيب عن عينيه، دخل إلى البيت وترك أمي، وزوجتي وأولادي على العتبة يلوحون مودعين. وودعت أبًا وأمًا وصفهما المثل الياباني "طيبة الأب أعلى من القمم، وطيبة الأم أعمق من المحيطات".

 

 

 

أُغلق الباب الحديدي الضخم في خاصرة الطائرة. كرجت على مدرج المطار، وارتفعت رويدًا رويدًا تهتك عري الغيوم، وتسبح في السماء.

 

 

أرخيت جسدي على المقعد، دارت في رأسي أفكار مختلفة، تلاطمت، وما استقر ذهني على واحدة. سحبت من حقيبة اليد ملفًا بين دفتيه محاضر اجتماعات ثلاثة مع عبد الرحمن الشرقاوي، وعلى هوامشها ملاحظاتي بالحبر الأحمر. تأنيت في قراءتها ومراجعتها، فأدركت مجددًا حجم المسؤولية التي ألقاها عبد الرحمن الشرقاوي على كتفيَّ.

 

 

ارتجفت الطائرة، هَدْهَدَها جيب هوائي، تمايلت له صاغرة. حامت فوق مطار "هيثرو"، نزلت تدريجًا من عليائها، لامست دواليبها أرض المدرج، فكرجت عليها. همدت، عاد الباب الحديدي الضخم يفتح فمه من خاصرتها.

 

 

هَلْوَسَ نسيم بارد، تلّبسني البرد، السماء تنسرب مطرًا، حبّات المطر خضّبت وجهي، وبلّلت سترتي.. أهلًا بك في مملكة إليزابيث الثانية.. أهلًا بك في مدينة الضباب والبرد والمطر. أهلًا بك في لندن.

 

 

لما رآني لوّح بيده، كان أخي "جو" يقف إلى جانب الصديق ممدوح مسعود، طبيب العظام. والاثنان كانا في بداية حياتهما العملية في العاصمة البريطانية، فبينما دخل أخي عالم السياحة والفندقة، دخل ممدوح مستشفى حكومي طبيبًا معالجًا ومبرزًا في اختصاصه.

 

 

في مرآب السيارات أسرع أخي الخطى، ثم توقف أمام سيارة صغيرة مستعملة، أكل الدهر عليها وشرب، بالكاد تمكن بمدخراته البسيطة من جمع ثمنها، حشرت في صندوقها حقائبي، وحشرت نفسي في المقعد الخلفي.

 

 

واستسلمنا إلى الطريق، في اتجاه جنوب لندن، واستسلمنا إلى المطر المنساب في الخارج والداخل في آنٍ معًا، فسقف السيارة كان أكله الصدأ ونَخَره، ومن القدح كان يَنّز المطر، فكان على الجالس في المقعد الخلفي أن يحمل مظلة ليتقي غدر حبات المطر، فلا تبتل ثيابه.

 

 

تفترت شفتا أخي "جو" عن ابتسامة وضع فيها كل اعتزازه، قال:

 

 

"سنعرِّج في طريقنا على مستشفى " كارشلتون "، وهو في ضاحية على رمية حجر من بيتنا".

 

 

تعّجلت السؤال:

 

"مستشفى.. لماذا؟".

 

 

رد وقد ازداد اعتدادًا بنفسه:

 

"قبل أن أذهب إلى "هيثرو"، نقلت زوجتي أليكس إلى المستشفى، فقد بدأت تشعر بآلام المخاض".

 

 

في ردهة ضوؤها خافت، جلسنا ننتظر من يأتينا بأي خبر. ازدحم في عيني "جو" القلق، بات لا يطيق الجلوس ساكنا، أخذ يزرع الردهة بخطوات قلقة، حاولت التخفيف من قلقه، فكنت أعرف، وقد سبقته إلى هذا الموقف، مدى ارتباكه وخوفه وقلقه.

 

 

دخلت علينا، وابتسامة تتبرعم على شفتيها الدقيقتين، فتشّت عن" جو" بعينها، لونت نبراتها بشيء من الثقة:

 

 

"لن يطول الوقت، فكل الإسعافات قد تمت لتسريع الوضع، وكل شيء كما يتمناه الطبيب المشرف على الولادة".

