الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

مسميات شمال إفريقيا

د. إبراهيم محمد مرجونة
د. إبراهيم محمد مرجونة

تقع شمال إفريقيا إلى الجنوب من أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وإلى الشمال من الغابات المدارية المطيرة، وتشمل شمال إفريقيا المغرب والجزائر وتونس وليبيا، والقسم الذي يقع غرب قناة السويس في مصر، وكذلك الصحراء الكبرى الإفريقية، وجبال أطلس.

 

وحظي موضوع التسمية التي أطلقت على سكان شمال إفريقيا خلال الفترة القديمة باهتمام كبير في الأبحاث التاريخية، وذلك راجع لتنوع التسميات عبر التاريخ، وكان للعامل الأجنبي فيها دور مؤثر، وهو ما يعقد البحث في الموضوع، ويضاف إلى ذلك غياب وثائق محلية من شأنها المساعدة على تسليط الضوء على التسمية القومية الموحدة.

 

1 – ليبيون:

أورد عبد اللطيف الركيك، الكاتب والباحث، أن أول ظهور لسكان شمال إفريقيا كان (الليبيون) وذلك خلال الفترة القديمة الكلاسيكية (القرنين 5 و4 ق.م)، واستعمله الكتاب الإغريق للإشارة إلى سكان قارة ليبيا، والمقصود بذلك حسب تصورات الجغرافيين الإغريق آنذاك، منطقة شمال إفريقيا. 

 

لقد أطلق الإغريق تلك التسمية على مجموع القبائل التي كانت تستوطن المناطق الساحلية لشمال إفريقيا القديم، رغم اختلاف أسمائها وعاداتها وتقاليدها. وذلك من الحدود مع مصر شرقا إلى السواحل الأطلسية غربا. 

 

وقد أشار هيرودوتوس إلى أن قارة ليبيا تمتد من حيث تنتهى مصر الغربية إلى أعمدة هرقل بالساحل الأطلسي، وذكر المجموعات البشرية التي كانت تستوطن على امتداد هذه المنطقة، وكلها تنتمى إلى أرومة واحدة (Herodote,Histoire,IV,186,187).

 

ويلاحظ بأن هيرودوت أقحم سكان الواحات والصحراء ضمن نفس الجنس الليبي، مثل الآمونيين والكرامنت.

 

غير أن هذه التسمية (ليبيون) سرعان ما أخذت في الانكماش في استعمالات الكتاب القدامى، لا سيما منذ القرن 3 ق.م، تاريخ بداية الحروب البونية، وظهور الممالك المحلية. 

 

وتجدر الإشارة إلى أن الممالك المحلية بشمال إفريقيا القديم لم تنشأ على ما يبدو فقط منذ القرن 3 ق.م، وإنما ظهرت على سطح الأحداث منذ تلك الفترة، وأصبحت المعلومات وافرة حولها، خاصة في المصادر اللاتينية بسبب تسليط نور التاريخ على المنطقة، نتيجة تأريخ اللاتينيين لحروبهم ضد القرطاجيين، ولا يستبعد بأن هذه الممالك قد نشأت منذ فترات أقدم لكننا لا نعلم عنها شيئًا بسبب غياب الوثائق المحلية.

 

إذن فإنه منذ القرن 3 ق.م لم تعد تسمية “ليبيين” تطلق على مجموع شمال إفريقيا القديم، وإنما أصبحت تعني الساكنة المحلية الخاضعة لقرطاج، فضلًا على ليبيين مستقلين بالجزء الشرقي لشمال إفريقيا القديم. 

 

ومنذئذ شرع الكتاب اللاتينيون في استعمال تسميات مرتبطة إما بالكيانات السياسية التي وجدت بالمنطقة خلال فترة الحروب البونية، مثل النوميديين والموريين، وإما بكونفدراليات القبائل المحلية مثل الماسول والماسيسول، وإما بالقبائل التي استوطنت المجال بما في ذلك قبائل الهوامش الجنوبية للصحراء. 

 

كما وردت تسميات “ليبيون” و”ليبيا” عند كتاب آخرين أمثال هوميروس وسكيلاكس المزعوم، وسالوست، وبوليبيوس، واسترابون، وديودورس الصقلى، وبلين الأقدم، وفرجيل، والجغرافي بطلميوس، وبروكوبيوس القيصري، وكوريبوس، وذلك على مدى فترة زمنية تغطي بوجه عام ما بين القرن 4 ق.م إلى غاية القرن السادس الميلادي.

