الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

انْكَمَشَ حِسٌّ في داخلي, وأنا أوقع على آخر رسالة من الرسائل التي أبلغت بها من تعاونوا معي, ومن كان لي معهم كلام, وأخذ ورد وعلاقات, أنه إذا كانت "روز اليوسف" قد تركت لندن, فأنا باقٍ فيها, وقدمت لهم مشروعي الجديد، "هي اللحظة إذاً"...    

 

                                                                                        هَدَرَ الصوت في داخلي.

"هوذا القرار الصعب الذي حاك القدر خيوطه وعقَدها".

 

لعبت الأفكار في رأسي، ودارت التساؤلات حيرى، مقلقة، واستحوذ عليَّ شعور مختلط: الخوف من الفشل والإصرار على تحقيق الذات والنجاح, الذي كان لي المنتهى والمبتغى.

 

كان توقي في ذلك الصباح للنجاح يغالب صبري، ويحّفزني على عدم الخوف من مواجهة أي صعوبات قد تعترض دربي، فالذي "يخاف حفيف أوراق الشجر لا يدخل الغابة". 

 

لا أذكر بالقطع من قال هذا القول, ولعله "فيودور دوستويفسكي"، تمتم الصوت في داخلي "أنا  أطرب في الخريف لحفيف أوراق الشجر". 

 

ألحت عليَّ رغبة التدخين. فتشت عن الغليون وجدته مدفوناً تحت الأوراق المبعثرة على طاولة مكتبي، رُحت أتامل دقة صنعه، جَنَّ رنين جرس الهاتف، انتشلني من أفكاري المتلاطمة استيقظت حواسي.. جاءني صوت جاريث وودورث، المدير التنفيذي لشركة Overseas Publicity على الطرف الآخر, حانيا ودوداً. ولقد كان ظهر لي من حسن معشره وخلقه وأمانته في العمل، خلال توليه وشركته تزويد مجلة "روز اليوسف" بالإعلانات الدولية، ما رغّبني به، وأدركتُ أن عنده للمودة موضع فبادلته بمثلها.

 

طوته الأشهر عني فحسبت أنه تناسى ما كان بيننا، وأن علاقتنا على الرغم من كل شيء، كانت عابرة، انتهت بانتهاء تبادل المصلحة.. فإذا بي أجده لما يزل يؤثرني بمكانة في نفسه.

 

فعندما تعاقدت Overseas Publicity مع "هيئة السياحة البريطانية" Authority  British Tourist  التي تُعرف اختصاراً BTA لترويج السياحة البريطانية في المنفسح العربي، عَرَضَ عليَّ جاريث ترجمة وتصميم إعلانات ووضع أفكار أخرى تخدم تلك الحملة المُرّكزة، لاجتذاب السياح العرب إلى بريطانيا ومنافسة إسبانيا على أثرياء الخليج الذين جاءوها بعدما  نُحِرَ لبنان من الوريد إلى الوريد، وأكلت نيران الاحتراب الداخلي "النيرونية" العبثية عاصمته، ومناطق الآثار، ومدن الاصطياف التي كانت تعج بالخليجيين، وعلى رمال شواطئه المترفة تُغزل المودات وعند العشايا في ليالي الصيف تُحكى قصص العشق.. وحتى في أشهر الشتاء، ازدهرت "السياحة الشتائية" وعمادها التزلج على الثلج في "الأرز", و"فقرا" و"عيون السيمان" و... غيرها من منتجعات التزلج التي كانت ولم تزل إلى اليوم, تضاهي في هندستها، وروعتها، وخدماتها وجمال مواقعها، منتجعات التزلج السويسرية، فكانت السياحة تشكل في لبنان 60% من صادرات السلع والخدمات المصرفية والمالية... 

 

وكانت عين "هيئة السياحة البريطانية" محمرّةً على إسبانيا التي جذبت قبلها الذين تعودوا على مناخ لبنان، الشبيه بمناخ إسبانيا, فأصبحت "ماربيا" مدينة الأثرياء الخليجيين، شُيدت في ربوعها القصور (أفخمها كان قصر الملك فهد بن عبدالعزيز), وازدهرت الصناعة الفندقية في المدن الأخرى التي تجاور "ماربيا"، وتماثلها في جمال الطبيعة.

 

لذلك, كانت الحملة تستهدف انتزاع السياح من درب الإسبان وحتى الفرنسيين، ففي تلك الفترة انتعشت قرى ومدن "الجنوب الفرنسي" Province وتمدد بعض العرب فيه.

