الليل في الخارج يبدو حانيًا، يحمل معه نهايات النجوم، وينسكب ضوء القمر ويتوهج.
سَرَحت بعيني في المدى الأسود، جافاني النوم، بقيت أرقًا، مسهدًا، مسكونًا بالهواجس والخوف من الآتيات من الأيام في البلد الغريب.
حاولت في تلك الليلة أن أقرأ، علّني أريح ذهني من الصور السود، المتزاحمة والمتلاطمة فيه. فتحت كتابًا، ما عدت أذكر عنوانه، ولا اسم كاتبه، ولا حتى شكله. كل ما بعد أذكر، أن الأحرف كانت تتمايل وتتلوى على الأسطر الملزوزة، التي تكرج في الصفحات عجلى.
أرحت عيني، أغمضتهما هنيهات، طويت دفة الكتاب، كَرَّ في ذهني شريط صور. استسلمت لأفكاري، وما كان فيه أمسي، وما أنا في يومي القلق. فلقد دار الزمان، والزمان دوار، لا يحفظ الأسرار والموّدات، ولا يترك حالة على حالها.
وبعدما كنت بدأت أشق طريقًا تهون عليَّ غربتي الثانية، وأنجح فيما انتدبت لتحقيقه في عاصمة الضباب والبرد، وأطمئن لاستقرار عائلتي الصغيرة في البلاد الغريبة، فإذا بي أجد نفسي مكسور الخاطر، مكدود النفس، بلا عمل ولا دخل، أنفق مما كنت ادخرت لسداد إيجار مكتب كان لدار "روزاليوسف".
وعندما وجدت مخرجًا للضائقة والمعاناة التي أعيشها في “محترف للترجمة والخدمات الطباعية”، وجدت أنني استنزفت ما ادخرت، وبالكاد الباقي يفي بالكفاف في غربة لا ترحم.
وأصبحت لا أملك من المال ما يمكنني من وضع ميزانية لتجهيز المحترف من المطلوب من الآلات، عدا مستلزمات أخرى ليس أقلها ميزانية رواتب الجهاز المطلوب، وما أملت أن يكون "الفرج" من الضنى والضنك اندثر وضاع.
ورحت أتلفت من حولي، علني أجد من يمد لي يدًا ويساعدني، وينتشلني من الُلجة الطامية، في تلك اللحظات، أدركت كم يحتاج واحدنا إلى صديق يصدقه القول والفعل، يقرأ مشاعرك، فتبوح له بمكتومات صدرك، فيواسي، ويسلو، ويشّد الأزر في الغربة القاسية.. من إجادات وممتعات الكاتب اللبناني أمين نخلة (ابن رشيد نخلة ناظم النشيد الوطني اللبناني) وقوله: "من يظن أن التوفيق في الحياة يقوم على الذكاء، لا غير، فقد فال رأيه" وكم كان على صواب.

وصلني صوت هشام العيسوي، موشى باللهفة، شكل أحرف كلماته بإحساسه وحدبه، وهو يتسقط أسباب غيابي عنه، وتخلفي عن اللقاء اليومي في مكتب عيادته لطب الأسنان في "94 هارلي ستريت" Harley Street العريق في قلب لندن، (وهو شارع يضم عيادات أشهر الأطباء وأهم المستشفيات في العالم)، واتصاله بي، المباغت، يومها، كان نفحة أمل في لحظات اليأس، في زمن شاهت فيه الوجوه، وساد العقوق والجحود.
عندما استقر بي المقام في لندن، باغته ذات صباح باتصال، ادعيت فيه أنني أعاني من آلام مبرحة في أسناني، ولن أقوى على الحضور إلى عيادته، ورجوته أن يأتيني إلى البيت للكشف والإسعاف. ولم يتردد، ليتفاجأ، بأنني، المريض المتلهف لرؤيته... يومها، استحضرنا ماضي ما كان من أيامنا، فصداقتنا، تطاولت على الزمن، وتوثقت مع الأيام وترسخت.
