"ما كُتِبَ سوفَ يكونُ" حاولت، وأنا أدخل المكتب، أن أستسلم لهذه الكلمات "القدرية"، التي نستذكرها كلما أَلَمَّ بِنا ما يجعلنا نسرف في لوم وتحميل "القدر" فيما وصلنا إليه من ملمات، وأزمات مادية ونفسانية.
وما وصلت إليه في غربتي في البلاد الغريبة كان قاسيًا، ممضًا ومؤلمًا.. فقد وجدت نفسي بلا عملٍ ولا دخلٍ، أتجرع الكأس المُرَّة وحدي، أبعدها عن عائلتي الصغيرة، أكتم قلقي واضطرابي، وأطوي جرحي في قلبي، وأتجلد بالصبر على الضيم.
ولقد برحت بي الحاجة، فأقساط المدارس على الأبواب، وتأمين مصاريف البيت لإكمال دورة الحياة في غربة لا ترحم، يَلِح عليّ ويضغط.
وكأن ذلك كله لا يكفي، حتى وجدت نفسي أمام مشكلة سداد إيجار المكتب، فحسب بنود القانون الإنجليزي المُنَظِّم لعلاقة المؤجر والمستأجر، فإن الموّقِع على عقد الإيجار مُلزَم بتطبيق بنوده، وما اقتضاه من مبلغ شهري هو "بدل الإيجار"، إضافة إلى مستلزمات الصيانة التي يتحمل تكاليفها المستأجرون بالتساوي.
وكوني الموّقِع بالإنابة عن "دار روزاليوسف" التي يعتبرها القانون "كيانًا معنويًا"، أصبح من المحتم اللازم عليّ تحمل النفقات كافة، وتنفيذ ما جاء في عقد الإيجار المُبرَم ومدته سنوات أربع. وفي حال فسخ العقد والتخلي عن المكان، فإنه عليّ إنذار المؤجر بذلك، ومنحه مهلة أربعة أشهر، عليّ خلالها متابعة تسديد الإيجار شهريًا.
غلى الدم في رأسي وفار. حرت من أين أتدبر ما يُسعف، على الأقل سداد إيجار المكتب، ناهيك عن المستلزمات الحياتية الأخرى.
نفضت اليأس، وقررت مواجهة الأزمة الخانقة، ورحت أفكر في هدأة، وبذهن صافٍ أحتسب خطواتي، أتغلب على قلقي وتوجسي، وشيئًا فشيئًا رحت أتحرر من خوفي من عتمة المجهول، فتمكنت من استعادة زمام الأمور.
حاولت الاستفادة من شبكة علاقاتي، لعلي أجد فيمن عرفت ووثقت، فرصة عمل أو من يسعف بمشورة، أو يفتح طاقة في الحائط المسدود.
وحدث أنني كنت أقرأ، في بعض الأيام، جريدة "فايننشيال تايمز"Financial Times التي لم تغير لون ورقها الزهري ولا لون حبرها، ولا تخلت عن رصانتها؛ مقالًا عن "الوافدين العرب" إلى بريطانيا، وأن لندن بدأت تتفوق على باريس، في إقبال العرب عليها.
واحتسبت الجريدة ما يُدخلُ هؤلاء إلى السوق البريطانية.. وفي جداء الحساب، تبين لها أن بين الوافدين العرب بعض الموسرين، الذين راحوا يستثمرون ما عندهم في بيوت مالهم في المجالات التجارية والمالية والاستثمارية شتى، فاستفادت منهم المصارف والشركات التجارية والمالية، وطبعًا خزينة الدولة من جباية الضرائب.
وعرجت "فايننشيال تايمز" في كلامها على "الصحافة المهاجرة"،التي حملت مطبوعاتها إلى لندن. وتلك الهجرة "المُرغَمة"، كما وصفتها الجريدة، حدثت بعدما رقصت بيروت، مثل سدوم وعمورة، رقصة الموت، وحرقت نفسها أم حرّوقها، انتحرت أم نحروها. هي التي كانت قبل سنة 1975 موئل الفكر الحر، وملجأ المفكرين والمثقفين.
