كان المساء ميتًا، باردًا، أو هكذا بدا لي وأنا أقف خلف شباك الغرفة.
ضوء مصباح الشارع يتماوج، والنور الضئيل أغمد نصلهُ في ظهر العتمة، هو الليل، هكذا، منذ أن كُوّرت الأرض، يظن متكبرًا أنه في طغيانه قد هَزَمَ النور، فيأتي الفجر ويعود النور يهزمه.
تلاحقت تلك الأفكار في ذهني، بقيت ذاهلًا عما حولي.. هو ليل آخر من السهاد والأرق والقلق، ووجع التفكير والخوف من المجهول الذي ينتظرني في البلد الغريب.. أصبحت نهبًا لليأس والرجاء في آنٍ معًا: اليأس من الناس الذين يستغلون طيبة الآخرين، وتفانيهم وإخلاصهم في العمل، والرجاء بأن في نهاية أي نفق مظلم، ينبثق نور يضيء الدرب.
تَعَثَّر الليل في مشيته، تثاءب الوقت، دار في عقارب الساعة، بطيئًا، بليدًا، متكاسلًا.. امتلأ أنفي برائحة التبغ المحترق في الغليون، تأملت دقة صنعه، بين السحبة والأخرى. "كيف ستتدبر أمرك؟"
هتف الصوت في داخلي، وكَرَّ شريط صور أمامي لمكتب ما عاد كما كان يضج بالحركة، أصبح ساكنًا، ساكتًا، مشلولًا، لا حياة ولا حركة في أوصاله. لا تسمع "تكتكات" مفاتيح الأحرف بين أصابع المنضدين، ولا تشتم رائحة المواد التي تبتلعها آلة تظهير سلخ "برومايد"، ولا هدير آلة تصوير الصفحات، وتحويلها إلى أفلام "سلبية"، تُنظَف من الشوائب، قبل أن تعود إلى الآلة وتخرج من بطنها أفلامًا "إيجابية" تغريها الألوان، وتشتهيها المطابع.. والهاتف الذي كان يجن حنقًا من الرنين ويجننا معه على عدّ الدقائق، أصبح أخرس، وما عاد يُسمع في المكتب صوت زوجتي وشريكتي، وهي ترد: Moody Translation Center Good morning.
تسرب هواء بارد ارتعش له جسدي، تأرجحت في رأسي المسكون والمنحوت بالوجوه والحالات، أفكار كانت تحرك امتعاضي، وتحرقني على خسارتي كل شيء، وعلى وضع مصيري ومصير شركتي وعائلتي الصغيرة في المجهول، ضحايا مشروع رياض الريس، الذي تركني نهبًا للديون والدائنين.
أشحت بوجهي عن النافذة، طلع وجه أمي عليّ من العتمة، واضحًا، جميل الملامح، وعاد صوتها إلى أذني: "ربنا يا بني يرافقك في غربتك، ويديك الصحة و.. الحظ".
يومها، وهي تودعني، غدرتها دمعة، سالت على خديها الموردين.
رَفَّ قلبي. يومذاك، تفكيري "الديكارتي" المُشكك في كل شيء لم يدعني أعير أي اهتمام لكلمة "حظ". وما اعتقدت يومًا أن "الحظ" هو الذي يصنعنا ويُطرز أيامنا، إنما نحن الذين نصنع "الحظ"، كما أنطق الشاعر الفرنسي جان راسين إحدى شخصيات مسرحية "فيدرا" Phédre.
فهمت متأخرًا دعاء أمي، وأدركت كم كنت على خطأ.. فالتوفيق في الحياة لا يقوم على الذكاء، والجهد والاجتهاد، والمثابرة والإصرار.. لا غير، إنما على "الحظ" أولًا بأول.
أرخيت رأسي المثقل بالهموم على الوسادة، حاولت أن أريحه وأرتاح.. حاولت أن أنام.
رفعت سماعة الهاتف. تلوّن صوت دايفيد بيشاي بالود، ترقرقت ضحكته الأليفة، أتتني عبر الأثير حانية ودودة: "مودي، انت فين، لك مدة مختفي؟!"
فاجأني، ما توقعت أن يكون هو على الطرف الآخر، انزوى صوتي، انكمش حسٌّ غريبٌ في داخلي، غالبت تجمد الكلام على طرف لساني:
"أنت يا أستاذ أراضيك فين، أنا في الأيام دي أمر بظروف صعبة.. صعبة جدًا".
وبلعت ريقًا باردًا تجمد في حلقي، امتلأ رأسي بشيء أشبه بالحزن والغضب، وكأن دايفيد شعر به، فحاول أن يجدل الكلام، تمنّع عن الاستفسار، أطلق سعالًا حادًا: "ملعون أبو التدخين".
