الحرب هي المواجهة الواضحة مع الموت، وهي اللحظة التي يدرك الإنسان فيها أنه أمام حقيقة لا يدركها الشك.
إنها الموت والدمار، وهو ما يؤكد أن عالمنا المعاصر لا يعرف إلا لغة القوة.
فبعد محاولات عديدة لسنوات طوال لتعزيز دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ومحكمة العدل الدولية، وبعد مساحات واسعة من السعي نحو الحريات العامة والسياسية، والتقدم في صناعات الإبداع والفنون.
وبعد كل هذه الأعمال المسرحية والسينمائية والشعرية، وبعد كل تلك الرؤى الفلسفية والفنية والنقدية المعاصرة، يبدو العالم- وهو يرتب سلم القدرة والانتصار والنظر للمستقبل- واضعا القوة فى أول درجات سلم القيم القادرة على إدارة العالم.
تذكرت نموذج المحرك الفاعل، وهو نموذج تحليلي نقـدي من علم الدلالـة (السيميولوجي) بينما أتابع تفاصيل الحرب الروسية الأوكرانية، وهو نموذج لا يوجد داخله فاعل ولا مفعول به، فالاثنان يتبادلان المواقع والأدوار.
إذ تظل الولايات المتحدة الأمريكية- حتى الآن- هي وحلف الناتو وبالتأكيد الاتحاد الأوروبي يحاولون استخدام العقوبات الاقتصادية والتلويح بالإشارات السياسية، مثل تحرك محكمة العدل الدولية للبحث عن مبررات الحرب، ومدى صحة الاعتداء على المدنيين، إذ قالت رئيسة المحكمة جوان دونوهيو: "على روسيا أن توقف على الفور العمليات العسكرية التي بدأتها يوم 24 فبراير 2022 على أراضٍ أوكرانية، ويعتبر ذلك إجراء مؤقتًا لحين صدور الحكم النهائي في القضية، والذي قد يستغرق سنين".
هذا هو قرار المحكمة الأعلى في الأمم المتحدة، ما يعبر عن مدى تأثير القانون الدولي.
بينما يصرح الرئيس الأمريكى بايدن على تردد للإعلام، وهو يجيب عن سؤال صحفي: هل تعتبر بوتين مجرم حرب؟ أجاب: أولًا كلا، ثم أردف في نهاية الحوار، نعم.
مما دفع بوتين لاستخدام ورقة الثقافة، إذ صرح المتحدث باسم الكرملين، دميترى بيسكوف، أن الرئيس الروسى فلاديمر بوتين شخصية دولية حكيمة ومثقفة، وهذا ما يمنعه من أن يرد على التصريحات غير المقبولة للرئيس الأمريكي جوبايدن.
مما يجدد الإشارات القديمة، كما أوضحت موسكو، بأن هذا لا يصدر عن دولة ضربت مناطق عدة من دول العالم.
مما يؤكد أن تراجع حلف الناتو عن استخدام القوة المباشرة في الحرب الأوكرانية الروسية لهو إشارة لأن القوة في عالمنا المعاصر تستخدم حقا ضد الدول الأقل مقدرة على صعيد الدفاع عن النفس.
ولتفادي قطع العلاقات الدبلوماسية حرصت الخارجية الأمريكية على إيضاح تصريح بايدن بأنه تصريح شخصي، في إشارة إلى أنه حديث من القلب. يبدو حقًا أننا أمام عالم معاصر ينظر لأحاديث القلب والوجدان على أنها أمور شخصية.
وتحاول أوكرانيا أيضًا استخدام ورقة الثقافة، عبر محاولة إدماج المسارح كمناطق لا يجب ضربها في الحروب، مثلها مثل المستشفيات، ودور الأطفال، والمدارس، حاول الأوكرانيون الاحتماء في مسرح بمدينة ماريوبول، إلا أن قنبلة قوية دمرته.
يمكن اعتبار الإشارة واضحة، ذلك أن الدور الفنية لم يكن لها رمزيتها كدور للحماية والسلام بالأساس، ويا ليتها تصلح لذلك.
ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلف الناتو يأملون فى إيقاف الحرب، يبدو الدور المدهش للإدارة الأوكرانية وهي تتلقى الضربات وتلوم الغرب، وترفض الاستسلام، بينما لا يعلق بوتين على تصريح الرئيس الأوكراني بأنه لن ينضم لحلف الناتو، وفي الأسبوع الرابع من الحرب يطلب الانضمام لحلف الناتو، ليرد الحلف بأن ذلك مستحيل، ما يدخل بنا لنوع من الدراما السياسية الساخرة.