عرفته، يوم كان في سنوات دراسته الأخيرة، في كلية طب الأسنان في "قصر العيني"، أطاع ميله للكتابة القصة القصيرة، متأثرًا بالدكتور يوسف إدريس، الذي كان صرف تسع سنوات في ممارسة الطب في "مستشفى قصر العيني"، ليتخصص بعدها في "الطب النفساني"، ويمضي بعدها عشر سنوات في وزارة الصحة.
وأغواه القلم الى الكتابة، فأجاد، وبرز في كتابة القصة القصيرة، التي راح ينشر بعضها في جريدة "المصري"، ثم "روزاليوسف"، وبعد حوالي عشرين سنة، ترك السماعة والتقط القلم، كاتبًا متميزًا في جريدة "الجمهورية".
وعلى خطى يوسف إدريس، حاول هشام العيسوي أن يمشي دربه، قدمه لي لويس جريس، عندما كان مشرفًا على باب "حكاية" (الذي كان يتصدر صفحات مجلة "صباح الخير"، ويطبع على ورق "الافيش" الملون)، كما يكتب القصة القصيرة.
والحقيقة أن هشام العيسوي، كان يقبل على الكتابة إقبال الملهمين، أليف كلمة، يتعامل معها بألق، وفي كتاباته عاطفة مشبوبة، صادقة، في بيان سائغ، مصقول، عبارته في قصصه التي كان ينشرها، جزلة اللغة لطيفة التصوير، حاكى في محبوكاته يوسف إدريس، إلاّ أنه ما لبث أن تخلص من تأثير إدريس، ونهج نهجًا مختلفًا في الكتابة، فأوتي رهافة الحس، وحدة الشعور ورقة الذوق.
وكان هشام يحضر كل ثلاثاء بعد صدور العدد وقبل "تسكين" العدد الجديد بقصصه القصيرة، لنختار منها ما ينشر، فتحول لقاء الثلاثاء إلى صداقة بيننا، استمرت طوال سنوات دراسته في "قصر العيني".
تخرج بدرجة امتياز، وبدأ يمارس ما تعلمه بتفوق، إلا أن ذلك لم يدم طويلًا، ففاجأني، ذات يوم بقرار سفره للندن لاستكمال دراسته، والعمل في عاصمة الضباب.
كانت عيادة هشام العيسوي، على رمية حجر، من مكتبي، في "مورلي هاوس"، المسافة بينهما، لا تتعدى الدقائق العشر، مشيًا على الأقدام، فكنا نلتقي بشكل يومي.. كان عذب الحديث، سريع الخاطر، لطيف المعشر، بادئ المروءة، ومن ألطف الناس خروجًا إلى حديث، في فمه يدور لسان يبين عن عقل وافر، وجواب حاضر.
روى لي ذات يوم ما لقيه من صعوبات في لندن، للحصول على درجات علمية وضعته ضمن قائمة أهم الأطباء في بريطانيا، وسمحت أن يكون له عيادة في أهم شارع طبي بالعالم.
وتعددت آفاق مواهبه العلمية، فلم يتوقف هشام العيسوي عند طب الأسنان بل تخطاه إلى التخصص في علاج الأمراض الخبيثة، وابتدع أساليب جديدة في العمليات الجراحية.
وأذكر في ما أذكر، أنه مرة لحظ وشمًا صغيرًا على أنفي، فأصر على إزالته بجراحة بسيطة، فحسب دراساته وأبحاثه فى "الاورام الخبيثة" وجد أن الخلايا السرطانية قد تتكون في مثل هذه المناطق، حاولت التملص، والهروب فالوشم خلقت به وأصبح من معالمي الشخصية، ولم أخضع في حياتي، لمبضع من قبل، وراح يبسط لي الأمر، وينزع مني ترددي، فهي ليست جراحة بالمعني المفهوم، إنما هي أسلوب جديد، مبني على التجارب، في إجراء العمليات الجراحية في الجلد، وتعتمد على التبريد تحت درجة الصفر، وسلمت أنفي للجراح الصديق، فأزال الوشم في نصف ساعة.
