"سعيدة.. إزاي الصحة, أيه الأخبار؟" تلفت حولي باحثاً عن صوت المتحدث, لم أجد غيره.. مد يده, مال على أذني, هَمَسَ بلغة فصحى سليمة المخارج: "- كين ويتنهام, المسؤول الإعلامي للقسم العربي للإذاعة البريطانية".
سرحت على وجهه بعينين مستفسرتين, بدّد حيرتي وتعجبي. حلّق بضحكة تمادى بها حتى انتشى, وتسّرع الكلام: - " كثيرون مثلك يستغربون في الوهلة الأولى.. أنا يا سيدي تعلمت اللغة العربية فى كلية "ويستمنستر" في جامعة لندن على يد الدكتور فؤاد مجلي, المصري الجنسية, وهو أول من أدخل تدريس اللغة العربية والأدب العربي للأجانب في جامعة لندن, وكان محاضراً فى "مركز دراسات الشرق الوسط" في "جامعة أوكسفورد"، ومحرراً مشاركاً في قاموس أوكسفورد، ومن الرعيل الأول الذي اشترك في إنشاء الكنيسة القبطية فى المملكة المتحدة".
انتظر كين وينتهام أن أدغدغ شعور التباهي فيه, بقيت صامتاً, واكتفيت بهز رأسي, أكمل بتشاوف ظاهر:
- "وعندما لمس الدكتور مجلي شغفي وإصراري على دراسة العربية, ووجد أنني أتمتع بقابلية لفهم قواعدها المعقدة, أهداني مجموعة أسطوانات تعليم اللغة العربية التي وضعتها وطبعتها ووزعتها "شركة لينجويفون" Linguaphone. ولم يكتف بذلك, فكان يخصص لي ساعتين في الأسبوع ليجيب عن استفساراتي, ويصحح لي الأخطاء اللغوية, ويعّلمني النطق العربي الصحيح".
أزاح نظارته عن عينيه, مَسَحَ زجاجها بمنديل ورقي, أعاد تركيزهما على أرنبة أنفه وهو يقول:
- "أمضيت في القاهرة سنتين, تجولت فى شوارعها وحواريها, ودخلت مقاهيها الشعبية, أدرس تاريخ تلك المدينة العريقة, وأقف على تواريخ شوارعها, من "شارع المعز "و "بوابة الفتوح" و"الأزهر" إلى "الشوارع الخديوية"، ولقد تعلمت الكثير من ناسها الطيبين, أحادثهم وأسمع منهم, وكانوا يتعجبون من "الخواجة" الذي يحكي عربي, ويفهم كل كلمة يقولونها, ويرد عليها".
وَشَىَ بريق عينيه بالزَّهْوِ:
- "طوال فترة إقامتي في القاهرة, كنت أتناول الفطور من عربة الفول, ويبدأ بعدها تنقلي بين المقاهي. أحتسي الشاي في "مقهى الفيشاوي" والقهوة في "مقهى زهرة البستان", وأتردد بعدها على "مقهى الحرية", وألملم الحكايات من "مقهي أم كلثوم", ولابد من "مقهي ريش"، وعندما يأتي المساء أسهر في مسارحها".
دارت عيناه في محجريهما دورة سريعة, امتلأ بشيء من النشوة:
- في "مقهى ريش" Riche في "ميدان سليمان باشا", الذي لا يقل شيئًا عن مقاهي "شانزليزيه" الباريسية, موئل الفنانين والشعراء والأدباء, كنت أجالس شعراء منهم سيد حجاب, أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي.
ومن الكتّاب يوسف إدريس, إبراهيم منصور, يحي الطاهر عبدالله, صلاح جاهين, بهاء طاهر، ومجيد طوبيا. وكنا نتناقش, نختلف أحياناً, ونتفق أحياناً, ويحلو الكلام".
استرد نفساً عميقاً، مرّت في مخيلته ذكريات الماضي, تناثرت عباراته:
- "ما زلت أذكر عم فلفل " النادل النوبي", كان يسرع في التنقل بين الطاولات, ويسحب من جيب المريول الأبيض الناصع "نوتة" صغيرة يسجل عليها الطلبات وحسابات الزبائن.. بعض رواد المقهي من الأدباء والفنانين الشبان الذين يسددون "حين ميسرة" ولم يكن عم فلفل يعترض".
