الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

سمير العصفوري المخرج المسرحي الكبير عندما يعود مغامرًا في الثانية والثمانين من عمره المديد، فهو حدث مسرحي مهم، إذ أضاء إبداعه خشبة مسرحنا القومي العريق بمسرحية "في انتظار بابا".

قيمة العصفوري الجوهرية أنه- وعبر تاريخه المسرحي الطويل- يحمل مشروعه الخاص في تجديد المشهد المسرحي، ويبقى بحثه المسرحي المهم مستقرًا عند موضوعة الأثير في تقديم الفكر والتجريب المسرحي في إطار ممتع يحاول به التواصل مع الجمهور العام.

العصفوري كمبدع مسرحي مصري من طراز فريد، أصبح الآن- متعة الله بالصحة والسعادة- واحدًا من رموز مصر والوطن العربي المسرحية، منذ مشروعاته الباكرة في منتصف الستينيات وحتى الآن.

العصفوري المهني صاحب الخبرة التاريخية، عندما يبدأ عملًا مسرحيًا فهو يترك تلك الخبرات التاريخية وراء عقله الإبداعي، ويبدأ مغامرة جديدة يستمتع بها، ويكتشف مسارات جديدة غير مهتم كثيرًا بالتاريخ.

سمير العصفوري يقدم في عدد من العروض المسرحية الأخيرة على المشاركة في الكتابة، لأنه رجل مسرح متعدد الخبرات، فهو منتج فني و"دراما تورج" صانع دراما ومعلم تمثيل من طراز فريد، قادر على إعادة إنتاج النجوم في مشهدية جديدة، ويعرف كيف يفجر الطاقات الإبداعية الجديدة التي تعمل معه.

بدأ العصفوري مغامرته الفنية من إعادة كتابة (دراما تورجية) لمسرحية نعمان عاشور الكاتب الكبير "بير السلم"، وهي عن مشاعر أب غاضب من الأبناء الذين أنجبهم وجعلهم كبارًا، فتركهم وعاش بمفرده في غرفة أسفل السلم.

مشهد متكرر في أماكن وأزمة مختلفة في مصر وكل بلدان الدنيا.

إذ إن عقوق الأبناء مسألة واردة، وبقوة في تاريخ الأدب والمسرح منذ فجر التاريخ.

ولكن أحداثًا لا يمكن سردها بدقة، ولا أود التوقف عندها كثيرًا أدت إلى توقف هذا العمل الذي كان العصفوري قد أسماه "مورستان".

إلا أن إرادة العصفوري القوية وخبرته التاريخية بالتفاوض والتوافق وصناعة الحلول الممكنة مع مؤسسات الإنتاج المسرحي المصرية؛ أدت به إلى تجاوز التوقيف، وإعادة صياغة مسرحيته بالعودة إلى الأساطير والمسرحيات اليونانية القديمة، فقدم عن أجا ممنون الأب الأسطوري اليوناني المغدور على يد زوجته وعشيقها في يوم انتصاره وعودته من حرب طروادة.

هذا العمل، وفي تحليلي للدراما التي كتبها العصفوري من جديد لإعادة إطلاق عرضه القديم المتوقف والاستفادة من مفرداته الإنتاجية التي كانت قد أوشكت على الانتهاء، وحفاظًا على جهد الفنانين والمال العام؛ تمكن مع خبرته التاريخية في الذهاب لعالم درامي جديد، يتماس مع مشكلات الأسرة، وهي مشكلات تعانيها أسرة مصرية وأخرى في أماكن متعددة من عالمنا المعاصر، تعود لطبيعة الحداثة وما بعدها، والتي غيّرت من مفهوم الأسرة وسلطة الأب.

رؤية العصفوري في مسرحيته "في انتظار بابا"، التي هي إعادة صياغة لمسرحية "مورستان" التي توقفت، والتي كتبها مع الكاتب أيمن إسماعيل؛ رؤية إنسانية اجتماعية تعتمد على التحليل النفسي. العصفوري واحد من القلائل في مصر الذين يمارسون الارتجال مع الممثل داخل التدريبات، في إطار اكتشاف متعة الحرية، لكن هذه المغامرة في معظم تجاربه المسرحية تأخذه إلى ولع قديم دائم بالمحبطين المصريين الشعبيين: وهم أوائل الممثلين المرتجلين المصريين.

وهى طريقة تؤدي إلى صناعة الضحك الطازج المرتبط بالواقع الآني والمعاش، ولكن ضبط معيارها من أجل إيقاع وحبكة وبناء درامي متماسك يصبح بطبيعة الموضوع والمعالجة أمرًا يحتاج لقدرات كبيرة في ضبطه والسيطرة عليه، لكن في عالم سمير العصفوري بالتأكيد لا مجال للملل ولا لغياب البهجة، ولا للإمتاع والتسلية بطابع الذوق الرفيع، حتى إن جاء الفصل الأول في تقديري مهتمًا بمرحلة عرض جاءت مطولة جدًا عن هذه الأسرة وتاريخها وخلافاتها، إلا أن ذلك العرض الطويل قبل بداية التعقيد الدرامي في الفصل الثاني، ممتع لمهارات مجموعة من الممثلين المبهجين الذين شاركوا العصفوري مسرحيته الأخيرة.