وثبت كلمات إلى طرف لسانه حمّلها كل رغبته:
"عايز أشوفك، عايز أشوفك ضروري".
ضرب لي موعدًا، ومن دون أن يقول أي شيء، أعطاني العنوان: Southampton Row WC1
أثار دايفيد في خاطري شجونًا وذكريات، كنت أحسب أن طواها الزمان، فطاف برأسي زمن مضى بناسه، كان وكنا في ميعة العمر، وأول أيامنا مع الحبر والورق والكتابة، ومتاعب الساسة والسياسة، وهموم البلد، وصراعات أولي الأمر حوله.
وكنا سبعة، لويس جريس، جمال كامل، حسن فؤاد، رؤوف توفيق، دايفيد بيشاي، وفريد كامل.. استوثقت بنا الألفة، وطابت لنا المؤانسة في "الأنجلو"، المقهى والبار، وملتقى رجال القول والفكر والقلم، "شلة الأنجلو" سَمونا، ولم نعترض.
أحفظ للشلة أرق الذكريات التي تبتهج نفسي أن تستعيدها. كنا نلتقي يومًا، ولا يغيب واحدنا عن جلسة الأخذ والرد، والحديث والنقاش والفضفضة، إلاّ إذا جَدَّ جدٌّ لا مناص من الإفلات منه.
كان دايفيد بيشاي وفريد كامل من زملاء لويس جريس المقربين، زمن الدراسة في "الجامعة الأمريكية". والثلاثة كانوا يشكون أقلامهم في إصدار مجلة "القافلة" Caravan التي تولى دايفيد إدارة تحريرها، على الرغم من هموم الدراسة.
وبينما اختار لويس جريس الصحافة، وسافر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته، عمل كل من دايفيد بيشاي وفريد كامل في "وكالات الأنباء"، الأول في "وكالة أسو شيتد برس" والثاني في "رويترز"، ومقر الوكالتين كان على رمية حجر من مقهى وبار "الأنجلو" في "شارع شريف باشا" في القاهرة الخديوية.
بعد فترة، ترك دايفيد "أسو شيتد برس" إلى "وكالة أنباء الشرق الأوسط" MENA المصرية التي تأسست في 15 ديسمبر 1955، وبعد أشهر عدّة من انطلاقها، قامت الحكومة المصرية بشراء 50% من رأس مالها. وفي 8 فبراير 1956 تحولت إلى وكالة رسمية. وأثناء عمله في تلك الوكالة، أحب دايفيد زميلة له تنافسه على الأخبار والكتابة، وكان حب، وزواج، وولد اسمه سمير.
و"الأنجلو" كان له ماض وحكايات تُروى. فهو كان ملتقى باشوات زمان في مصر لما كان هناك باشوات وبكوات، ومناصب وألقاب تفخيمية.. وفيه كانت تُغزل أخبار السياسة، وتحاك الدسائس والتوليفات، والتربيطات والصفقات في تشكيل الوزارات، ناهيك عن حكاوي القصور وما يدور فيها.
وفي "الأنجلو"، لكل رجل سياسة طاولة منذورة على اسمه في الزاوية التي يختارها، فهناك طاولة الباشا، ويذكرون لك اسمه بانحناءة، وهناك في الزاوية القصية طاولة فلان بك، وإلى جانبها طاولة "بك" آخر من كبارات البلد والنافذين خلف الأبواب المغلقة.
وأتباع الباشوات والبكوات لهم حظوة في "الأنجلو"، وهم وحدهم يحق لهم الجلوس على الطاولات المخصصة للباشا، ولي نعمتهم، أو البك الذي يستخدمهم.
منذ ساعة الفجرية، يلبس "الأنجلو" حِلّة المقهى، وبضاعته: قهوة، وشاي، و"كابوتشينو"، و"إكسبريسو"، وحلويات من الأنواع شتى. وبعد المغيب، يلبس "الأنجلو" حِلّة الليل والسهر، ويتبدل حاله ويتغير رواده، وتبدأ كؤوس الراح تتغندر بين الأصابع، وتنعقد حلقات السهر والسمر والنميمة، حتى يتعب الليل وينعس.
لم يغير "الأنجلو" عاداته وتقاليده، وظل محافظًا عليها إلى آخر يوم من عمره.