 

والحقيقة أن الحملة الترويجية للسياحة في بريطانيا انطلقت بكثافة سنة 1969 من خلال شعار Visit Britain، وتركزت حول تطوير أنشطة السياحة والترويج، وتوسع إنشاء مراكز الخدمات الترفيهية وتنشيط أساليب الجذب السياحي، وإعادة النظر في "البروباجندا السياحية".

حاولت فيما عرضت من أفكار ترويجية وتصاميم وشعارات وخطط تسويقية أن أُكمل ما كانوا بدأوا به، ولكن بصيغة مختلفة وتوجه آخر، وفهم للعقل العربي.. ووضعت رؤيا كاملة للحملة عرضها جاريث وودورث بدوره على المتنفذين في "هيئة السياحة البريطانية", فدعيت لمناقشتها وشرحها، وبعد ساعات أربع من الاجتماع بالمسؤولين المباشرين عن الحملة الترويجية وافقوا على ما قدمت وعرضت وشرحت، وطلبوا تنفيذ كل ما ورد في خطة الحملة, وكان تفاهم بعدها على الأتعاب المادية.

ملأني الانتشاء، ومضيت بكل ما أوتيت في تنفيذ الخطة الترويجية التي وضعتها، وكانت تفضي- عدا الحملة الإعلانية التي تتركز على الثقافة والفن والطبيعة الخلابة للريف البريطاني، والأماكن المشهورة في المقاطعات البريطانية - إلى ترجمة وتصميم كتيبات تتناول النواحي السياحية، إن في لندن، أم في مقاطعتي "ويلز" و"إسكتلندا".

كما يتم إصدار مجلة سياحية شهرية باللغة العربية، توزع على خطوط الطيران الدولية، إلى جانب ترجمة و"دبلجة" أشرطة سينمائية دعائية, بعضها يُعرض في صالات السينما وفي المعارض والندوات السياحية، وبعضها يحوّل إلى "فيديو" يعرض في الطائرات.

وكان أن نجحت الحملة، وارتفع عدد السياح العرب من السعودية، وقطر، والبحرين، ودولة الإمارات بنسبة 35%.

وبلغت نفقات زوار المملكة البريطانية من الخليج العربي ما يربو على مليار ومئتي مليون دولار!

 

ونجاح تلك الحملة، وما قدمته شركتي الصغيرة الوليدة من تصاميم وأفكار لمؤسسة بعراقة وقِدَم وجدّية وأهمية "هيئة السياحة البريطانية"، جعل الوسط البريطاني الراغب في التعامل مع العرب, الذين جعلوا من لندن مربط خيلهم، يتهافت ويدّل بالأصابع عليَّ وعلى شركتي الصغيرة, التي ذهب سمعها في الناس، وراحت تنمو, وتكبر, و... تنجح.

"هنا لندن... سيداتي سادتي، نحن نذيع اليومَ من لندن، باللغة العربية، للمرة الأولى في التاريخ".

تَهَلَّلَ صوت كمال سرور،  تمدد صداه في أرجاء بيتنا، كان ذلك في مطلع يناير (كانون الثاني) سنة 1938.

حول الراديو العتيق, جلس أبي حكيم واصف، وإلى جانبه أمي, ومن يومها ما عاد أبي يسمع إلا إذاعة القسم العربي في "هيئة الإذاعة البريطانية"BBC  فقد حَلَت له, فما أعطى أذنيه للسماع لغيرها, يستمتع بجولة "حصاد اليوم الإخباري" حتى عندما علت به السن, وأنهكته الشيخوخة, ظل شغوفاً بها, وظلّت الفُضلى عنده وعند غيره, لدقة أخبارها وأمانتها وصدقها, وخلوها من الغلو و"البروباجندا السياسية," وتميز المذيعين فيها, إن في عافية اللغة وصحتها, أو في التأني بمخارج الكلام، بدأت بفترة إرسال تبلغ نصف ساعة بث يوميا, ثم إضافة فترة صباحية, ثم فترة الظهيرة, ثم أصبحت فترة الإرسال 9 ساعات ثم 12 ساعة.. ويوماً بعد يوم أصبحت  الإذاعة البريطانية, إذاعة العرب, كل العرب, يثقون بها, وبما تقدمه. 

وتلك الإذاعة يموّل المكلف البريطاني أقسامها كلها, فهي تبث بكل لغات الأرض, وبلغت ميزانيتها السنوية أكثر من خمسة مليارات جنيه استرليني.