الممثلة ذات الحضور الخاص في توافقها العضلي الصوتي، ومهارتها الواضحة في استعدادها البدني لأداء الاستعراضات الدرامية، والتي تعود متوهجة في بهجة خاصة الرائعة سماح أنور، والمسرحي المختلف الذي أصبح علامة مسرحية مصرية في تمثيل أدوار الشر ذات الطابع الساحر المسرحي المحترف راسخ القدم أحمد سلامة، والفنانة صاحبة الطريقة الخاصة في صناعة الضحك الفنانة انتصار، التي أشاعت حالة من المرح الخاص طوال العرض، والفنانة القديرة سميحة عبد الهادي، الإتقان والحضور والخبرة المسرحية، والإجادة الواضحة لنجم مسرحي متفرد يملك صوتًا مسرحيا رخيمًا، وضبطًا لأدواته التمثيلية، إنه ممثل مصري متفرد، وهو الفنان مفيد عاشور، هذا والعصفوري يطلق موهبته الممثل الموهوب الشاب ماهر إسماعيل، والفنان علي كمالو، في بهجته الغنائية المسرحية، والموهبة صاحبة الجاذبية الخاصة بسمة شوقي.

في مناظر بسيطة هي قطع صغيرة متناثرة تسمح للفراغ المسرحي بالتنفس، للمهندس إيهاب العوامري، وملابس معاصرة في معظمها لأماني حسني، أما ألحان وموسيقى أحمد الناصر فهي تبدو بطابعها المسرحي وصياغتها اللحنية هي الرابط الجماهيري الواضح بين الصياغة الحنية المبتكرة والرشيقة معا، وهو صوت موسيقي مصري قادم يمكن أن ننتظر منه الكثير في الأعمال الدرامية والمسرحية، وأيضا تأتي استعراضات ضياء شفيق ببساطتها الأنيقة ودراميتها وتناسبها مع قدرات الممثلين على الرقص التعبيري الدرامي، كعنصر جوهري مصاحب لحركة المخرج المسرحية.

وإن جاءت الصور المصاحبة على الشاشة الخلفية وفي معظمها تعود لأفلام التحريك بعيدة عن تفسير المشاهد الدرامية أو الإيحاء بمعنى مصاحب، وربما كانت معطلة لحيوية المشاهد المتلاحقة ذات الطابع الإيقاعي السريع.

العرض تدور أحداثه عن السيد ضياء أبو شمعة، كما يوضح المخرج في خطابه المباشر للجمهور على لسان شخصيته الأستاذ، وهو المقابل المعاصر لشخصية أجا ممنون، العصفوري يعرض لأسرة متناحرة يكره فيها الأخ أخته ويحاول الاستيلاء على كافة الأموال والأملاك التي صنعها الأب الغائب، وتكافح أخته ضد رغباته، وإن كانت تعاني صدمة مركبة، هي حبها المفرط لأبيها "في التماس مع عقدة إلكترا عند المحلل النفسي الأشهر سيجموند فرويد"، وخيانة خطيبها لها مع والدتها الثرية، فقد تقدم لخطبتها حتى يصبح قريبًا من أمها، وهي صدمة قاسية جدًا، فما أفجع أن تشعر الابنة بخيانة حبيبها وزوجها المنتظر مع أمها، هنا يعجز الانتقام، ويتوقف العالم أمام صدمة ليس لها حل إلا الجنون أو النسيان، وحقيقة الأمر أن هذه الحالة الاستثنائية المخيفة في عالم الخيانة، الأم مع خطيب الابنة هي إضافة العصفوري الحقيقية الجديدة في عالم المسرح، وهي معالجة صادمة لظاهرة إنسانية متكررة، تجاهل الكثير من المبدعين معالجتها لقسوتها البالغة، خاصة في مجتمع يحمل ثقافة شرقية معاصرة.

العصفوري يعرض لنا أسرة مفككة تحتاج للسلام والتفاهم وإعادة الصياغة لكل علاقتها التاريخية، لأسرة تحتاج لاستعادة إنسانيتها، العصفوري مدهش في بحثه عن هدوء وتماسك الأسرة، العصفوري يبحث عن الحب، وإن قدم لنا عالمًا صادمًا شديد القسوة.

وتبقى تلك المسرحية "في انتظار بابا" واحدة من إشراقات سمير العصفوري، الرمز المسرحي المصري الكبير، المغامر الشاب المبهج في العام الثاني بعد الثمانين من عمره المديد الثري بالإبداع والمغامرة.  

تم نسخ الرابط