الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

الاستقطاب الحاد الذي يواجه الفنون التعبيرية المصرية وامتدادتها العربية في الآونة الأخيرة، يكاد يدخل مرحلة جديدة غامضة تهدد الاستقرار والتفاعل الإيجابي التاريخي، مع التراث الفني الإنساني، وقدرة الثقافة المصرية الفاعلة على الاستقبال والإرسال وهضم وإعادة إنتاج ما يدور في عقول ووجدانات الفنانين في كل أنحاء العالم. 

صياغات شعبوية عديدة ظهرت في حالات الاستقطاب المختلفة، ما بين الفن المسرحي الضاحك الهازل الذي يخلو من أي لحظة جمالية أو اتصال بالشأن العام وفنون التسلية التجارية التي تعتمد على ثلاثية الجنس والعدوان والثراء الفاحش، وما بين المسرح الجاد بمعناه الفني والجمالي، والفنون التعبيرية في جوهرها الإنساني، والتي أصبحت نخبوية الطابع، وغير قادرة على الربح. هذا الاستقطاب الحاد يشيع ثقافة الاتهام والخصام الحاد، والمؤامرة. 

وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح في تلك الخطة الممنهجة المتزامنة مع ضعف الإنتاج السينمائي المصري والعربي، في التركيز على قضية مستفزة للجمهور المصري والعربي، ألا وهي قضية الشذوذ الجنسي، في محاولة خطيرة لاستخدام السينما عبر الإنتاج الخارجي لتبني الحديث في هذه المسألة الشائكة. 

فبعد أن هدأت الضجة الصاخبة التي تزامنت مع إطلاق نتفليكس لفيلم أصحاب ولا أعز، تأتي مشاركة مخرج مصري الجنسية هو محمد حسن شوقي، وهو مجهول في الأوساط السينمائية المصرية، في إخراج فيلم "باشتاق لك ساعات" بذات الأسلوب، وبمشاركة فنانة مصرية هي دنيا مسعود، وإنتاج غير مصري، وتمويل دولي بعيدًا عن جهات الإنتاج والرقابة على المصنفات الفنية المصرية، بمشاركة أفراد مصريين يمنحون الفيلم طابعًا مصريًا بمجرد المشاركة واللهجة المصرية. والفيلم منتج خارج مصر بمشاركة عدة دول.

وقد تم عرض الفيلم بجنسية مخرجه في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وما وصلنا عبر الأخبار المتداولة ودعوى إسقاط الجنسية التي رفعها المحامي المصري أيمن محفوظ ضد مخرجه، لا يمكننا من مشاهدة الفيلم لفهمه وشرحه وممارسة النقد الفني تجاهه. 

وهكذا أصبح الفيلم مثارًا لهجوم أخلاقي جديد على مخرج مصري، ولا أعرف الموقف من دنيا مسعود التي لعبت دور الراوي، وهكذا أصبحت المحكمة، والمطالبات القانونية في حدها الأقصى الذي يخدم الأطراف التي تحاول صناعة الاستقطاب الحاد، الذي يخصم في نهاية الأمر من الرصيد التاريخي للفن المصري، ومن الصور الذهنية للفنانين لدى الجمهور العام، وصناعة حالة عامة من الشك والريبة. 

حقيقة الأمر أن الفنون التعبيرية وعلى رأسها فن المسرح قد عالج مثل هذه القضايا الشائكة منذ بدايته، والقضايا الإنسانية التاريخية منذ بداية المجتمعات الإنسانية مشتركة ومتجددة، خاصة فيما يتعلق بالإنسان، وهو الذي يجمع العقل والغرائز والعاطفة معا، ويعيش صراعا دائما بين غرائزه ورغباته وقيمه وأخلاقياته وأفكاره. 

المسألة تكمن إذن ليس في طرح الأفكار المتعلقة بالجنس وما إلى ذلك، المسألة تكمن في المعالجة الدرامية. الكاتب الإغريقي الأشهر سوفوكليس صاحب مسرحية أوديب ملكًا التي تُعرض في معظم عواصم العالم إلى الآن، وهي تدرس داخل فصول الدراما الكلاسيكية في كل أكاديميات العالم، تتعرض لزواج بالخطأ لغياب المعرفة بالحقائق، بين ابن تربى بعيدًا عن عائلته وبين أمه، علاقة أوديب وجوكاستا صورها سوفوكليس وقد أدت إلى حلول الطاعون بالمدينة، وكان أن فقأ أوديب عينيه وهام على وجهه رغم عدم علمه بالخطأ التاريخي. إنها عقدة قتل الأب للحصول على الأم والتي احتواها فيما بعد التحليل النفسي عند فرويد عندما حاول فهم اللاشعور الإنساني. 

