ما وضعه رياض نجيب الريس على الورق راح ينفذه، اعتمد على مكتبين رئيسين، واحد في بيروت، وثانٍ في القاهرة، وبدأ في تشكيل جهاز التحرير.
مكتب الجريدة في المحروسة استقطب عددًا من الصحفيين الشباب، في مقدمهم عماد الدين أديب، المتخرج حديثًا في كلية الإعلام في جامعة القاهرة، والمعين في جريدة "الأهرام"، فأصبح يراسل "المنار" أسبوعيًا، ومعه دفعته وزميله بالكلية عمرو عبد السميع، ابن رسام الكاريكاتور المعروف عبد السميع، الذي أسهم أيضًا برسومه، أسامة سرايا كمحرر اقتصادي، ومعهم آمال بكير التي تولت الأخبار الفنية والثقافية.
من المصريين أيضًا الذين عملوا في "المنار" الروائي والكاتب فاروق منيب، وكان بدأ حياته الصحفية مشرفًا على الصفحة الأدبية في جريدة "المساء" المصرية، ثم انتقل إلى جريدة "الجمهورية"، أسلوبه الواقعي في أعماله القصصية كان يعكس صورة الحياة في الريف المصري، فهو ابن قرية "عزبة منيب" أبو كبير- الشرقية. اعتلَّ منيب صحيًا، فترك القاهرة إلى لندن للعلاج، وتمكن من الحصول على تأمين صحي سمح له باقتناء جهاز غسيل الكلى في بيته، فتدرب على استخدامه، وخضع لنظام علاجي أسبوعي صارم. وفي فترات الراحة بين جلسات العلاج، كان يحضر- ترافقه زوجته الفاضلة "ثريا"- إلى الجريدة لتقديم مقالاته الأسبوعية.
وكان للصديق حسين قدري على صفحات "المنار" غير سبق صحفي، عبر اللقاءات والأحاديث مع نجوم في الفن والأدب والسياسة الذين كانوا يأتون إلى لندن، وهات إصبعك لنعد عليها: محمد عبد المطلب، شريفة فاضل، محمد جمال، سعاد حسني، سعاد محمد، وديع الصافي، عبد الحليم حافظ... وما مرَّ وزير أو سياسي عربي، وما حط في لندن كاتب أو روائي، إلا وكان يجلس إلى حسين قدري، و"يفضفض" كما كان يحلو له أن يصف أحاديثه وحواراته مع النجوم والسياسيين والأدباء.
وتعاون رياض نجيب الريس مع رفقاء دربه في "النهار"، وكان أولهم حافظ إبراهيم خير الله، ثم عادل مالك. ومن السعودية عثمان العمير، وكان في بدايات عهده مع القلم والورق والعمل الصحفي، متخصصا في الشؤون اليمنية، فكان يوقع ما يكتبه باسم عمر سيف، وهو اسم مستعار كان يتخفى خلفه لحساسية المادة اليمنية، فكتب العمير تحت بابه "يمانيات" بشكل يبدو أنه يرصد الأحوال اليمنية بعد اغتيال الرئيس الحمدي، على الرغم من أنه لم يزُر صنعاء بحكم عمله الأساسي في جريدة "الجزيرة" السعودية، فلم يكتب إلا من السعودية.
ومن سوريا، استعان الريس بالكاتب فاروق منجونة، الذي أثار حوله وحواليه الكثير من الأقاويل والجدل بعد زيارته "تل أبيب" مع عدد من المثقفين، وشارك في احتفال لمناسبة الذكرى الأولى لإعلان المبادئ الإسرائيلي– الفلسطيني، وقدّم نفسه أمام المسؤولين الإسرائيليين على أنه "كاتب سوري" يقيم في لندن، فما كان من على عرقة عرسان، رئيس "اتحاد الكتاب العرب" في حينه، إلا أن أصدر بيانًا أعلن فيه أن لا صلة لفاروق منجونة بالاتحاد، مؤكدا أنه لا يعتبر من الكتّاب، ولا يعبر عن أي موقف أو رأي يتصل بالكتّاب السوريين.
مع البدء في الإعداد لإصدار عدد "المنار" الأول (صدر في أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1977)، كلفت هيئة التحرير الصحفي المصري الشاب محمد الشبّة للمراجعة اللغوية للمادة التحريرية، قبل وبعد تنضيدها. كان الشبّة في بداية حياته العملية بعد تخرجه في قسم صحافة في جامعة القاهرة، ترك المحروسة مع زوجته إلى لندن بحثًا عن فرصة للعمل، بعدما توسعت هجرة الصحافة العربية إلى عاصمة الضباب.