 

واستعمل الكتاب اللاتينيون أيضًا تسميات أخرى للإشارة إلى سكان شمال إفريقيا القديم خلال فترة الحروب البونية، مثل تسمية “أفارقة” التي أطلقت تارة على المحليين الخاضعين لقرطاج، وتارة أخرى على القرطاجيين أنفسهم، واتسع مدلول التسمية في أحيان أخرى ليعني مجموع ساكنة شمال إفريقيا. 

 

فهل وجدت تسمية محلية أطلقها مجموع سكان شمال إفريقيا على أنفسهم بحكم قوة الروابط الحضارية بين قبائل المنطقة؟ أم أن سكان المنطقة قد اكتفوا باستعمال أسماء القبائل والمجموعات البشرية الكبرى؟ وهل التسميات التي استعملها الكتاب الإغريق واللاتينيون كانت مستعملة ومعروفة ومتداولة من طرف السكان المحليين بشمال إفريقيا القديم؟

 

في غياب الوثائق المحلية تبقى المسألة غيبًا من الغيوب، إن أكثر ما يعرقل تطور البحث في تاريخ شمال إفريقيا القديم هو الثغرة المرتبطة بغياب الوثائق المحلية التي تعكس نظرة المحليين لتاريخهم، بالنسبة للأصل المحلي للتسمية التي استعملها الإغريق، ونعني بذلك “الليبيون”، فهي تبقى عرضة للانتقاد باعتبار أن إطلاق الإغريق لتسميات من لغاتهم على الشعوب التي تعرفوا عليها أمر مألوف عندهم، وهم يقرنون تلك التسميات بصفات وعادات وطبائع تلك الشعوب أو ببعض الأمور المشهورة عندهم، وأحيانًا انطلاقًا من ما ورد في الميثولوجيا الإغريقية عن المجالات الجغرافية لتلك الشعوب. 

 

وهذا ما يطرح الشك في كون تلك التسميات كانت مستعملة بالفعل من طرف تلك الشعوب، وهذا ينسحب أيضا على سكان شمال إفريقيا القديم.

 

وحاول البعض إيجاد أصل محلي للتسميات التي أطلقها الإغريق واللاتينيون على ساكنة شمال إفريقيا القديم، وبالنسبة لتسمية “ليبيون”، فقد بحث بعض المؤرخين في الوثائق المصرية العائدة إلى ما قبل الأسرات وبداية الأسرات (الألف الثالث ق.م) عن أصل محلي لتسمية “ليبيين”، وذلك من خلال الرسوم والنقوش المصرية لسكان شمال إفريقيا، أو من خلال الأوصاف الخارجية لهؤلاء السكان، بالإضافة إلى نقائش كتابية تتضمن تسميات يعتقد بأن المصريين أطلقوها على هؤلاء السكان مثل “التحنو” و”التمحو” و”المشوش”، ومنذ فترة الدولة الحديثة من تاريخ مصر القديم أصبحت جميع المناطق التي تقع إلى الغرب من مصر تعرف عند المصريين باسم “الليبو” و”الريبو”. 

 

وهناك من يرى بأن الإغريق قد أخذوا تسمية “ليبيين” عن المصريين الذين أخذوها بدورهم عن سكان شمال إفريقيا الذين ارتبطوا بهم بعلاقات جد قديمة. 

 

بيد أنه لا شيء يؤكد بالفعل بأن التسمية التي استعملها المصريون ونقلها الإغريق فيما بعد كانت هي الاسم القومي الذي أطلقه سكان شمال إفريقيا القديم على أنفسهم، باعتبار أن الأمر يتعلق بوثائق أجنبية، إضافة إلى غيابها في الوثائق المحلية على قلتها.

 

2- أفارقة:

بحث البعض الآخر عن اسم محلي لساكنة شمال إفريقيا القديم من خلال جذر في اللغة الأمازيغية الحديثة، هو “إفري” واعتباره أصلا لتسمية “أفارقة” التي أطلقها الرومان على سكان المنطقة، ومعلوم بأن التسمية استعملها الرومان منذ فترة الحرب البونية للإشارة إلى السكان الليبيين الخاضعين لحكم قرطاج، وأحيانا تتسع التسمية في استعمالات الكتاب اللاتينيين لتشمل القرطاجيين وكل من يتبع لهم. بيد أن العلاقة بين كلمة “إفري” وتسمية أفارقة تبقى افتراضية لأن باحثين أخرين أوجدوا لكلمة “إفري” أصولًا في لغات أخرى مثل الفينيقية، والمصرية، والإغريقية، واللاتينية، كما أنه لا يوجد ما يدل على أنها كانت مستعملة بالفعل من طرف السكان المحليين.