 

سنة 1940, لما أصدرت "هيئة الإذاعة البريطانية" مجلة "المستمع العربي" نصف شهرية, اشترك أبي فيها, وكان ينتظرها بلهفة, فكنت أراه يَفُرُّ صفحاتها ويغرق في القراءة لساعات.

سنة 1959, مع بدء البث التلفزيوني غيروا اسمها, صار "هنا لندن"، وصدورها أصبح شهرياً. تُطبع في بيروت, المتوهجة, أيامذاك, كعاصمة النشر والطباعة في العالم العربي, وتوزع منها على 75 ألف قارئ مجاناً، ضمن لائحة مشتركين كان أبي بينهم, فكانت "هنا لندن" تصل بيتنا بانتظام, وفي الموعد دائماً... فأنتظر بفارغ الصبر أن يفرغ أبي من تصفحها المتمهل, حتى أخطفها منه وأتمعن في قراءتها.

كانت المجلة, إلى جانب دليل توقيت بث برامجها, مملوءة بما يُشِع, مقالات ومقتطفات تلُذني, وتفتح مداركي على أشياء كانت في هاتيك الأيام منغلقة عليَّ, في إجادات وممتعات بأقلام المتميزين من الصحفيين, والكتاب, والمفكرين, والمذيعين المبرزين, منهم حسن الكرمي, والطيب صالح, وموسي بشوتي, ومؤتمن الجزار, و نديم ناصر, ومحمد مصطفى رمضان, ونزار مؤيد العظم, ومديحة المدفعي, وليلى طنوس, وأمل حسين, وهدى الرشيد, وسامي حداد, وجورج سمعان, وماجد سرحان, وعلي أسعد ... وكتب فيها العديد من المستشرقين البريطانيين المقالات والدراسات عن العلاقات البريطانية – العربية, بل إن بعض كبار المستشرقين من أمثال آربري و برنارد لويس, قد كتب كل واحد منهما عن الجهود البريطانية في الدراسات العربية- إلاسلامية.

واشتملت المجلة بين دفتيها على العديد من الأبواب والزوايا, أبرزها "عالم الأدب", "من ثمرات المطابع", "الحديث الثقافي", "في ربوع بريطانيا" "التجارة والصناعة", "في رِكاب العلم" , "السياسة بين السائل والمجيب".

ومنذ صدورها تناوب على مسؤولية تحريرها عبر تاريخها عدة أسماء، منها جوفر حداد، خالد سمعان، نديم ناصر، مصطفي كركوتي و د. صلاح نيازي. 

لم يدُر في خلدي, لحظة واحدة أنه سيأتي اليوم الذي سأشرف فيه على تلك المجلة التي عاشت في بيتنا, ورافقتني حتى تقدمت بي السن.

ودار الزمان, والزمان دوّار, وحملني قدري للسكنى والعمل في لندن في غربة ثانية عن "المحروسة".

ألحّت علي الرغبة في دخول مبنى "بوش هاوس"Bush House , الذي كنت أسمع اسمه يتردد في الإذاعة, وهذا المبنى يضم هذه الإذاعة ومجلتها "هنا لندن", ويقع  في نهاية "كينجزواي "Kingsway  في منطقة "أولد ويتش" Aldwych , على رمية حجر من "كوفنت جاردن " Covent Garden ، المكان الذي يسحرني دائماً بقلب لندن. 

و"بوش هاوس" كان ملكاً لكنيسة "ويلز" و "شركة البريد البريطانية", فانتقلت ملكيته لشركة يابانية.

كانت زيارتي الأولي للمبني في بداية غربتي الثانية (كما أسلفت قبلاً) حيث كنت ألتقي نجوم تلك الإذاعة, الذي أسهموا في إنجاح" مكتب روزاليوسف" في لندن. 

ذات يوم, وفي قبو المبني حيث مقهى ومطعم للعاملين في الإذاعة, الذي كنت ألتقي فيه الأصدقاء من نجوم القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية, اقترب مني شاب إنجليزي نحيف القامة, يطل الذكاء والحيوية من خلف النظارات المتدلية على أنفه والتي تميز وجهه, وسمعت كلمات باللغة العربية:

" سعيدة.. إزاي الصحة, إيه الأخبار؟"

 تلفت حولي باحثا عن المتحدث.. 

وكانت مفاجأة؟!!  

 

تم نسخ الرابط