في وداع المخرج الكبير جلال الشرقاوي (1934– 2022) حزن عميق، وملاحظات ضرورية عن حياته في الفن.
هذه الرحلة الطويلة التي هي عمر مديد من الإبداع المتعدد، تمثل التعبير الحقيقي عن الولع والرغبة العارمة في إعادة صياغة الواقع مرتبًا ومختلفًا من وجهة نظر إنسانية محبة للحياة والناس.
وهي حياة تحمل دروسًا مستفادة يمكن إجمال معناها ممثلًا في حضور الإرادة الإبداعية القوية.
أولًا: عندما أحب الأستاذ جلال الشرقاوي الفن وهو طفل التاسعة المنبهر بعالم المسرح والسينما، محتفظًا برغبته في الإبداع لحين إنهاء دراسته في علوم القاهرة، مدركًا أن الفن يقترن بالدراسة، فكان أن التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ثم سافر لدراسة الإخراج المسرحي في روسيا، ثم سافر لدراسة الإخراج السينمائي في فرنسا.
ثانيًا: كان الأستاذ جلال- رحمه الله رحمة واسعة- يحافظ على برنامج العمل اليومي الشاق، وكان يصنع لنفسه أهدافًا يومية يقوم عليها بكل حرص وإخلاص، وكان الهدف الأول هو مقعد الأستاذ الذي حرص عليه، وعلى القيام به على أكفأ وجه، ولذلك استحق تعبير أستاذ الأجيال، لأنه، ورغم ازدحام حياته الإبداعية بالأعمال المتعددة، وإنتاجه الغزير، إلا أن المحاضرة والطلاب ومقعد الأستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية كان هدفًا جوهريًا وميعادًا مع الإخلاص المهني لا يمكن تأجيله لأي أسباب، ولذلك وهو أستاذي الجليل الذي درس لي مادة أسس الإخراج المسرحي في عامي الأول بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليس أستاذي وحدي، ولم يكن له طالب أثير دون غيره، لأنه وبحق أستاذ للأجيال.
ثالثًا: كان الرجل داعمًا لكل الزملاء والأصدقاء والطلاب، تجد رجولة نادرة في الأوقات العصيبة، وكان حارسًا من حراس المسرح المصري، والمعهد العالي للفنون المسرحية، لا يتأخر في إبداء الرأي وإعلانه، ولا في إحقاق الحق، مدركًا جوهر وقيمة الأستاذ، ومعنى دوره المهني والتزاماته المعنوية المتصلة بالشأن العام.
رابعًا: كان رحمه الله يعرف جيدًا أنه قامة كبيرة في باقة ورد مبهج من قامات كبرى في جيله، ولذلك هو درس مهم في فكرة الجماعة الفنية لكل الأجيال، فقد كان يحرص على تقدير ومحبة جيله الذين كانوا يمارسون الاعتراف والاحترام المتبادل، ولذلك حصلوا على استحقاق الاعتراف والاحترام من الجميع.
جيل هو وحدة واحدة رغم المنافسة العنيفة بينهم، الأستاذ المخرج الكبير سعد أردش، الأستاذ المخرج الكبير كرم مطاوع، الأستاذ الشاعر والمؤلف المسرحي والمخرج المسرحي الكبير نجيب سرور، الأستاذ المخرج الكبير أحمد عبد الحليم، الأستاذ الباحث المسرحي المعلم والمخرج الكبير د. كمال عيد، أمد الله في عمره، ورحم الله الكبار الذين صنعوا للمسرح المصري دوره المهم والمؤثر.
لأنه ولأنهم كانوا يدركون أنه لا وجود مفرد لشجرة مثمرة وحيدة في حقل كبير خال من الأشجار الصديقة المثمرة، ولأنهم جيل مدرك أن الازدهار الجماعي يصنع النجاح، وأن القمة ليست لمبدع واحد، فالقمة يمكن أن تسع الجميع.