استغل رياض نجيب الريس حماسة الصحفي الشاب للتأكد أن نصوص الجريدة على المستوى اللغوي الصحيح. إلا أن اغتراب محمد الشبّة لم يدُم طويلًا. وبعد عودته إلى القاهرة بفترة وجيزة، تسلم رئاسة تحرير مجلة "كل الناس" ثم جريدة "نَهضة مصر"، وانخرط في العمل التلفزيوني مع مجموعة قنوات MBC، فتنقل بين البرامج السياسية والاجتماعية والترفيهية، ثم قنوات التلفزيون المصري ببرنامج "ماسبيرو"، وأعدّ وقدّم أول برنامج "أحاديث"Talk Show في التلفزيون المصري، وانتقل بعدها للعمل في "دريم" و"المحور".. وأصبح من أهم الباحثين والمُعدّين الجيدين، لخلق صورة تلفزيونية متميزة ومحتوى جيد.
كان العمل اليومي في تنضيد صفحات الجريدة يستغرق منا ساعات طويلة تمتد إلى منتصف الليل، وتصل إلى ساعات الصباح الأولى.. كانت أصابع منتصر الزهار تلملم الأحرف بسرعة يحسد عليها، فهو درّب أصابعه على مواقع مفاتيح الأحرف، فكانت تكرج وتتنقل على تلك المفاتيح بسهولة، وكان زميله إبراهيم لا يقل عنه حرفة. والاثنان يبذلان جهدًا خارقًا للالتزام بالمواعيد، وكانت زوجتي تأخذ عنهما مهمة التنضيد لفترة راحة، يستأنفان بعدها عملهما المضني. وكان على إدارة وتشغيل "الفيلم سيتير"Film Setter لاستخراج بروفات "برومايد" لمحمد الشبّة لمراجعة التنضيد وتصحيح الأخطاء الطباعية إذا ما ارتكبت، والحقيقة أنها لم تكن أخطاء منتصر أو إبراهيم، إنما كانت نتاج البرنامج الإلكتروني الذي صممه المبرمج الأميركي. وللأمانة كانت الشركة السويسرية متفهمة لمشاكلنا التقنية مع أجهزة "بوبست" الجديدة، واعتبرونا شركاء معهم في تحسين تقنيات نظامهم للصف الإلكتروني، فكان مطار "هيثرو" الدولي يشهد أيام الآحاد من كل أسبوع هبوط المبرمج الأميركي بطائرته الخاصة الآتية من نيويورك، فكنت أصطحبه من المطار إلى المكتب في "ريجينت ستريت"، فأقضي اليوم معه حتى يجد حلولا لمشاكل "تشكيل الحرف العربي" والنقاط المتحركة عن أماكنها، والمسافات بين الأسطر، ونهايات الأحرف وغيرها من مشاكل الحرف العربي المعالجة بأيد لا تعرف اللغة وقواعدها وأصول كتابتها.
تكررت زيارات الخبير الأجنبي حتى نجحنا في الوصول إلى نتيجة مرضية ومقبولة.
كان العمل لإنتاج "المنار" بالإمكانيات البسيطة المتوافرة لدي مجازفة خطيرة. وعلى الرغم من ذلك، تغلبنا على المنغصات، ونجحنا بالتزامنا وبالجهد المكثف أن تصدر الجريدة بشكل منتظم. شعرت، ووافقتني زوجتي الشريكة في الشركة، أن مكتبنا في "مورلي هاوس" بات يضيق بنا وبآلاتنا، والجهاز العامل معنا، ومع تزايد عقود الترجمة والتصميم التي راحت تنهال علينا، كان لا بد من زيادة عدد جهاز العاملين، إن في التنضيد أم التصوير والتجهيزات الطباعية الأخرى، وهؤلاء يحتاجون بالضرورة إلى مكان أوسع وأرحب. فبدأنا فعليًا نفكر بترك "مورلي هاوس" إلى مكاتب أوسع وأرحب.
إلا أن وازعًا في داخلي كان يشدّني إلى التريث في اتخاذ أي خطوة مكلفة ماديًا، قد تكون متعجلة، ففشلها يعني نهاية الشركة والعودة إلى البطالة، والبدء من صفر في غربة لا ترحم.