وكانت لنا طاولتنا نحن أيضًا، يمنع الندال أي زبون من الجلوس إليها، سمّاها هؤلاء "طاولة الجورنالجية". وللحق كان ذلك المقهى معينًا لا ينضب للجورنالجي، فهو الشاهد على العصر. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كان يرتاده الفنانون على القماش والورق، والكتّاب والصحفيون، ويضج حركة، ترتفع فيه الأصوات، وتجلجل الضحكات، وتُغزل أحاديث السياسة، وتُنمق أخبار الناس.
ومما يروى، يُحكي ويقال أن حسن فهمي رفعت باشا وكيل وزارة الداخلية، كان يذهب إلى مقهي "الأنجلو "كل صباح ليرشف فنجان القهوة، ويلتقي رجلًا اسمه "الشيخ صالح رويتر"، وهو لقب استحقه الرجل عن جدارة، فلقد كان يجمع في جعبته من الأخبار والحكايات ما ينافس بها وكالات الأنباء، في المنطقة المحيطة بالمقهى.
والشيخ صالح يلملم أخباره من أفواه العمال البسطاء، والخدم في البيوت الذين يبوحون بالأسرار، ومن عمال المقاهي، وكان يفرغ جعبته في أذن معالي وكيل الوزارة، وهو يرتشف قهوته الصباحية، وما أن ينتهي من احتساء الفنجان الثاني، حتى يكون معاليه قد جمع أخبار البلد وكل ما يدور فيه، ثم يتوجه بعدها إلى مكتبه في الوزارة في "شارع الشيخ ريحان".
"طاولة الجورنالجية" اختفى بعض من كان يجلس إليها، تزوج جمال كامل ورؤوف توفيق، فخضعا إلى "النظام العائلي الجديد"، كما كان لويس جريس يقول متندرًا، إلى أن أصبح هو الآخر خاضعًا إلى نظام سناء جميل. ويقع الخلاف بين دايفيد وأم ولده، وكان الطلاق، فطلب دايفيد الانتقال إلى مكتب الوكالة في العاصمة البريطانية، وكان له ما رغب به، فترك القاهرة ولم يعد. فريد كامل ترك المحروسة هو الآخر، ليتسلم مكتب "رويترز" في روما، وأنا سافرت إلى بيروت، لتبدأ غربتي الطويلة عن مصر. ولم يمر كثير وقت على فرط عقد "شلة الأنجلو"، حتى استملك المقهى، هُدم، وتحولت الذكريات فيه إلى تراب.
وقفت أمام الباب، وقرأت The Events. دخلت، فإذ بي أمام ردهة كبيرة مقسمة، وطابق علوي وأثاث منسق، وترتيب ظاهر وهدوء، لا يُسمع سوى رنين الهاتف، وهمهمات وكلام مهموس.
ربّت على كتفي، استدرت، تربعت على شفتي دايفيد بيشاي ابتسامة حانية، فيها شوق اللقاء:
"ازيك... يبدو أن الأقدار حاكت خيوطها، من قال إننا سنلتقي هنا في بلاد الإنجليز؟".
أخذ بيدي إلى مكتبه، بدا وجهه ودودًا، قبل أن أسأل، حطت نظراته على وجهي وقال: "أنت هنا في مجلة ناشرها سليم اللوزي"
بادرته متعجلًا: "هي إذًا "الحوادث" باللغة الإنجليزية" "مش تمام كده".
شعرت بأن التشبيه لم يعجبه، ومن دون أن يستفيض، أدركت أنه وجهاز التحرير يرفضون الشبهة والتشبيه، ويريدون أن تكون مجلة Events مستقلة، لا دخل لها بشقيقتها العربية إلا بالاسم، وهذا ما لم يقبله اللوزي، فمنذ البداية كان تدخله واضحًا، فاستدعى الزميل ريمون عطا الله، مدير تحرير "الحوادث" من بيروت، ليشرف معه على تحرير الأعداد الأربعة الأولى من المجلة الإنجليزية، فمكث ريمون في لندن أربعة أسابيع، كان يعد ويكتب مع اللوزي المواد الرئيسية للمجلة، ليتولى كل من دايفيد بيشاي وكين ويتنغهام ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، فيعيد جيم هيغز مدير التحرير صياغتها.
وسليم اللوزي، الذي كان بالكاد يفهم الإنجليزية أو يتكلمها، انكب على تعلمها على نفسه، فكانت جريدة "جارديان" التي واظب على قراءتها مليئة بالكلمات العربية إلى جانب الكلمات الإنجليزية، التي كان يفتش عن معانيها في القواميس، وتدريجيًا راح يتقن لغة شكسبير.
