إن دولية الحدث الأكبر في العالم الآن، ألا وهو الحرب الروسية الأوكرانية، التي لا تزال مستمرة بالمخالفة لكل التوقعات التي رأت استحالة استمرارها كل تلك المدة، وسرعة الإيقاع وإلكترونية الوجود وسيطرة الاتصالات، هي العوامل التي أخفت ويلات الحرب المؤلمة، وحولتها إلى شيء خيالي يحتاج إلى من يعيد إليه واقعيته. هذه الاستعادة إلى الواقع لن تحدث إلا بمقاربة إنسانية ثقافية سياسية تستعيد النظر لهذه الويلات استعادة حقيقية، بعيدًا عن عالم الصور والأخبار والمشاهد المفزعة التي يعتاد عليها البشر في كل مكان لكثرة تداولها وانتشارها.
ولعل اتصال الرئيس الأوكراني بمصر، وطلبه الدعم من الرئيس عبد الفتاح السيسي، ربما يمكن فهمه والاستجابة له من تلك الزاوية الثقافية الإنسانية في عالم معاصر أصبحت فيه السياسة الدولية في مرحلة ما بعد السياسة، وما بعد العولمة، وما بعد المصالح والقوة، إذ تبدو الحرب الروسية الأوكرانية علامة واضحة على عمق غرابة المجتمع الدولي وعنفه وتشظيه، ولهي تعبير عن احتياج الإنسان المعاصر إلى رؤية واقعية إنسانية تعيد إليه الشعور بقسوة الألم والبؤس الإنساني في كل مكان يتعرض فيه البشر لهذا الإيذاء القوي عبر الحرب.
إننا نحتاج إلى إنقاذ مبدأ الواقع في عالم تجاوزت فيه السياسة الدولية الخيال الفني، إذ يمكن ملاحظة أن السياسة الدولية من منظور ثقافي تجاوزت الآن منطق التجاور الجغرافي والعلاقات التاريخية، ودخلت في عالم ما بعد سياسي، إلى خلط للمكان وللزمان، وجعلتنا نعيش عالمًا متناقضًا مع مبدأ الواقع، إنه عالم قاس جدًا، هو عالم خرافي من الآلات والصور والمشاهدات.
يستهدف بحساب المكاسب والخسائر اللاشيء في أحيان كثيرة بمنطق العقل والمصلحة المتزنة.
حقًا من فرط جنوح ما نراه الآن على صعيد السياسة الدولية وخياليته، كم نحتاج إلى فنون تعبيرية أكثر خيالًا وغرابة وإنسانية.
كم نحتاج إلى إدماج حسابات الأخلاق في المنجزات العلمية والإلكترونية والتقدم العسكري المذهل.
ولعل الموقف المأمول لمصر والذي يفهم التاريخ الحديث والمعاصر، عليه أن يضع في بؤرة الوعي أن مصر تفصل بين المشروع الاستعماري القديم والجديد، وبين القيم الثقافية لعالم معاصر بطريقة تجعلنا نمارس الحضور الفاعل المنطقي الذي لا يلجأ للعزلة، ولا للتماهي التام في عالم واحد.
كما أن في الملاحظة الثانية الثقافية المهمة التي تفرضها الحرب الروسية الأوكرانية، وامتداد أفقها المستقبلي، والذي لا يبدو معه بوضوح حتى الآن موعد انتهاء تلك الحرب، خاصة بعد إعلان بوتين الاتحاد الأوروبي دولًا غير صديقة، عليها أن تحصل على الغاز بالروبل الروسي، في رد على العقوبات الاقتصادية، ما يدعو إلى ضرورة إعادة تأمل ما قاله فرانسيس فوكوياما، وما أذهل به الرأي العام الثقافي والسياسي العالمي في صيف 1989، وهى فكرة أنه ومع نهاية الحرب الباردة يمكن إعلان ثقافة السوق والرأسمالية كنهاية للتاريخ.
من الملاحظ أن بوتين لا يقدم الاشتراكية والماركسية وعدالة السوق العالمي كمبرر للحرب، في محاولته لاستعادة عالم ما قبل نهاية التاريخ بتعبير فوكوياما، الذي انبهر بالقيم العالمية للرأسمالية المنتصرة من وجهة نظره، معلنًا نهاية التاريخ.
ولذلك فإن روسيا اليوم عليها أن تقدم تفسيرًا فكريًا يعالج الأحداث المعاصرة.
إنها بالتأكيد ليست الماركسية التي تقف وراء الحرب، واستعادة عالم ما قبل الحرب الباردة.
وإن كان الأمر بمثابة هزة عميقة للنظام العالمي القائم على الأفراد ذوي الهوية المتماثلة، إننا أمام صراع جديد هو صراع يمكن تسميته بصراع ما بعد الرأسمالية، وما بعد الماركسية.
إنه حقًا عالم جديد، هو عالم ما بعد الحداثة، يعيد كتابة تاريخًا جديدًا جدًا من الانفصام السياسي.
إنه الفكر التفكيكي الناتج عن فشل عالم ما بعد الحداثة في ايجاد اتساق فكري بين فكرة الإنسان المعاصر العالمي، وبين قسوة آليات السوق الدولي.
إن ما يحدث الآن في عالمنا المعاصر، هو التعبير المحسوس الواضح، هو الحقيقة العارية لذلك التناقض بين أمرين متوازيين، الأول هو الميل لعالم واحد، والثاني هو الميل للدول القومية، ما جعل الدول القوية في عالمنا ما بعد الحداثي تسعى أيضًا في اتجاهين متعارضين:
الأول هو السعي في اتجاه الاتساق الثقافي، والثاني دعم التنوع الثقافي، بما في ذلك دعم الجماعات المغايرة ثقافيًا داخل الحدود القومية للدول التي تعيش في قرية واحدة بالأساس.
إنه الحضور الواضح لذلك التناقض العالمي، والذي يجب إدراكه، ويجب النظر بجدية إلى السياسة الدولية ومستقبلها بنظرة ثقافية ذات طابع إنساني، تخفف من حدة وقسوة عالم معاصر قد أصابه تفكك مذهل وقسوة مفرطة.



