الإعلان هو إكسير حياة أي مطبوعة، فالمبيع بالكاد يأتي لأي مطبوعة بالكفاف، وهو لا يكفي لسداد الالتزامات المالية المترتبة عليها.. وحده الإعلان هو الذي يسمح باستمرارية المطبوعة، وينسحب الكلام على الشركات المنتجة للسلع، فللإعلان أهمية قصوى في ترويج المنتج، لذلك تخصص الشركات ميزانيات ضخمة سنوياً للعلاقات العامة PR والتسويق Marketing، وهذه الميزانيات الضخمة تذهب إلى بيت مال "وكالات الإعلان" Advertising Agencies التي تتولى العلاقات العامة الترويجية، والتسويق واقتناص الإعلان.
وهذه الوكالات تضع شروطاً صعبة لتمثيل أي مطبوعة، ليس أقلها الانتشار وأرقام التوزيع، والقدرة على الاستمرارية والتشخيص الدقيق لشرائح القراء، يتضمن الفئات العمرية التي تحدد القدرة على استهلاك وشراء أي منتوج موضوع الحملة الإعلانية.
وبدأت البحث عن وكالة تُدخل "روز اليوسف" على لائحة زبائنها، وتتولى تأمين ميزانيات إعلانية لها، ولم يكن الأمر سهلاً.
في هاتيك السنوات، كانت تتناطح في سوق الإعلان وكالتان: "جي دبليو طومسون" J W Thompson التي أسسها James Walter Thompson في نيويورك سنة 1896, و "وكالة أوجلفي آند ماذر"Mather &Ogilvy التي هي ثمرة الاندماج سنة 1964 بين وكالة "أوجلفي" البريطانية التي أسسها إدمون أوجلفي، ووكالة "ماذر" التي أطلقها دايفيد ماذر في نيويورك (وإن استنطقنا الأرقام نجد أن "أوجلفي وماذر" تعد هذه الأيام الأكبر في العالم، فحسب إحصائيات سنة 2020 كانت تضم 25 ألف موظف)، وقبالة الوكالتين تقف "ساتشي أند ساتشي" Saatchi & Saatchi التي أسسها سنة 1970 الأخوان العراقيان موريس وتشارلز ساعتجي، وهما من التبعية اليهودية، فكان من الصعب أن أطرق بابهما، وأغلب الظن أن عبد الرحمن الشرقاوي كان سيرفض رفضاً باتاً أن تتعاون"دار روز اليوسف" مع تلك الوكالة، ويشّد على يده ويدعمه لويس جريس.
والحقيقة كان من الصعب بل المستحيل التعاقد مع مثل تلك الشركات، فمجلة "روز اليوسف" هي كيان مجهول بالنسبة إلى تلك الوكالات التي لم تتعامل مع مطبوعات عربية، ولم تكن على خريطة اهتماماتها. فكان لا بد والحال هذه من البحث عن وكالة تعرف المنطقة وتتعامل معها.
وبعد مكابدة، وقع اختياري على وكالة Overseas Publicity في شارع "أوكسفورد ستريت"، ومكاتبها تجاور مكتب "روزا".
وكما فعلت في التوزيع، أحطت عبد الرحمن الشرقاوي ولويس جريس علماً وفي تقرير مسهب مدى صعوبة ايجاد وكالة إعلانات تتولى "روزا"، وسبب اختياري لتلك الوكالة، ووجدت عندهما تفهماً وتقديراً لما بذلت، ووافقا على المضي في إتمام التفاهم مع Overseas Publicity، وبعد اجتماعات عمل متواصلة وقعت عقداً بالنيابة كممثل لمؤسسة "روز اليوسف"، ووقع العقد عن الوكالة رئيس مجلس إداراتها "ريتشارد إيوان Richard Ewan.
وكان العقد يُلزم الوكالة ببيع المساحات الإعلانية لمطبوعات المؤسسة والتعريف بها والدعاية لها، على أن تتحمل الوكالة مصاريف المواد الدعائية والمراسلات والاتصالات نظير عمولة 15% من قيمة الاعلان بعد التحصيل.
اختارت الوكالة "جاريث وودورث" Gareth Woodworth وكان أحد رؤساء الأقسام فيها، ليكون المسؤول عن ملف "روز اليوسف"، وهمزة وصل معي لإحاطتي بما تقوم به الوكالة، وتنسيق العمل.
كان في منتصف العمر هادئ الطبع، مبتسما دائمًا، ومتفهما لطبيعة المطبوعات العربية، وثقافة وحضارة مصر، أصبحنا أصدقاء، نلتقي فى معظم الأوقات فى ساعة فترة راحة منتصف النهار للتحدث وتبادل والمعلومات.
ولم تمض أشهر قليلة حتى تمكن "جاريث وودورث" وفريق العمل من الحصول على أول عقد إعلاني لمجلة "روزاليوسف"، وهو أول إعلان دولي ينشر في مطبوعة مصرية، وكان لسجائر "مارلبورو".