 

3- أمازيغ:

من بين التسميات المحلية لساكنة المنطقة نجد “أمازيغ”، وهي التسمية الأكثر شيوعًا باعتبارها الاسم القومي الوحيد الذي يمكن إطلاقه على سكان شمال إفريقيا في مختلف العصور، لكن مسألة أصل استعمال ساكنة المنطقة لهذه التسمية يبقى محل نقاش علمي تصدى له الكثير من الباحثين دون أن يقع إحراز تقدم كبير لجهة معرفة أصل استعمال التسمية خلال الفترة القديمة التي تعنينا في هذه المقالة. 

 

وقد ترافق البحث في أصل الكلمة ومدى قدمها مع جدل مطبوع بسيطرة العاطفة وردود الفعل على حساب البحث العلمي الرصين والموضوعية العلمية، وانطلق بعض الباحثين للتنقيب عن قدم تسمية “أمازيغ” من أسماء القبائل والمجموعات البشرية الشمال إفريقية التي وردت في المصادر المصرية والإغريقية واللاتينية. 

 

ومنذ ذلك اسم “المشواش” الذي ورد في الوثائق المصرية، إضافة إلى أسماء بعض القبائل الواردة في النصوص الإغريقية واللاتينية مثل مازيس، وماكسيس، ومازاكس، ومازيكس، ومازاسيس، فضلًا عن أسماء كونفدراليات قبلية كبرى مثل الماسول والماسيسول وغيرها. 

 

وذلك على أساس أن تلك التسميات التي استعملها الأجانب تمثل مجرد تحريف في نطق الاسم الأصلي الذي هو “أمازيغ”.

 

لعل الأمر يتعلق بفرضية باتت تحظى بالكثير من التأييد، وهذا التوجه يغري بتعميق البحث في علاقة تلك التسميات القديمة بتسمية “أمازيغ” التي ظهرت خلال العصر الوسيط (“مازيغ” عند ابن خلدون)، وترسخت أكثر في التاريخ المعاصر، ولعلها استعملت منذ فترة أقدم نجهلها بحكم أن تسمية “بربر” هي تسمية دخيلة، ولم يطلقها سكان شمال إفريقيا القديم على أنفسهم. 

 

ولعل ما يلفت انتباه الباحثين في أصل هذه التسمية هو اتفاق مجموع ساكنة شمال إفريقيا على تسمية أنفسهم بـ”الأمازيغ”، الشيء الذي يعني بشكل لا غبار عليه بأنه خلال فترة من الفترات، ورغم افتقاد الوحدة السياسية، كانت هذه الساكنة التي تنتمي إلى غور ثقافي وحضاري واحد، تستشعر وحدة الانتماء القومي من خلال تبني اسم “أمازيغ” الذي بقي صامدًا رغم جميع التحولات الحضارية التي شهدتها منطقة شمال إفريقيا القديم.

 

إن وجود اسم قومي جامع لسكان شمال إفريقيا القديم أمر مؤكد، غير أننا نجهل، إذا نحن توخينا الموضوعية في هذا الجانب، تاريخ بداية استعمال هذه التسمية، ذلك أن الربط بين تسمية “أمازيغ” والتسميات القديمة الذي ذكرت في المصادر الأجنبية يبقى هشا ولا يحسم المسألة، وذلك باعتبار أن جميع تلك التسميات أطلقها المصريون والإغريق والرومان على أسماء قبائل بعينها ووقع تحديد مجال انتشارها بالضبط، ما يعني بأن الأمر يتعلق بأسماء قبائل، فلو كان الإغريق والرومان يعلمون بوجود اسم قومي لساكنة شمال إفريقيا القديم لما استعملوا أسماء مشتقة من لغاتهم مثل “الليبيين” و”الأفارقة”، وغير ذلك. 

 

كما أن إرجاع تسمية “أمازيغ” إلى الفترة القديمة يتناقض مع اعتبار تسمية “ليبيين” التي استعملها الأجانب، بمثابة تسمية محلية هي الأخرى، ما يعني وجود أمة بتسميتين مختلفتين.

 

4- التسمية وعائق غياب الوثائق المحلية:

وكما رأينا أعلاه، فقد تفرق الباحثون في أصل التسميات التي عرضنا مللا منحلا، بحيث لا يكادون يتفقون على شيء بهذا الخصوص، إذ يحاول كل فريق الانتصار لتسمية معينة وربطها أكثر من غيرها بسكان المنطقة منذ الفترة القديمة. بيد أن تحكيم المقاربة العلمية الصارمة يفضي إلى اعتبار جميع النظريات كمجرد اجتهادات غير مكتملة ومبنية على اشتقاقات لغوية غير موثوق بصحتها، وتحركها في الكثير من الأحيان الرغبة في حيازة السبق العلمي وامتلاك قصب السبق في فك ألغاز موضوع معقد، أو تحكمها العاطفة في أحيان أخرى. الأمر الذي غذى تراشقا متبادلا بين فريقين يزعم كل منهما الموضوعية ويلقي على الآخر تهمة الذاتية والانحياز، وهي اللوثة المعدية التي أصابت البحث التاريخي في مقتل.