وسليم اللوزي، مثله مثل عدد غير قليل من اللبنانيين لم يفكر أنه سيأتي اليوم الذي سيلجأ فيه إلى بريطانيا، ويعيش فيها، إلا أن اشتداد أوار الاحتراب الداخلي، واشتداد الخناق على منطقة "المزرعة" حيث منزله، وتحولها إلى خطوط تماس، ثم استحالة ترك بيروت إلى "بعلشمي" (فوق بحمدون) حيث منزله الصيفي، جعله صاغرًا يفكر بنقل عائلته إلى لندن. فسافر إسكندر أيوب مدير "الحوادث" المالي مع اللوزي، وساعده على شراء منزل في شارع "سلون ستريت" الراقي في منطقة "تشلسي". ونقل اللوزي عائلته، وصار يقوم برحلات مكوكية بين بيروت ولندن، متى تسنى له ذلك، وسمحت الظروف الأمنية بفتح "مطار بيروت الدولي". وفي بيروت جعل مقره "كورال بيتش"، الفندق الأنيق الذي يغسل قدميه بمياه البحر.
وفي ليلة، وعلى مأدبة عشاء في منزل مهدي التاجر، سفير الإمارات العربية المتحدة لدى بلاط سان جيمس، طرح "السفير" على "الأستاذ" نشر مجلة "الحوادث" باللغة الإنجليزية، وراح يغريه ويستفيض، بأن لندن ستصبح بعد الأزمة اللبنانية الدامية، عاصمة النشر للصحف العربية، ثم إن الخليج بحاجة إلى طلّة دولية عبر مجلة تحاكي الأوروبيين بلغتهم، تكون جسر تواصل بين الخليج وأوروبا.
وتنبأ مهدي التاجر بأن "الحوادث" ستضطر عاجلًا أم آجلًا إلى ترك بيروت والهجرة، والمجلة الإنجليزية هي موطئ قدم في لندن، فمتى جدّ الجد وهاجرت "الحوادث"، تجد لها مكانًا في حضن شقيقتها الإنجليزية.
وتحققت نبوءة مهدي التاجر. اقتنع اللوزي بإصدار مجلة Events وبعد أقل من خمسة أشهر من صدورها، هاجرت "الحوادث"، وجاورت شقيقتها الإنجليزية. رفع دايفيد فنجان القهوة، احتسى حسوة، عبّ بعدها نفسًا عميقًا من سيجارة "جولواز" الفرنسية، مصّ شفته السفلى وقال:
"لقد أعلمنا سليم اللوزي أنه قرر نقل "الحوادث" إلى لندن، فمحيط مبنى المجلة في منطقة "عين الرمانة" بات خطيرًا، ثم إن أحد القناصين أصاب عامل التنضيد برصاصة في رأسه وهو خارج من المبنى، فأرداه قتيلًا... "
غالبت ذهولي، تحرقت إلى الغليون، أشعلته، رمقني بنظرة عجلى، وأردف:
"خلال البحث عن إمكانية التنضيد ومرحلة الأفلام، وتجهيزها للطباعة، طرحنا كين ويتنغهام وأنا اسمك، وأطلعنا اللوزي أنك ساعدت في تجهيز وطباعة "هنا لندن"، وثم إنك كنت وراء إنتاج وصدور جريدة "المنار".
عيناه غادرتا تفاصيل وجهي، حطهما على ورقة مهملة بين الأوراق أمامه: "ويبدو أن الأستاذ سليم سأل عنك رياض نجيب الريس، وهذا الأخير أثنى عليك وعلى تفانيك في العمل".
عاد يمسك وجهي بعينيه، تبسّم ابتسامة متخابثة، خرج صوته من حنجرته مهزوزًا:
"وهل يستطيع الأستاذ رياض أن يفعل غير ذلك وهو مدين لك... " فرك رأس سيجارة "جولواز" في صحن الرماد:
"ما علينا.. لقد طلب الأستاذ سليم أن يجتمع بك، والأغلب على الظن هو أنه يسلمك عملية إنتاج "الحوادث"، من التنضيد وإعداد الأفلام والمونتاج، بحيث تخرج المجلة من محترفك إلى المطبعة... طوالي يا بك".
تراخيت على المقعد، شعرت بالنشوة، انتعشت ابتسامة على شفتي، تمتمت بسري "كيف لا يستحلي الواحد منا مرارة قليلة تعقبها حلاوة طويلة."
صهلل الصوت في داخلي مهللًا: "لما ربّك يريد، وها قد أراد... ففُرجت".
حاولت أن أعبر له عن امتناني، غَيَّر الحديث:
"الأسبوع المقبل، سينتظرك الأستاذ سليم في منزله"، 19 Sloane Avenue وعلى ورقة صغير كتب العنوان.