كنت مثل غالبية الناس، أظن أن "مارلبورو"Marlboro أمريكية الأصل، فاكتشفت أنها إنجليزية المولد، ولدت بين يدي "فيليب موريس" Phillip Morris وبعد وفاته سنة 1873 أكملت أرملته ماغريت وشقيقه "ليبولد موريس" العمل في صناعة السجائر، فترعرعت "مارلبورو" وشبّت في المصنع الذي كان في "جريت مارلبورو ستريت" في لندنْ Great Marlborough Street، وتكنّت السيجارة باسم الشارع، مع تغيير أحرف الاسم لتسهيل اللفظ.
في عام 1902 افتتحت "مؤسسة فيليب موريس" فرعاً لها في نيويورك لبيع منتوجاتها من السجائر، وروّجت لسجائر "كامبردج" ثم "دربي" ثم "مارلبورو".
وسنة 1924 قدّمت "فيليب موريس" سيجارة "مارلبورو" على أنها "سيجارة السيدة الأنيقة لنساء الصفوة".
في عام 1926 بدأت حملات إعلانية تُظهر نساء الصفوة يُدخِنّ السيجارة ليكملن أناقتهن في المجتمع الراقي، وكانت إعلانات السجائر تشبه إلى حد كبير إعلانات الموضة، وتلا ذلك وضع شريط أحمر على نهاية السيجارة لإخفاء علامة "أحمر الشفايف".
واستشكل الأمر على المدخنين، ولم تحقق "مارلبورو" ما توقعته لها "فيليب موريس"، فالرجال (وهم النسبة الأعلى من المدخنين) كانوا يرون فيها "سيجارة نسائية"، فانخفضت المبيعات 25%، وراحت شركة فيليب موريس تفكر في سحبها من الأسواق.
وفي عام 1957 نُشرت دراسات في مجلة "ريدرز دايجست" Readers Digest الواسعة الانتشار، تحقيقاً مستفيضاً عن ارتباط التدخين بسرطان الرئة، فقابلت الشركة دَويّ التحقيق بحملة إعلانية تليفزيونية أخرى لمطربة مشهورة في ذلك الوقت تداعب مشاعر المشاهدين بأغنية عن الاسترخاء مع "مارلبورو" بسحر ودلال.
في بداية الخمسينيات، كانت هناك 6 أنواع من السجائر "بفلتر"، ففي ذلك الوقت كان الرجال في الولايات المتحدة يعتبرون السجائر المفلترة ليست للرجال، على أن تلك الدراسات المُحذِرة من مضار التدخين دفعت المدخنين للأنواع المفلترة، ولم تكن "شركة فيليب موريس" قد أنتجت بعد سيجارة "مفلترة"، فقررت إيقاف حملاتها الإعلانية، ريثما تتمكن من تحويل "مارلبورو" إلى سيجارة "مفلترة".
وكان على "فيليب موريس" أن تواجه أكثر من مشكلة، أهمها وأولها الصبغة الأنثوية التي انطبعت على السيجارة لعقود، ومشكلة حملات الترويج التي كانت تعتبر أن "الفلتر" كان لا يزال لسجائر النساء!
في عام 1954 حُسم الأمر بالشركة، وقررت طرح "مارلبورو" بالفلتر، فتم اختبارها في "تكساس" بالشكل الجديد الذي يقترب من الشكل الحالي، باستثناء اللون الأحمر حيث كانت عبارة عن خطوط حمراء وبيضاء.
وكان من صمّم علبة "مارلبورو" هو الإيطالي "فرانك جيانينوتو"Frank Gianninoto وسلمت "فيليب موريس" سيجارتها "مارلبورو" لوكالة "ليو بيرنت للإعلانات" في شيكاغو Leo Burnett.
وفي جلسة عمل طلب "ليو" من الكتّاب أن يذكروا أكثر الرموز رجولة، فذكر أحدهم "راعي البقر" Cowboy ووضعت صورته في حملة الإعلانات الجديدة.
وعلى مدى الأربعين عاماً التالية، أثبت "فارس مارلبورو" أنه أكثر الشخصيات شعبية بين الشخصيات الأخرى، وأدى دوراً حيوياً في تعريف الناس بالفلتر، وكيف أنه لا يؤثر على طعم السيجارة المعهود، وأغرى النساء بتجربة السيجارة الرجالية، وروّج للعلبة الجديدة التي ساهم اللون الأحمر والفتحة القلّابة في القبول بين الناس، وأصبحت العلبة بلونها الأحمر موضة.
وفي عام 1963 عندما تم إخراج فيلم "العظماء السبعة" The Magnificent Seven، اشترت "فيليب موريس" حق استخدام موسيقى الفيلم، وأصبحت خلفية لإعلانات "مارلبورو" الإذاعية والتليفزيونية، والتي تُعرض في صالات السينما ضمن فقرة الإعلانات، وقد أسهم ذلك بشكل كبير في نجاح العلامة.
وفي الستينيات عندما حدثت الثورات وتغير وجه العالم عن فترة الخمسينيات الهادئة، وجدت الشركة مخرجاً آخر لفارس "مارلبورو"، حيث العودة إلى البساطة والحرية، وبعد ذلك أضيفت مشاهد من فيلم "العظماء السبعة" لرعاة البقر يجمعون القطعان والخيول البرية على صهوات جيادهم.
وهكذا احتل الفارس الأمريكي غلاف "روز اليوسف".
… وكانت البداية.