رميت على وجهه نظرة فيها شيء من الحسرة:
- "عم فلفل".. " تعيش أنت".
أرهف أذنيه لسماع باقي الكلام: "أظنك تعرف أن اسم العم فلفل, هو محمد حسن صادق.. بعد وفاته, خلّد أصحاب المقهى ذكرى الرجل الذي ائتمنوه على القليل والكثير, بوضع صورة كبيرة له فى مدخل المقهى, وتحتها عبارة واحدة: "القدوة".
أطرق كين ويتنهام رأسه حزناً على الرجل الذي عندما كان يراه يصرخ "أهلا بالخواجة". صمت هنيهات, واسترد الكلام, قال وهو يعض شفته السفلى:
- "الله يرحمه، كان يحاول أن يتحدث معي بالإنجليزية مجاملاً، وهو يقدم فنجان القهوة ". وسألني بلهفة:
- "هل تعرف شيئاً عن صاحب المقهي عبد الملك ميخائيل صليب؟"
- "تعيش أنت ... والمقهى يديره ابنه مجدي".
أحسست أن قلبه انفطر التياعا. سكت ونكس رأسه, تنهد, ثم رفعه. حاولت تغيير جو الجلسة, شعر بذلك, أعطاني كل انتباهه:
- "لا أظنك تعرف أن ذلك المقهي كان الشاهد على انطلاق أم كلثوم عندما غنّت فيه, وكان سبقها إلى ذلك صالح عبد الحي, وزكي مراد (والد ليلي ومنير مراد) ومحمد عبد الوهاب, ولا أظنك تعرف أن الست روز اليوسف قدمت على خشبته بالحديقة الخلفية إحدى مسرحياتها".
انتعشت ابتسامة على شفتيه, نما فيه الفضول إلى معرفة أكثر, أكملت:
- " من رواد المقهي الرؤساء جمال عبدالناصر، ومحمد نجيب، والسادات، قبل 23 يوليو 1952، وعُقدت فيه الجلسات الأولى لمجلس قيادة الثورة. ومن رواده كذلك الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وهناك ارتشف القهوة نجيب محفوظ, وكان يعقد ندوة إسبوعية عصر كل جمعة منذ عام 1963. وشهد المقهى ولادة الكثير من المجلات الثقافية، منها "الكاتب المصري" الذي ترأس تحريرها الدكتور طه حسين, ومجلة "الثقافة الجديدة", و"جاليري 68"، وأثناء تجديدات المقهي اُكتُشف ممراً سريا كان يستخدمه الثوار عام 1919 للهروب من قوات الاحتلال الإنجليزي، ووجدت مطبعة وبعض المنشورات".
دغدغته سعادة غامرة, انبسطت أساريره على مدى الطمأنينة. ثم فجأة, برق في ذهنه أن يحكي عن تجربته مع المسرح المصري:
- "تعرف, أنا مولع بالمسرح, وعندما كنت في القاهرة في بداية السبعينات, كانت تُقدم على خشبات العاصمة روائع المسرح، مثل "السلطان الحائر" و"علي جناح التبريزي" و"الفرافير" و" ليلي والمجنون". ولأن المسرح المصري كان متوهجًا، كلفت جريدة "تايمز" Times المستشرق دزموند ستيوارت عام 1970 لإجراء حوارات مع أدباء مصريين لملحقها الأدبي. وفعلًا التقي الدكتور لويس عوض، وعبد الرحمن الشرقاوي, وتوفيق الحكيم, وألفريد فرج, وتقفيت أنا خطوات ستيوارت, وتعرفت على أكثر الذين قابلهم".