خامسًا: مارس الأستاذ الرمز المسرحي الكبير جلال الشرقاوي الإبداع كما يهوى، فقد كان ممثلًا قديرًا صاحب بصمة خاصة في أدواره المتعددة في السينما والدراما التليفزيونية وحريصًا على الدراما الإذاعية حرصا كبيرا لآخر لحظة في عمره الإبداعي المديد، وأبرز هذه الأعمال الفنية العديدة فيلم "خلي بالك من عقلك" وفيلم "الخاتم" وفيلم "موعد مع القدر"، والدراما المسلسلة "بيت الجمالية"، ومسلسل "أحلام الفجر الكاذب".
كما أنه أخرج للسينما عددًا من الأفلام، منها فيلم "العيب"، وفيلم "أرملة وتلات بنات" وفيلم "الناس إللي جوه"، وفيلم "أجمل طفل في العالم".
كما مارس الكتابة، وله كتب مهمة، منها كتاب فريد هو حصيلة تجربته الإبداعية، صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان "حياتي في الفن".
أما التعدد الإبداعي فله باب رئيسي راكم فيه الأستاذ عملًا منتظما أضحى عملًا تاريخيًا غزيرًا وكبيرًا، ألا وهو باب المسرح، فالصفة الأولى الأشهر والأهم في حياته الإبداعية هي المخرج المسرحي الكبير.
ومنها علامات بارزة، مثل "تمر حنة" للفنانة الكبيرة وردة الجزائرية، و"على الرصيف" للفنانة الكبيرة سهير البابلي، وعلامات في المسرح الشعري مثل مسرحية "الخديوي" للكاتب الكبير فاروق جويدة، بطولة الفنان الكبير محمود ياسين، وسيدة المسرح العربي سميحة أيوب.
أما عمله الإبداعي الشعبي الضاحك "مدرسة المشاغبين" فهي علامة في فن الضحك، رغم ما يحيط بها من جدل نقدي، إنه عادل إمام نجم مصر والعرب والكبير سعيد صالح، وجيل من الشباب صاروا جميعهم نجومًا لامعة.
لقد تعامل الشرقاوي مع كل الأجيال، ومع كبار النجوم من أجيال متعددة، فقد كان قادرًا على جذبهم وفهمهم وإطلاق طاقاتهم الإبداعية.
أما مسرحيته الإبداعية الفارقة، فهي العلامة الأوضح في مجموعات أعمال المسرح السياسي التي قدمها، إنها مسرحية "انقلاب" تأليف الشاعر الكبير صلاح جاهين، وألحان الملحن الكبير محمد نوح.
وفيها تجلت قدراته الإبداعية الملهمة والمختلفة، والتي تحمل طابع الابتكار الأصيل، عن طريق المزج الفني السهل الممتنع بين المسرح والسينما.
واستخدام المسرح السحري، والصياغة الغنائية الاستعراضية الجمالية، والتي تعد إضافة تجديدية للمشهد المسرحي المصري والعربي، واتصالًا بأحدث منجزات التكنولوجيا آنذاك في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، والتي لا تزال علامة فارقة لم يتجاوزها أحد في مسألة وحدة الفنون وتكاملها.
وفي هذه المسرحية إشارة واضحة لدور المنتج الفني، والمنتج الكبير جلال الشرقاوي، الذي باع ممتلكات عدة لإنتاج مسرحية "انقلاب" في مغامرة يربح فيها الفن لصالح المكاسب المالية.
كان جلال الشرقاوي قد أدرك مبكرًا، أن الإنتاج يتحكم في عمل الفنان ويستطيع منحه ومنعه، فكان أن أنشأ فرقة مسرح الفن على مسرحه الخاص في شارع رمسيس، مسرح جلال الشرقاوي، لتكتمل لديه عناصر العملية الإبداعية، ألا وهي رأس المال ودار العرض والمخرج المحترف، ولذلك عاش حرية كبرى في انتظام عمله الإبداعي المسرحي.
رحم الله المخرج الكبير والمعلم والممثل والمنتج المبدع، جلال الشرقاوي، الذي كان يعرف أن الجائزة الكبرى هي الناس، والذي عبر عن إرادتهم، مهتمًا ومتفهمًا لأحوال المصريين، حريصًا على التواصل الإبداعي الجماهيري الكبير، محترفًا في الجمع بين فنون الفرجة والفكر.
وداعا الأستاذ/ جلال الشرقاوي الرمز المسرحي المصري العربي الكبير.