ولقد سبقت باريس جارتها لندن في استقبال الصحافة اللبنانية، ثم بعدها العربية، ففتحت صدرها أولًا لمجلة "الدستور"، ثم لمجلة "الوطن العربي" التي ولدت من رحم جريدة "المحرر". وبعدها، حمل نبيل خوري إليها امتياز مجلة "المستقبل" التي اشتراها له المتمول الفلسطيني فيصل أبو خضرا، من هنري إده، الوزير السابق في حكومة الشباب التي شكلها صائب سلام، وكانت أولى حكومات عهد سليمان فرنجية.
أما لندن فقد صدرت فيها أولًا مجلةEvents الشقيقة الإنجليزية لمجلة "الحوادث" التي هاجرت بدورها من "عين الرمانة" إلى "هارينجتون جاردن" في قلب لندن.
وجاء "البترو– دولار" السعودي، فكانت "جريدة الشرق الأوسط" وما تبعها من مجلات.
ولهجرة الصحافة اللبنانية، ثم بعدها العربية إلى لندن وأسبابها وأثرها وتأثيرها، مقامات رأي وتحليل، ليس هنا منفسح للتوسع فيها، وستأتي الاستفاضة عنها فيما بعد.
كان الليل في تلك الليلة ميتًا، يقطر سوادًا وشحيح الضوء، لفّ مدينة "كرويدن" حيث بيتنا، بجلبابه.
لم يغادرني ما قرأت في "فايننشيال تايمز"، دارت الكلمات في ذهني، توقفت عند بعضها، راوغتني الأفكار، تأتي إلى ذهني عجلى ثم تتلاشى، وتفسح المجال لغيرها، لتتناطح معها.
ومن غامض علم الله، ومض خاطر في ذهني:
الصحافة تُكتب بالأحرف، والأحرف بحاجة إلى "تنضيد"، والتنضيد ما عاد يجمع الأحرف بالأصابع، ويسّتف في عواميد من الرصاص، فلقد دخل الحرف على الآلة، والآلة على الصحافة.
ماذا لو حوّلت مكتب "روزاليوسف" المُجبر على سداد إيجاره، إلى محتَرف للتنضيد والترجمة، وكل الخدمات التي تحتاجها المطبوعة العربية في بلاد الإنجليز.. خصوصًا أن المطابع البريطانية لم تكن تعرفت بعد على اللغة العربية، وأن المطبوعة العربية تفتح صفحاتها من اليمين إلى الشمال، عكس المطبوعة الأجنبية.. ولم تكن تلك المطابع أيضًا تعرفت على أحرف الطباعة العربية، على الرغم من أن الشركات التي أنتجت "مونو تايب" Monotype و"لاينوتايب"Linotype و"إنترتايب" Intertype هي في الأصل بريطانية.
وكانت البدايات في السوق العربية تقليد "الخط الأميري" وتعديله ليناسب تلك الآلات في حقبة الطباعة بشرائط المعدن المسبوك، وهو خط "لوتوس لاينوتايب" Lotus Linotype عن تلك الخطوط الأصلية.
وأخذت الفكرة تترسخ في ذهني، كانت الحكومات البريطانية المتعاقبة، تشجع المبادرة الفردية في بدء نشاط تجاري في بريطانيا، وتسهل لهم الإجراءات، شريطة أن بكون الراغب قد أعد دراسة جدوىFeasibility Study دَرَس فيها السوق، وحلّل فيها أيضًا مدى قابلية المشروع للنجاح، ومدى ديمومته واستمراره.
وتلك السياسة حققت اليوم تواجد ستة ملايين شركة في القطاع الخاص، وفقًا للإحصائيات الرسمية.
وقتها كان المطلوب اختيار اسم الشركة وتحديد وضعها: شركة مساهمة، أم محدودة المسؤولية Limited وهذا النوع من الشركات واسع الخدمات، فاخترتها.