فهل في الخلف الغامض، في كواليس الدراما السياسية من يقدم أوكرانيا كضحية، وروسيا كقوة غاشمة تستحق العقاب؟
الصدمة تحيط الجميع، فكما كانت معظم التغييرات السياسية تفهم أن بوتين يلوح بالردع ولن يستخدم القوة، فإن استخدامه الطويل لها في حرب تدخل أسبوعها الرابع لهو استخدام غير متوقع أيضًا، إذ إن الردع وإنهاء التهديد الحدودي قد حقق مداه.
فماذا يريد الخاسران معًا؟ من يملك القوة المفرطة، ومن يمتلك قوة الضعف.
إن قوة الضعف التي تدير بها أوكرانيا الحرب الآن دون أن تعلن رغبتها في الاستجابة لمطالب موسكو، لهي نوع من المبالغة العاطفية لن تجدي، ولن تحقق أي مكاسب في عالم يتحدث بلغة القوة، ويمارس الإعجاب بالقوي المنتصر.
لا يملك أحد في العالم حقًا حديث البراءة الأخلاقية الثقافية في عالم السياسة الدولية.
المراكز العالمية الدينية صامتة، والمراكز المتعلقة بحقوق الإنسان، واتحادات الكتاب والفنانين.
بعض من الأصوات المتأثرة هنا وهناك تعلن عن نفسها، إذ إن حديث القوة هو الحديث الواقعي في عالمنا المعاصر.
إن أوكرانيا ليست هي الهدف النهائي لبوتين، بل الإعلان عن الدور الجديد لروسيا اليوم لاستعادة حضورها الدولي السابق قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، إلا أنه دور منزوع من الأفكار والسرديات الكبرى، والتي سقطت تمامًا أيضا في الناحية الأخرى.
وهي مسألة إن لم يدرك المتصارعون فيها خطورتها، ويتم العودة للمفاوضات السياسية فهي تشكل خطرًا حقيقيًا على مستقبل العالم، الذي لا يمكنه الاستمرار في الثرثرة عن أحاديث الشرق والغرب، والالحاد والإيمان، والاشتراكية والرأسمالية.
كما أن تلك الحرب الأخيرة هي تهديد مباشر لثقافة المدن الصناعية الكبرى التي تتعدى على الأطراف الفقيرة في العالم.
إنها تهديد للعلاقات المعاصرة التي صنعت دلالات ومعاني جديدة للطبقة والدين واللون والجنس وسيطرة رأس المال، ومحاولة السيطرة الثقافية بنموذج أحادي عالمي.
إن مسألة تحديد الهوية باتت الآن مسألة صعبة جدًا، الهوية الثقافية والمشتركات الأساسية والحديث عن الديمقراطية والحريات العامة والخاصة في ظل إعلان القوة المفرطة على قائمة القيم العالمية الإنسانية، وبينما يتبادل بوتين وبايدن الاتهامات بصفة القاتل، يبقى العالم متفرجًا غير قادر على تحديد هويته الحقيقية في هذا الصراع المرير.
هذه الحرب سوف تعزز المزيد من النزعات القوية، وهي تحتاج إلى رؤية عميقة تعيد للأمم المتحدة فاعليتها، كي لا تشجع المزيد من القوى الإقليمية والقوى الصاعدة على استخدام القوة المفرطة.
وتحتاج لاعتراف أخلاقي ثقافي تاريخي يمارس الاعتذار العملي من كل الأطراف لبلدان عديدة، مثل سوريا والعراق وفلسطين... إلخ.
يبدو هذا الحديث مثاليًا، لكنه حديث الضرورة، فما أحوج البشرية لاعتبار دور المسرح أماكن للفرار بعيدًا عن الحرب، ما أحوجنا إلى تفعيل الرمز الافتراضي للأماكن الثقافية الآمنة.
ما أحوجنا حقا لإدراك خطورة أن تصبح القوة المفرطة مصدرا للإعجاب والتقمص والتوحد.
إنه عالم معاصر يحتاج لصوت الجماعات الثقافية المتنوعة للمشاركة في إعادة توازن القوى الذي يجرى الآن، بينما تبقى خارجه المعادلات الثقافية التاريخية للقيم الإنسانية.
لا يمكن للقوة المفرطة تحقيق النصر الكامل، ولا يمكن لقوة الضعف تحقيق الكرامة الإنسانية.