 

 

ارتاحت أسارير "جو"، جلسنا ثلاثتنا مع كوب شاي ساخن يدفئ أيادينا التي ما زالت مبتلة بماء المطر. ولم يمض كثير وقت، حتى عادت الممرضة وقد لبِست وجهًا متجهمًا، وبصوت موشى بالحزن قالت:

 

.Sorry Sir ,your wife has delivered a girl  "آسفة يا سيدي، فإن زوجتك وضعت مولودا أنثى".

 

رسم أخي على شفتيه ابتسامة عريضة، وانبسطت أساريره على مديد الطمأنينة، وقال للممرضة الملتاعة والمتأسفة:

 

"هذا ما كنا ننتظره، زوجتي وأنا، وقد اخترنا لبنتنا اسم "مادلين".

 

وضم الممرضة إلى صدره.

 

باغتني كلامها، عرفت أن الفتاة من ريف أيرلندا، الأم أيرلندية والأب أرمني وأسرتهم تفرح إذا أنجبت الأم مولودًا ذكرًا، وتحزن إذا كان المولود أنثى. في أرمينيا يفضلون الذكور على الإناث. واحد من أشد الاختلالات في العالم للنسبة بين الجنسين عند الولادة فهناك 114 ذكرًا مقابل كل 100 أنثى، ما يتجاوز المعدل الطبيعي، على الرغم من حبهم ورعايتهم لأطفالهم بين ذكر وأنثى. وما زالت عادة ترك منزل الأسرة وأرضها وأنشطة أعمالها للأبناء الذكور، سائدة ومتبّعة، بالإضافة إلى القيمة الرمزية القوية للذكور، فهم يحملون اسم الأسرة، وتلك ثقافة تتشابه مع ثقافة منطقتنا العربية. 

 

 

كان الليل ليلتها يصطك من البرد، لم أعرف كيف ارتميت على السرير، نهشني التعب وسَّدَ النعاس مقلتيّ، سمعت صرير أكرة الباب، مدَّ "جو" رأسه يتفقدني، كنت لحظتها قد سلمت نفسي للنوم و.. نمت.

 

 

 

مضى الليل في طريقه من دون تعثر، هلوس نسيم بين الشجر، والصباح كان رخيًا، منعشًا ونديًا. نهض البيت على رؤوس الأصابع، ونهضت أنا لأول يوم من غربتي الثانية.

 

 

كانت المهمة الأولى اختيار المنطقة المناسبة للعمل والسكن. وكان شقيقي "جو" حسم الأمر، ووافقه صغير بيتنا أخي رأفت، أن يكون بيتي إلى جوار بيتهما في "إيست كرويدن"، التي تبعد عن لندن 15 كيلومترًا، وتتمتع بخدمة مواصلات مميزة. وهكذا كان. 

 

 

بقي عليّ إيجاد بيت "روزا ". ولقد تمنيت أن تسكن "روزاليوسف" في أرقى مناطق وسط لندن، في "ويست إند"، وحققت الأمنية.

 

 

في "ريجنت ستريت"، كان بيت شيخة المجلات، وهو المعروف بمبانيه العتيقة الأنيقة، المدرجة على "قائمة التراث الوطني" للحفاظ على أهمية تلك المباني الأثرية، والشارع تكّنى باسم "الأمير ريجنت"، ولي العهد، الذي أصبح فيما بعد الملك جورج الرابع، وقد صممه المعماري المعروف وذائع الصيت "جون ناش"، واستغرق تشييده وتنفيذ التخطيط المعد له عشر سنوات. من معالمه "كافيه رويال"، منبع ومصب الأناقة في مدينة الضباب، ارتاده كل من أوسكار وايلد، جورج برنارد شو، دابليو بي بيتس، بريجيت باردو، إليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون... وشخصيات مرموقة من عينة ونستون تشرشل، دي إتش لورانس، وفيرجينيا وولف. كما تردّد على المكان أفراد الأسرة الملكية. 

 

 

وبيت "روزاليوسف" كان في بناية ذات طابع غريغوري، في الشارع الذي يربط بين "أوكسفورد ستريت" و"بيكاديللي".

 

 

وفي ذلك البيت بدأت غربتي الثانية.

 

 

 

تم نسخ الرابط