وما عليك سوى رفع طلب إنشاء الشركة إلى "مركز تسجيل الشركات" Companies House مرفقًا بالرسوم المطلوبة (كانت في ذياك الزمن جنيهًا استرلينيًا واحدًا، أصبح في هذه الأيام 300 جنيه استرليني) فيعكف المسؤولون فيه على دراسة الطلب، والتأكد من أن اسم الشركة ليس متداولًا، وليس له صنو في لائحة الشركات المسجلة.. بعدها، يُصدر المركز شهادة تسمح لك ببدء العمل ومزاولة النشاط، وإذا ما نجحت الفكرة، يمكن تحويل الشركة إلى شركة عامة وتداول أسهمها بين عامة الناس إذا رغبت في هذا.
اخترت شريكة حياتي لمشاركتي في مشروعي الجديد، وأسميت الشركة "مركز مودي للترجمة والتنضيد الطباعي"Moody Translation and Typesetting Center وأصبح للمشروع شكل قانوني وبقي اختيار وشراء آلات الصف، كان "التنضيد" الضوئي أو "الجمع التصويري"Phototype Composition بدأ ينتشر، وقد حل مكان التنضيد الآلي بتجهيز الحروف المعدنية بالسبك الحراري.
وأصبح المطلوب أثناء عملية التنضيد هو شريط من شريحة فيلمية سالبة، مصور فيها كل أشكال الحروف لطراز من الأطرزة، وعند إسقاط شعاع ضوئي على الحرف المطلوب من خلال عدسة، يتأثر السطح الفيلمي أو الورقي الفوتوغرافي، وبعد عملية التظهير تنطبع الصورة الموجبة لأشكال الحروف المصفوفة.
كان من المهم اختيار الآلة المناسبة للأحرف العربية الجميلة التي تلائم الصحف والمجلات، فلكل شركة أحرف مصممة خصيصًا لها، تتميز بها لدرجة أن الحرف يسمى باسم الآلة المنتجة من الشركات الثلاث.
إن تطوير الحرف العربي الطباعي وملاءمته للمطبوعات العربية المختلفة بدأ عام 1965، عندما صمّم اللبناني نبيه جارودي "خط ياقوت" للاستخدام على آلاتLinotype للصب المعدني، فمع ازدهار الصحافة اللبنانية في الخمسينيات من القرن الماضي، برزت الحاجة إلى خطوط مبسطة تسرع من عملية التنضيد.
ودعمت جريدة "الحياة" اللبنانية نبيل جارودي لتطوير ما يعرف بالخط العربي المبسط، الذي يعتمد طريقة الآلة الكاتبة في اختصار الأشكال المطلوبة لطباعة الخط العربي إلى "محرفين" بدلًا من" المحارف العديدة"، وأُطلق على الخط الجديد اسم "ياقوت" تيمُنا بالخطاط العربي ياقوت الحموي، ومن ثم قامت الشركة بتحويل التصميم إلى التنضيد الضوئي ثم إلى خط رقمي فيما بعد.
بدأت مرحلة البحث والتحري والحصول على عروض أسعار شراء من الشركات المصنعة لأصطدم بالواقع: أسعار تربو على خمسة وعشرين ألف جنيه استرليني، وهو رقم يفوق التوقعات والخيال، لا أملك منه شيئًا.
أسقط بيدي وخشيت أن تتحول الفكرة إلى حلم يقظة بدوافعه ورغباته وأمانيه أسعى إليه، وينتهي بصدمة ويموت الحلم في البرعم، لكن إيماني بمقولة الكاتبة الفرنسية جورج صاند:
" إذا لم أجد طريقي في الأرض المعبدة، فإني سأقتحم القمم الصخرية الشاهقة من دون تذمر، لأنني أعلم أن كل جهد يتضمن في ذاته الجزاء الكافي عنه.. وأن الآفاق الواسعة تنتظرني في آخر الطريق".
قررت أن أتخذ من هذه المقولة سراجًا يضئ لي الطريق، وخير نبراس في احتكار الدياجي.