وفضّلت انتظار أن يمضي وقت أطول على صدور "المنار"، خصوصًا أن الريس بدأ يخالف ما اتفقنا عليه حول سداد فواتير إنجاز الأعداد، وأخذ التحويل المصرفي يتأخر عددًا بعد عدد. وكنت على صواب.
كنا نتلقى المادة التحريرية صباح كل يوم اثنين، وبعد صدور العدد رقم 36 الذي كان صدر يوم السبت الأول من يوليو/ تموز سنة 1978، انتظرنا يوم الاثنين الذي يليه وصول المادة التحريرية، وانتصف النهار، ولم تصلنا أي مادة للملزمة الأولى. اتصلت بمكتب الجريدة من دون جدوى، فلا أحد رفع سماعة الهاتف وأجاب. استحوذ على القلق، عاودت الاتصال الهاتفي، مرة، ومثنى، وثلاث مرات، وكل عشر دقائق...
في الثانية بعد الظهر، أجاب وليد الحاج بأن المواد في الطريق إلينا، انتظرت المرسال الذي عادة يستخدم قطار الأنفاق Underground في مسافة لا تتعدى الدقائق العشر، وطال الانتظار.. فكان لا بد من حسم الأمر. توجهت إلى مكاتب الجريدة ودخلت مكتب الريس الذي كان مجتمعًا مع وليد الحاج وعبد الغني مروة، والصمت رابعهم، يتطلع كل منهم إلى الآخر في حيرة وارتباك، قطع الريس الصمت والوجوم بمفاجأة قاسية: "خسرت كل شيء... كل شيء، على مدار الأشهر الأخيرات واجهت متاعب ومصاعب في توزيع الجريدة في عدد من الدول العربية، وتتراكم الخسائر المالية".
أكمل بحرقة: "حاولت كثيرًا إيجاد تمويل، أو حتى بيع الجريدة لمن يسدد ديونها" - شعر بقلقي وتوجسي، وهول كلامه عليّ، فتعجّل القول: "لا تخف.. سأجد من يشتري الجريدة، وبالتالي تحصل على ما لك في ذمتي". أخذ نفسًا عميقًا وأردف: "سنتوقف عن الصدور أسابيع معدودات، هناك ممول عربي أتفاوض معه سيعيد إصدارها. وبالطبع سينتقل تعاقدك مع المالك الجديد.. فلا أريدك أن تقلق البتة". أصابتني المفاجأة بالدوار، وكأن الأرض قد انسحبت من تحت قدمي، فقدت التوجه بالكامل، لم يعد لجسمي استقرار، تملكني القلق والذعر، ارتخيت على المقعد في صمت شل تفكيري، والريس مستمر في الكلام، فما عدت أسمع ما يقوله، فالمفاجأة سدّت أذني، ارتفع وانخفض ضغط الدم في رأسي، وأصبحت غير قادر على الحركة والوقوف وغير قادر على موازنة خطواتي. حاول ثلاثتهم التخفيف عني، فقط سمعت صوتًا صادرًا من أحدهم:
"-إذا فشلت المفاوضات وتوقفنا واحتجبنا، وتوجه كل واحد فينا إلى بيته، فإن ما ندين لك به سيبقى في أعناقنا إلى يوم الدين". وذات صباح، اتصل بي رياض نجيب الريس، وقال بصوت متهدج أن مفاوضاته مع الثري العربي لم تكن موفقة، كما باءت جميع محاولاته في إيجاد مشترٍ آخر بالفشل، فكان لا بد، والحال هذه، من إطفاء "المنار" وإغلاق مكاتبها، وإنهاء الارتباط مع المتعاقدين من صحفيين، وعاملين، وموردين … ووعدني بسداد ما لي في ذمته في أقرب فرصة، شفاهة وكتابة. وبعد سنوات، أنشأ دارًا لنشر الكتب، ومكتبة سمّاها "الكشكول" في "ناتسبريدج"، وأصدر مجلة "الناقد" ثم "النقاد" بتمويل من وفيق سعيد.
أطفأ رياض نجيب الريس "المنار"، وخسرت أنا مبلغ 45 ألف جنيه استرليني قيمة الفواتير المستحقة. وكان كلما التقاني، يردد: - "أنا مش ناسي... أنا مش ناسي". ولكنه نسي