كان الدكتور هشام العيساوي مترامي الذكر في جميع الآذان، وبعض القلوب، كطبيب يعتد به في زراعة وتجميل وتقويم الأسنان، وأصبح طبيب المشاهير الإنجليز والمصريين، ربطته بسعاد حسني، علاقة صداقة متينة، فكان أيضا طبيبها المعالج، كما كان صديقًا للشيخ الشعراوي، يتردد على عيادته في لندن، وكذلك كان عبد القادر حاتم، وزير ثقافة الإعلام، يفعل.
وعلى قائمة مرضاه، فاتن حمامة، ماجدة، سمير صبري، عبد المنعم مدبولي، صفية المهندس، علي لطفي، رئيس الحكومة المصرية الأسبق.

كانت يسرا كل دنياه، ابنته، وصديقته، ورفيقته، فطاب نفسًا وقُرَّ عينًا بها، وهو يراها تكبر، وتمتلئ موهبة، وتشع في فن التصوير الفوتوغرافي، فكان يتباهى بها وبفنها.
وكان أن احترفت يسرا التصوير الفوتوغرافي، فقدمتها إحدى صديقاتها إلى مديرة أعمال المطربة الأميركية "بيونسيه"، وأعجبت بما رأته من إنتاج يسرا، وطلبت منها أن تكون لها وحدها، ترافقها في جولاتها حول العالم، فقبلت.

وهي في قمة نجاحها وشهرتها، تغلغل السرطان في جسم يسرا، فقاومته، وقد برحت بها الآلام، ووهن جسدها، وخارت قوة مقاومتها، فأسلمت الروح.
نعتها "بيونسيه" على صفحتها الخاصة بنشر صورتها ومعها الآية القرانية "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"، وفي حوار صحفي عبرت عن حزنها لفراق يسرا بأنها خسارة كبيرة، وأوضحت لسائليها، أنها أصرت على نشر الآية مع صورة يسرا، بعدما ترجمت لها، وفهمت معناها.
وقف هشام العيسوي، عاجزًا عن تخفيف عذابات ابنته، انغمس قلبه في حزن عميق، وتقوى على فراق "الابنة الوحيدة التي خرج بها من الدنيا"، كما كان يردد، فبعد خمسين سنة من ممارسة طب الأسنان أغلق عيادته، وانغمس في الأبحاث حول السرطان، مكرسًا وقته لمرضى ذلك المرض الخبيث، ولإيجاد ما يساعدهم على تخفيف آلامهم.
وقد أفضت به أبحاثه إلى علاج جديدة يغني عن التداوي الكيماوي، الذي عجل في موت ابنته، كما وجد في ما بعد، فقد تأكد له أن العلاج الكيميائي هو أحد أسباب انتشار المرض في الجسم، وليس محاصرته والقضاء عليه كما يعتقد بعض الأطباء، وكشف عن العديد من الأبحاث الطبية التي تبين وتثبت بأن العلاج الكيميائي يمكن أن يتسبب في انتشار المرض، ويسهم في جعله أكثر شراسة، وكان يستشهد دائمًا بدراسة توصل إليها علماء "كلية ألبرت أينشتاين للطب" في نيويورك، تؤكد أن التداوي الكيمائي يعمل على تقليص الأورام لكنه يفتح الباب لانتشارها، لذا يستخدم العيسوي في علاجه جهاز "الذبذبات الحيوية"، الذي كان ابتكره، راينهولد فول، أستاذه الألماني في طب الأسنان، وهذا الجهاز، يعمل على رصد حركة الخلايا السرطانية، ويقيس قوة الذبذبات التي تصدرها كل خلية، ويعمل على إصدار ذبذبات تمثل أضعافها ما يؤدي إلى قتلها وتفتيتها نهائيًا، وخروجها ضمن فضلات المريض.
على الرغم من انشغاله في التطبيب، والأبحاث، إلا أن هشام العيسوي لم يترك القلم، والحبر، والورق، واستمر يطور فن القصة القصيرة، وفي فترة، شغله موضوع التسامح الديني، فخاض البحث فيه وترك على أرفف المكتبة العربية أربعة كتب صدرت في إنجلترا.