 

وبذلك، فإن البحث في هذه الإشكالية لم يراوح مكانه بعد، ولا يمكن لأي فريق الادعاء بترجيح كفة تسمية على حساب أخرى في حدود المعطيات الحالية للبحث، ولعل ربط الاستنتاجات في هذا الموضوع بحدود المعطيات الحالية للبحث وترك الأمر معلقا إلى حين توفر معطيات جديدة أفضل بكثير من الهرولة لحسم الموقف دون امتلاك أدلة كافية. 

 

ليبقى غياب المصادر والوثائق المحلية التي تؤرخ لتاريخ ساكنة شمال إفريقيا القديم بمثابة حاجز يحول دون فك ألغاز التسميات التي أطلقت على ساكنة المنطقة في المصادر الأجنبية، فهل وجدت هذه الوثائق بالفعل ثم ضاعت لسبب من الأسباب؟

 

مما لا شك فيه أنه وجدت بالفعل تأليفات محلية دونها سكان شمال إفريقيا القديم منذ الفترة القرطاجية على الأقل، فالمصادر الأجنبية نفسها تشير إلى إحراق الرومان لمكتبة قرطاج بما تحويه من تأليف أثناء سيطرتهم على المدينة سنة 146 ق.م. 

 

كما تتحدث عن “الكتب البونية” التي تسلمها الملك النوميدي هيمبسال، وهنالك إشارات لتأليف دونها الملوك المحليون مثل يوبا الثاني، فضلا على تأليف أنتجها المفكرون القرطاجيون مثل تأليف عالم الزراعة ماغون. 

 

كما عرفت الفترة القديمة بروز علماء ومفكرين محليين دونوا تأليف بمختلف اللغات رغم أنهم حملوا أسماء رومانية، أمثال لوكيوس أبوليوس والقديس أوغسطينوس والقـس دوناتوس.. إلخ، وهذه الوثائق المحلية التي تعكس وجهة نظر محلية لتاريخ سكان شمال إفريقيا القديم ضاعت كلها ولم يعثر لها على أثر أو اقتباسات في النصوص الإغريقية واللاتينية. 

 

وبهذا تبقى تيمة “المحلي” في تاريخ المنطقة وعبر العصور غائبة في الكتابة التاريخية مادام هذا التاريخ كتب خلال الفترة القديمة من طرف أجانب عن حضارة المنطقة، وازداد يُتم التاريخ “المحلي” في تاريخنا المعاصر مع تصدي الأجانب للبحث في قضاياه خلال الفترة الاستعمارية للمنطقة.

 

وأخيرًا: بناء على ما سبق، نجد أنفسنا أمام حائطي صد منيعين يحولان دون تطوير البحث في إشكالية التسمية التي كانت متداولة خلال الفترة القديمة، فمن جهة هنالك عائق النصوص الإغريقية واللاتينية التي لا تزيد الموضوع إلا غموضًا. 

 

ومن جهة ثانية هنالك النظريات التي صاغها المؤرخون الأجانب التي وجهت البحث في الموضوع نحو متاهات كثيرة، وبذلك لا يتبقى أمام الباحث سوى واحد من خيارين، فإما تصديق روايات الكتاب الإغريق واللاتينيون واعتماد التسميات التي أطلقوها على سكان المنطقة، علمًا بأنها مصادر أجنبية وتعكس نظرات معينة للمنطقة وسكانها وحضارتها، وإما الارتماء في أحضان النظريات التي خلفتها حقبة الكتابة التاريخية الكلونيالية مع ما تحبل به من أحكام لا تختلف كثيرا عن تلك التي تبناها الإغريق والرومان، ويمكن الاستخلاص بصرف النظر عن هذه العوائق، بأنه لا يوجد دليل مؤكد أن التسميات التي أطلقت على ساكنة المنطقة خلال الفترة القديمة كانت معروفة ومتداولة من طرف الساكنة المحلية بشمال إفريقيا القديم، ولا يوجد ما يدل على استعمال اسم قومي خلال هذه الحقبة من تاريخ المنطقة، حيث غلبت أسماء القبال والمجموعات البشرية. 

 

إن التسمية الوحيدة الذي يمكن اعتبارها تسمية قومية موحدة لساكنة المنطقة هي تسمية “أمازيغ” التي ظهرت خلال فترة نجهلها، ولكن لا شيء يدفعنا لتأكيد استعمال هذه التسمية خلال الفترة القديمة.  

 

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية  

تم نسخ الرابط