تنحنح وأحكم قعدته, وزّع ابتسامة مقتضبة ولفتات محسوبة على الجالسين حولنا وحوالينا, سوى من وضع نظارته على أرنبة أنفه, وكمن يفتش عن ذكريات عمر مضى ومضت أيامه, قال:
- "كما تعرف, كان المسرح الكوميدي في أوج عِزه مع عادل إمام، ومحمد صبحي, لهما عندي منزلة خاصة. تعرفت على محمد صبحي في مقهى "ريش" بعد تخرجه من" المعهد العالي للفنون المسرحية". كان مع صديقه ورفيق دربه لينين الرملي، وأصبحنا أصدقاء, نخرج معًا, ونفكر سويًا. وأزور صبحي فى المعهد، وكان قد بدأ التدريس فيه, أو فى موقع التصوير حيث كان يؤدي أدوارًا فى مسلسلات تليفزيونية, وكان وقتها يعمل فى مسلسل"فرصة العمر" عن قصة كتبها زميله لينين الرملي. كان صبحي يأمل أن يترك التدريس وينصرف إلى الإخراج المسرحي بعدما أقنعه لينين الرملي بفكرة "استوديو الممثل", هو يؤلف المسرحيات وصبحي يمثل فيها ويخرجها. طرح عليّ كل من لينين ومحمد الفكرة, أبديت عدداً من الملاحظات, أخذا بها, واُطلق "استوديو الممثل" قبل سفري وعودتي إلى لندن".
انعكست على قسماته رقة نفس عذبة, وصلني صوته مليئاً بالنشوة:
- "عادل إمام, له حبة القلب, فنان على ثقافة وفهم, حر الضمير, صادق الوعد, جريئاً, ثابتاً في آرائه, وتلك كلها سر وجوده في القمة دائماً, لا منازع له ولا مناطح. كانت لي معه وقفات وجلسات، وسهر وسمر".
تَمَطًّت ابتسامة نشوانة على شفتيه, كأنه يُنَبِّشُ في ذهنه, ليوقظ الذكريات الحلوة. قال:
- " كل ليلة, طوال فترة عرضها, واظبت على مشاهدة مسرحية "مدرسة المشاغبين" المقتبسة أصلاً عن الفيلم البريطاني To Sir With Love الذي أدى الدور الرئيسي فيه سيدني بواتييه, وأطلق المغنية والممثلة LuLu, حتى أنني حفظت أجزاءً من الحوار. كان عادل متميز في أداء شخصية بهجت الأباصيري, المشاغب الكبير. الدور, كما قال لي عادل, كان من المفروض أن يؤديه سعيد صالح لكنه فضّل شخصية مرسي الزناتي. كل ليلة عند انتهاء العرض ألتقي عادل في الكواليس, وفي ليالٍ كثيرة كنت أرافقه إلى منزله".
لقاء التعارف الأول مع كين ويتنهام تمخض عن علاقة صداقة مستمرة. إنسان بسيط متواضع, كان يستخدم الدراجة في تنقلاته، على الرغم أنه من سكان مدينة برمنجهام Birmingham على مسافة 126 ميل من لندن. يغادر كل صباح منزله الذي يبعد 20 ميلاً من محطة القطار على الدراجة الهوائية, وينقل الدراجة معه في القطار إلى محطة Euston قلب لندن، ومنها بالدراجة إلى مبنى "بوش هاوس", فتستغرق رحلته اليومية ست ساعات. واظب على زيارتي في مكتبي للحصول على نسخ من "روز اليوسف" و"صباح الخير", أو إصدارات من سلسلة "الكتاب الذهبي".. فهو مُتيم بقراءة المجلتين, وما يصدر عن "دار روز اليوسف" من كتب ومطبوعات.
عندما رُقِيَ وأصبح مديراً للقسم العربي في "هيئة الإذاعة البريطانية", طلب لقائي, فدخل مكتبي مع حسن أبو العلا الذي كان يحتل مكانه أمام الميكرفون، وينطلق بالصوت الجهوري العامر بالثقة وتنبعث منه العبارة فى نبرات واضحة.
باغتني كين ويتنهام بقوله أن مجلة "هنا لندن" توقفت، فلقد بات من العسير استمرار صدورها من العاصمة اللبنانية بعد احتدام الاحتلال الداخلي, وتعرُض "المطبعة الأميركية" التي كانت تقوم بطباعتها لقذائف صاروخية حرقت وهدمت أقسام منها. فقررت الإدارة في لندن حجبها مؤقتاً, ريثما يعاد ترتيب عودتها للصدور. ثم طلب مني مُلِحاً أن أتولى الإشراف على طباعتها.
لم يمض كثير وقت على ذلك اللقاء, حتى عاد كين يطلب الاجتماع بي مجدداً, وكانت في جعبته هذه المرة, التصاميم المقترحة والأبواب الجديدة للمجلة, التي لم تختلف كثيراً عما ذكرت آنفاً.
وأصر كين ويتنهام على البدء فورًا بالإعداد الفني والتجهيزات الفنية فى محترف شركتي، غير معترض على ما عرضته وطلبته من كلفة مادية.