ولم تبقَ الآراء التي أطلقها في تلك القضية حبرًا على ورق، فأسس جمعيته "التسامح الديني" للدفاع عن الإسلام، وتصحيح صورته في الغرب، ما جعله هدفًا لجماعة الإخوان المسلمين، فحاربوه. كما كان من الأعضاء الناشطين في مجلس "جمعية الجالية المصرية" في المملكة البريطانية المتحدة.
ارتخيت على الكرسي، من الإعياء، دارت نظراتي في أرجاء المكتب. لاحقني هشام العيسوي بنظرات مستفسرة، سحبني صوته من الغرق في الصور المتدافعة المتلاطمة في رأسي.
"هو... في إيه"؟
ترك السؤال عائمًا انكمش حس في داخلي. ظل في نفسه شيء يدفعه إلى الكلام:
"مالك، مش على عوايدك..."
جرني إلى الكلام، فأخبرته عما حدث مؤخرًا من قرارات إعلامية عشوائية، والوضع الذي لا أحسد عليه، واستفضت في شرح فكرة محترف الترجمة والخدمات الطباعية، ولكنني لا أملك ما يحقق ذلك، فإنني أصبحت كما قال والت ديزني مرة: "تستطيع أن تحلم وأن تبتكر، وتستطيع أن تخطط وتبني، ولكنك بالتأكيد لن تتمكن من تحويل الحلم إلى حقيقة بدون الآخرين".
رمقني بنظرة مطيبة، لحقت حركة رأسه بعيني:
"هذا الذي يشغلك... بسيطة بتدبر".
وترك على شفتيه ابتسامة.
عاد لي بعد أيام ليخبرني بأن شخصًا عراقيًا، كان تعرف عليه، ونشأت بينهما صداقة، سمحت للثري العراقي أن يطلب مشورته في استثمار بعض ماله في مشروع في لندن، فأطلعه العيسوي على تفاصيل مشروعي، وأنه يجده مربحًا، خصوصًا مع “غزو العرب للعاصمة البريطانية”، كما كان هشام يحب أن يصف التوافد العربي إلى المملكة المتحدة.
إلاّ أن الثري العراقي أجابه بأنه لا يحب الدخول في مشاريع "لا يفهم بها"، لكنه على استعداد أن يوفر عشرة آلاف جنية استرليني على سبيل الدين بفائدة أعلي من البنك 10% تسدد شهريًا.
وعلى الرغم من أن المبلغ لا يفي بالمطلوب، والفائدة عليه مرتفعة، فلم يكن أمامي إلا قبول العرض والبحث عن أجهزة متوافرة تقوم بالعمل، من دون طرق أبواب الشركات الكبرى المعروفة، مثل "مونوتايب" و"لينوتايب"، فأقل نظام صف ضوئي في وقتها، كان يتخطي العشرين ألف جنيه استرليني.
ورحت أفتش في خبايا صناعة آلات التنضيد في أوروبا، فعثرت على شركة Bobst "بوبست" السويسرية التي قررت استكمال خطوطها الطباعية، بتقديم جهاز تنضيد الأحرف اللاتينية، بالإضافة إلى العربية.
وتبين لي بعد التقصي أن هذه الشركة السويسرية، أوكلت توزيع منتوجاتها في بريطانيا إلى شركة "شيفرا جرافيك" ومقرها مدينة "سلاو" Slough في مقاطعة "بيركشاير" التي تبعد 20 ميلًا من غرب وسط لندن، و5 أميال من "مطار هيثرو الدولي".
فاتصلت بتلك الشركة، وضربت لي سكرتيرة قسم المبيعات موعدًا لزيارة مندوب الشركة لمكتبي، للوقوف على ما أرغب وأطلب، ولإطلاعي على أحدث آلات التنضيد، ومجال الخدمات التي تقدمها الشركة.
وانتظرت تلك الزيارة للانطلاق بمشروعي.