ثم علاقة هاملت بأمه، وهي علاقة ملتبسة جدًا، تدور حول أم خائنة تقتل زوجها وابنها يحاول الانتقام لكن جاذبية خاصة لأمه تمنعه، لكن شكسبير يعاقب المخطئين في نهاية مسرحيته. 

وبنظرة إلى عالم معاصر، يمكن أن ننظر إلى الكاتب المسرحي الأمريكي نظرة اهتمام وتفهم لمعالجاته المتعددة لقضايا الانحلال الخلقي عند المرأة الأمريكية، فها هي بلانش دي بوا تسقط إلى مصحة الأمراض العقلية لإفراطها في الانحلال الجنسي، ولكنه يقول على لسانها في مسرحيته عربة اسمها الرغبة: 

"يا إلهي ما زال المدى بعيدا علينا حتى نخلق على صورة مثالية... لقد حقق البشر بعض النجاح منذ بدء الخليقة حتى الآن. 

لقد عرف الإنسان الفن مثل الشعر والموسيقا، كما أن أضواء جديدة قد نفذت إلى العالم منذ ذلك الحين، لقد بدأ إحساس بعض الناس يرق، وشعورهم يرهف، وهذا ما يجب علينا أن ننميه، وأن نتمسك به، وأن نتخذ منه علما نسير خلفه في هذه الطريق الطويلة المظلمة التي نسلكها إلى غاية من الغايات". 

أما في مسرحيته قطة على سطح صفيح ساخن، التي قدمتها السينما المصرية في فيلم في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين بذات الاسم، فهي تتعرض لمسألة الشذوذ الجنسي وأزمة الشخصية الدرامية "برك" حيث الانتحار والاستبعاد الذي مارسته الشخصية الدرامية "سكيبر" تجاه ضحاياها من نفس النوع. 

الفيلم قدمته السينما المصرية برهافة حس يحافظ على روح المأساة التي تفضح الكذب والرياء والتسلط الذي نراه في عالم الشذوذ، وكان الفيلم من بطولة الفنان الكبير نور الشريف والفنانة بوسي. 

ولكن لا المؤلف "تنسي وليامز" ولا الفيلم المصري قد قدما الشذوذ كعالم ملون مبهج يمكن التسامح معه. 

لقد صوروه كعالم قاس لمأساة إنسانية، تقوم على الإخفاء والأقنعة والعذاب الإنساني المفضي للانتحار. 

هذا ومسرحيات ومعالجات درامية عديدة عالجت مثل هذه القضايا، ولم يتم تلقيها بهذه القسوة لأنها كانت تعبر عن تأمل لألم الإنسان وأزمته الوجودية، عندما يكون في موقف الشذوذ عن الجماعة.  

ولأن المعالجات الإبداعية كانت تناقش القضية، والقضايا الأخرى المتعلقة بغريزة الحياة عند البشر وتجلياتها في الجنس بطريقة فنية. 

أما فيلم "باشتاق لك ساعات" فيبدو وكأنه فصل جديد من فصول الصدمات الثقافية المتعمدة والمصنوعة بقصد، وتمويل دولي خارجي وبفنانين مصريين لزيادة وحدة الصورة الذهنية السيئة عن الفن والفنانين، ولاستفزاز رجال الدين والأخلاق ورموز المجتمع وقادة الرأي، مما يثير خلافا مفتعلا مزورا، حول الجماعة المصرية، يجعلها تبدو وكأنها جماعة متشددة متصلبة وهي في حقيقة الأمر، قد تقبلت بصدر رحب المعالجات الفنية الموضوعية للعديد من القضايا الشائكة، أما القبول والتسامح والدعم والإعلان، فهو اعتداء على حرية المصريين في رفض تلك القضايا الفاسدة. 

وإنهم حقا يستحقون عقوبة التجاهل القاسية، فقط لزم التنويه ووجبت الإشارة لضرورة الحفاظ على العلاقة الثقافية الحيوية بين الفنون والثقافة ورجال الدين وقادة الرأي، والسعي بكل الطرق لإيقاف الاستقطاب الثقافي الحاد الذي هو بلا طائل والتفكير في تحسين واستعادة الصورة الذهنية الإيجابية للفن والفنانين.

تم نسخ الرابط