ونظرًا إلى إرتفاع أسعار الطباعة فى إنجلترا, وكذلك أسعار البريد, قَبِل باقتراحي بأن تطبع "هنا لندن" في القاهرة, وفي مطابع "جريدة الأهرام " تحديداً, ثم توزع بالبريد من هناك, وفي جداء الحساب, التكلفة قليلة.
وكما توقعت كان عرض الأسعار من "الأهرام" مغرياً, وحسبة البريد والشحن جاءت مناسبة, فتمت موافقة الجهات الإدارية في "هيئة الإذاعة البريطانية" على تلك الأرقام, وعلى الميزانية العامة للمجلة.. وصيغ العقد على هذا الأساس. وكُلِفت باستكمال كل الترتيبات مع "الأهرام".
سافرت إلى القاهرة ومعي الأفلام. وفي مبني "جريدة الأهرام" التجارية في "قليوب", كانت المطبعة قد جُهزت بأحدث المعدات والآلات الطباعية الألمانية الصنع, في شركتي هايدلبرج وهاريس.
تجولت في أقسام المطبعة, فهالني ما رأيت, وانبهرت مدهوشاً, فالإمكانيات التي رأيتها تُجاري مطابع الإنجليز, حتى لا أقول تتميز عنها وتتخطاها…
التقيت فتحي عبد الحميد الشرقاوي, مدير عام المطابع, الذي وعدني بتسخير أفضل الامكانيات لطباعة "هنا لندن" على أفضل شكل وأرفع مستوى, ثم استدعى حسين عبد العال, مدير الإنتاج حينها, وأوصاه خيراً بي، فسلمته أفلام المجلة لتجهيز المونتاج وتصنيع "اللوحات الطباعية" (الزنكات).
أفلام الصفحة كانت كاملة, كل واحدة تشمل العناوين والصور والنص.. قطعة واحدة لتسهيل عملية المونتاج ودقتها, وشرحت له الطريقة التي جهزت بها الأفلام.
وبعدها انصرفت مع الشرقاوي لاستكمال أوراق التعاقد, وترتيب إرسال الأفلام من لندن, وموعد الصدور الشهري, والاتفاق على التوزيع بالبريد, وتسليم قوائم المشتركين.
انتظرت الانتهاء من عملية المونتاج للملزمة الأولى ومتابعتها طباعيًا, حتى يطمئن قلبي، لكن فوجئت عند المراقبة بأن الذي اشتغل على مونتاج الصفحات قد فصل بمقصه, على حدة, جميع الصور والعناوين والنصوص, تبعًا للأسلوب المتبع فى مطبوعات "دار الأهرام".
وبالطبع استغرق تصحيح الوضع أضعاف أضعاف الوقت...
وأخيراً تم تجهيز "اللوحات الطباعية"، وتوجهنا بها لأكبر وأحدث آلة طباعة بنظام "ويب", وكانت آلة ضخمة في نهايتها مجفف لتجفيف الأحبار... تم تركيب اللوحات الطباعية, ووقفت مع المهندس عبد العال عند لوحات التحكم (كونترول) العريضة بمفاتيحها الكثيرة, التي يتحكم منها الطابع فى الأحبار والألوان, ودوزنتها وموالفتها, للحصول على الجودة في الطباعة والسرعة وأشياء أخري كثيرة مذهلة, تتيح لمن دُرِّب عليها وتمكن من فهم طريقة عملها وإدارتها, أن ينافس مطابع العالم.
ضغط الطابع على مفاتيح التشغيل, ودارت الآلة, و زادت سرعتها, وخرج منها الورق أبيض اللون ناصعاً, لم تلمسه أو تمسسه الأحبار، عاود الكرّة مرة ومثنى. استمرت محاولات "معلم الطباعة", فباءت كلها بالفشل الذريع.. كان الحل الوحيد لإنجاز طباعة العدد هو اختيار ماكينات طباعة مسطحة عليها طبّاعين محترفين. وبعد أسبوع من العذاب والقلق, ومراجعات كين ويتنهام المتواصلة, سافرت عائدًا بنسخ من "هنا لندن"، ومعها تأكد تعاقدي مع "هيئة الإذاعة البريطانية", ليكون ثاني عمل انطلقت به شركتي.



